الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سهير المصادفة: روايتي مرثية لحضارتين

سهير المصادفة: روايتي مرثية لحضارتين
10 مايو 2012
تشكل تجربة الكاتبة سهير المصادفة إحدى أبرز التجارب المتميزة التي تجمع ما بين الشعر والرواية، فقد بدأت بالشعر حيث أصدرت ديوانين “هجوم وديع” و”فتاة تجرب حتفها”، لتنتقل إلى الرواية بعمل مهم هو “لهو الأبالسة”، وأخيرا “ميس إيجيبت” التي شكلت نسجا متميزا للحضور الأنثوي في تجليات عراكه مع الحياة. المصادفة أيضا باحثة ومترجمة، حصلت على الدكتوراة في الفلسفة عام 1994 من موسكو، عملت رئيسا لتحرير سلسلة كتابات جديدة بالهيئة المصرية العامة للكتاب، والمشرف العام على سلسلة الجوائز بالهيئة، وعضو اللجنة التحضيرية للنشاط الثقافي في معرض القاهرة الدولي للكتاب. نظمت العديد من الندوات والمحاور الثقافية للنشاط الثقافي المصاحب لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، وأسست جناحا لمناقشة المبدعين الجدد بعنوان إبداعات جديدة، كما شاركت في هيئة تحرير وترجمة بعض القواميس والموسوعات في مصر مثل: قاموس المسرح، موسوعة المرأة عبر العصور، دائرة المعارف الإسلامية. هنا حوار معها حول تجربتها الإبداعية: ? رغم تسييس موضوع رواية “ميس إيجيبت”، وعدم انشغالها بقضايا النوع البشري، إلا أن حساً نسوياً متواريا، وتعاطفاً ضمنياً مع الأنثى يظهر حتى على لسان الرجال، فهل التقطت روايتك من كادر نسوي؟ ? أكاد لا أوافق تماما على تصنيف الرواية بأنها ذات موضوع سياسي فـ”ميس إيجيبت” تكاد تكون بحثاً مطلقاً عن الجمال الذي يشمل بالضرورة كل أقانيم الحياة بما فيها السياسة وظروف اللحظة الاجتماعية، والحياة، والموت، والحب، والفقد، والبطش، ترى الرواية أن الهارموني بين أقانيم الحياة المتعددة وتوافر نسب معينة من العدل والخير والحرية هو ما يصنع الجمال وإذا ما اختلت منظومة هذه النسب فنحن أمام القبح بعينه وهي ترصد على سبيل المثال أن بطش العسكر وتدخلهم في أوجه الحياة المختلفة هو السبب الرئيسي في إعادة تكتل القوى المتشددة ودعوتها للعودة إلى الخلف قروناً بخطوات منتظمة، وكان تجلى صراعهما عبر عقود هو طمس ملامح جمال هذا البلد واضطراب شعبه وعدم اتفاقه على منظومة مبادئ تميزه وتنهض بروحه وتجعله يتقدم إلى الأمام. ونعم هناك انحياز ما للأنثى، ففي لحظة انهيار المجتمعات يتشبث الرجل بمكتسباته الذكورية، ويصير مثله مثل العسكري محصن بكل أسلحته التاريخية لكي يقهر المرأة سواء بالرجوع بها عنوة إلى العصور المظلمة أو قهرها هكذا ببساطة المنتصر/ المهزوم اجتماعياً لكي يتخلص من القهر الواقع عليه من مفردات يعاني منها مثل الفساد والفقر وانغلاق آفاق الحلم على المستوى الفردي والقومي. نعم أرى أن المرأة والطفل هما أضعف حلقات المجتمعات المنهارة وهما يتحملان كل آثار الانهيار المدمرة كحالتهما تماماً في الحروب. القبح والجمال ? القبح والجمال تيمة انشغلت بها عبر روايتيك الأخيرتين “لهو الأبالسة” و”ميس ايجيبت”، التي كانت بطلتها إحدى الجميلات التي قتلت في مركز تجميل، ثم يظهر قاتلها في مركز تجميل للرجال، لماذا كل هذا الاهتمام بموضوع فلسفي صار هامشياً بجوار قضايا مثل رغيف العيش، والصراع الطبقي، والإصلاح السياسي؟ ? على الرغم من أن الجمال موضوع فلسفي ولكنه في الرواية هو التجلي لكل ما تتحدث عنه.. هو مرآة رائقة لتحديد الفقر أو الثراء الظلم أو العدل، درجة تطور المجتمعات وتحققها ولحظاتها المظلمة، فإذا كانت معظم شوارع بلد ما ليست نظيفة أو جميلة فأنت تعرف على الفور درجة الفساد السياسي وإذا كانت معظم الوجوه صفراء ومريضة فأنت تعرف على الفور نسبة الفقر في هذا البلد، وإذا كان العنف بين الطوائف الدينية والطبقات الاجتماعية واضحاً للعيان فأنت على الفور تعرف إلى أي حد وصل الانهيار وإلى أي حد وصل صراع الطبقات، وإذا كان صراخ الجميع في وجه بعضهم البعض وعدم سماع رأى الآخر هو الملمح الرئيس فأنت تعرف بدون شك أن الظلم الواقع على الجميع قد بلغ أوجه، هذا الموضوع الفلسفي تحوله الرواية إلى مرآة للرؤية حيث إن الشعر الذي يمثل أحد الأعمدة الرئيسية لديَّ لم يكن ليسمح لي أن أتناول كل هذا بشكل تقريري مباشر. ? عبد الرحمن الكاشف، وعارف تاج، والحاجة كمالة، شخصيات تحمل في صفاتها وأسمائها تأويلات أقرب إلى الممارسات الصوفية، ويتفق هذا مع اعتبار الناقد غريب عسقلاني “ميس إيجيبت” رواية البحث عن اليقين، فهل أردت لها أن تكون كذلك؟ ? نعم يشغلني تماماً في رحلتي لاكتشاف ذاتي وموقعها من الكون اكتشاف معنى اليقين.. ليس في مستوياته الدنيا التي تسخر منها الرواية مثل أن يتوهم شخص ما أنه امتلك اليقين المطلق سياسياً أو دينياً مثلاً ولكن في مستواه المجرد الأعلى والذي يعتبر حتى هذه اللحظة بالنسبة لي لا نهائي.. وأعتقد أنني سأتوقف عن الكتابة بمجرد أن يهيأ لي أنني امتلكت اليقين فأنا أرى أن الكتابة الإبداعية هي رحلة الصعود إليه وليس الوقوف فوق ذروة ما/ يقين ما أيا كان والكتابة من منطلقه ولذا أحببت طوال عمري الكُتاب المنحازين إلى مطلق جمالي لا نهائي باحثين عن أسئلة الكون دون التورط في أيديولوجيات تحولها الكتابة إلى يقين ثابت. بعد من أبعاد روايتي “ميس إي جيبت” يدين من يحولون مجرد فكرة اخترعها إنسان ما إلى يقين مطلق وتطرح أسئلة من نوع” أوليس هذا ما جعل البشرية تعانى طويلاً؟ ألم تكن الكوارث التي حاقت بها نتيجة الإيمان بفكرة رجل ما؟ إن فكرة هتلر المدمرة التي تحولت في أحد الأيام إلى يقين ثابت مازالت البشرية تعاني من آثارها حتى الآن. إن الاستنكار الذي تطرحه الرواية هو: ما الذي يمنح بعض الأفكار أو حتى الآراء القابلة للمناقشة هذه القدسية ولماذا يلتف حولها أتباع غفيرة؟ إنه بحث في ظلمات النفس البشرية وبالتالي تجوال في مستويات اليقين المختلفة. عتبة الجسد ? الجنس والقهر، كانا تيمتين متلازمتين بالرواية، فهو إما كان تنفيساً عن القهر كما فعلت “لوسي” مع الغريب، أو وسيلة للقهر كما فعل الجوهري مع أحمد عواد، أو تأكيداً للقهر والعجز كما لدى تاج العريان، كل هذه التنويعات على الفعل الإيروتيكي ألا تتناقض مع الرسالة الإنسانية التي تحملها الرواية في بحثها عن الجمال؟ ? لا أظن أن الجنس يتناقض مع الجمال، وأنا أندهش تماما من فصل الجسد ووظائفه عن الجمال أو حتى الروح. فأنا لا أعرف عتبة أشد خطورة وجمالاً للروح سوى الجسد. ولا أعرف درجاً أشد وعورة لصعود الروح من الجسد. وأندهش ممن يرون أن الجسد يتصرف بمعزل عن الروح تماما، أولسنا نصلى ونصوم بهذا الجسد لكي ترتقي أرواحنا أو لم تخلق حواء لآدم من أجل أن يكتشف نفسه في احتوائها ولتكرار معجزة الخلق إلى مالا نهاية؟ ما الذي يجعل إذاً الجنس مدنساً في ثقافتنا المعاصرة؟ أمن الممكن أن توجد مثلاً روح سامية في جسد مدنس ومبتذل؟ تحضرني الآن رواية “تاييس” حين ظن بطلها الراهب أن روحه مقدسة طالما أن جسده لم يمس امرأة، ولكنه في طريقه لاكتشاف ذاته وجسده على حقيقته ينصاع لإغواء تاييس وترتقي هي بروحها، إن علاقة الروح بالجسد علاقة جدلية ليست منفصمة أبداً ولا تكون لها نهاية إلا بالموت. أرى أن الجسد يكاد يكون هو المرأة الأكثر تجلياً للروح، ولا أعتقد أن الإيروتيكية مناسبة تماماً لوصف مشاهد الجنس في الرواية ـ وإذا كانت على أية حالٍ ليست أيضاً بتهمة ـ ولكن اللغة الشعرية هنا استبعدت الإمعان في الإثارة بشكل عام. ? طرحت روايتك رؤية مغايرة ورافضة لثورة يوليو، خاصة على لسان الفلاح والد محمد العريان الذي رفض الثورة، وفدادينها الخمسة، وتعاطف مع الملك ضد العسكر، وهذا عكس الموروث التاريخي عن ترحيب الفلاحين بها، الأمر الذي أدى إلى اتهام د. رمضان بسطاويسى بإقحام إيديولوجيتك وأفكارك الخاصة على أفعال ومواقف شخوص الرواية؟ ? ولكن من أين أتى هذا الموروث التاريخي؟ أمن الصحافة التي كانت موالية آنذاك للسلطة وسجن أغلب رموزها المعارضين أم من البروباجندا المصاحبة لكل الأداءات والسياسات حينذاك؟ إن الحقيقة تائهة دائماً بين ثنيات التاريخ الرسمي الزائف.. لقد قرأت عشرات الكتب والمراجع عن هذه المرحلة واطلعت على جرائد هذا الوقت ومع ذلك لم أجد إجابة عن أسئلة كثيرة هي التي طرحتها الرواية. وعلى أية حال هذا الموروث التاريخي يمكن أن تتم مناقشته في مقالة أو كتاب تاريخي وإنما نحن بصدد عمل إبداعي يتكئ على التاريخ أحيانا ويساءله أحيانا أخرى بل له حرية محاكمته في بعض الأحيان. إن العمل الإبداعي يحاول كتابة المسكوت عنه في انحناءات التاريخ الرسمي والتي يتم إغفالها أو طمسها أو تزييفها لأسباب نعلمها جميعاً. الرواية تكتب عن حيوات شخوص وتاريخهم ورؤاهم وليست مهمومة بإعادة كتابة موروث تاريخي رسمي مشكوك في مدى صدقه. أنا أكتب هنا حكايات جدودي وأصدقائهم وجيرانهم.. أكتب الحكايات التي تتردد على سبيل المثال في قريتي.. أكتب أفكارهم وأحلامهم وليست أفكاري وأحلامي وحدي بالتأكيد أكون كاذبة إذا ما أدعيت أن رؤيتي وأفكاري بل روحي ليست متماهية مع بعض شخوص الرواية. وأعتقد أن ما فتح باب الجدل الثائر حول الرواية هو فتحي لإمكانية الاختلاف حول حلقة زمنية ما، أعتقد أيضاً أنه لن يكون سهلاً على مجتمع ظل لأكثر من نصف القرن لا يرى ما حدث إلاَّ بعيون “إنجى” و”علىً” أبطال فيلم “رد قلبي” أن يتقبل رأياً مغايراً ومستفزاً لفتح آفاق جديدة لتعدد الرؤى. على أية حال هذا ضمن لحظة جمود طويلة يعيشها الجميع فلقد غلّقت جميع الأبواب حول طرح أحلام أو رؤى مغايرة ولقد أقيمت متاريس رقابة بالغة الصعوبة بعضها للأسف من المثقفين أنفسهم وبعضها من الجموع التي ترفض أن ترى أو تناقش أية بدعة جديدة حول ما تم صياغته على أنه بديهيات، والأدب العالمي به عشرات الروايات الرائعة عن الحروب المختلفة والثورات بسبب تعدد الرؤى والأفكار وحرية التعبير مما يحقق للسرد ثراء لا محدود بينما أدت هذه البديهيات وتكريس الرأي الواحد إلى خلو المشهد الروائي لدينا من روايات كبرى تتناول مثلاً حرب 73 أو 56 أو لحظاتنا التاريخية المعاصرة المهمة، وعدا تناول نجيب محفوظ لثورة 19 برهافة، تظل روايات كثيرة سطحية ومتواضعة القيمة ولا أذكر من هذه الروايات أي شيء سوى النظرة الأحادية السائدة وربما أحببت فقط رواية “الأسرى يقيمون المتاريس” لفؤاد حجازي. نهاية مثقف ? الفيلسوف الحالم عدو الثورة والقبح والتأخر “عبد الرحمن الكاشف” لماذا منحته هذه النهاية المأساوية، ولماذا جعلت أكثر الشخوص اتساقاً مع ذاته أكثرها عدمية وسلبية؟ د عبد الرحمن الكاشف نموذج للمثقف المصري وجزء من النخبة وهو لا يستمع إليه أحد مثله مثل هذه النخبة، ولا يأخذ أحد آراءه على محمل الجد بل يسخر منه أحد الضباط مشيراً إلى جنونه، ونهايته جاءت شديدة الواقعية حيث مات وحيداً منسياً في عزلته. تلك العزلة التي فرضت على كل النخبة المصرية عبر سنوات بتهميش السلطة لهم أو تعذيبهم للخلاص من الأسئلة التي يطرحونها دائماً حول الخير والعدل والحق والجمال، لقد اعتمد الشعب المصري من وجهة نظري لأسباب تاريخية كثيرة على النخبة، ومع الأسف خذلته النخبة التي انتبه لها نظام أمني شرس عمل على إضعافها في الوقت المعاصر بمؤامرة تدجينها في السلطة أو قهرها أو ببساطة التخلص منها أو وضعها في دوائر فقر بعزلها عن جماهيرها لم تستطع الخروج منها بعد ومن ثم بدا عبد الرحمن الكاشف وكأنه عدمي أو سلبي. ? تزاحم التابوهات “الدين والجنس والسياسة”، التصوف، الحديث عن نهاية حضارة العرب وتفوق الغرب، والإمعان في جلد الذات، كلها تيمات تغازل الترجمة، فهل قصدت ذلك، وكيف تواجهين تلك الاتهامات؟ ? أنا حقاً لا أعرف عماذا أكتب إذا لم يكن عن الدين والسياسة والجنس. إن ما يُسمى بالتابوهات الثلاثة هو محور الوجود وهو سؤال الكون الأكبر.. ببساطة هو الكتابة. وإذا ما اخترنا أبسط حكايات البشرية شريطة أن تتوافر فيها مقومات الحكاية فستجدها تكاد لا تخلو من الدين أو السياسة أو الجنس. أيضاً أنا لا أعرف عمَّاذا أكتب إذا تجاوزت مأزقي الحضاري والوجودي. وإذا لم أكتب عن مشاعري إزاء غروب مفردات تفوقي ومساهمتي في مسيرة البشرية، عمَّاذا أكتب إذا لم أصف كل هذا الخراب؟ أنا عربية أنارت حضارتها ذات يوم ظلمات أوروبا وعليّ أن أعيش مظاهر أفولها الآن! أنا ابنة حضارة فرعونية كانت مهد الحضارات ذات يوم لم يتبق منها شيئاً إلا آثار استثنائية نشاهدها بدهشة وننتظر أن يفك شفرتها الحضارية الأغراب، عمَّاذا أكتب في رأيك حتى لا أغازل الترجمة ـ تلك التهمة الموجهة لجميع الروائيين ـ أعن جسدي؟! أعمَّا أعرف؟ أنا على أية حال أضحك عندما استمع إلى هاتين الدعوتين، فالكتابة عن الجسد تستدعي معرفته وأعتقد أن كل مَنْ كتبوا عن الجسد لا يعرفونه فالجسد شديد التعقيد وهو جزء من منظومة كونية تستدعي معرفته معرفة كل شيء في هذا الكون. وهل أكتب عمَّا أعرف فقط؟ وإذا كنت لا أعرف كثيراً وأتوق إلى ابتلاع بحار المعرفة فلماذا أصدع الآخرين بكتاب عن حياتي التافهة معرفياً؟. أعتقد أن مغازلة الترجمة تهمة مضحكة، فأنا نفسي مترجمة، وأعرف كيف يتم ترجمة الأعمال من اللغة العربية إلى لغات أخرى، وأعرف الوسائل والقنوات وأنا بعيدة عنها تماماً، لأنني كما أقول دائماً أتمنى أن يقرأ أعمالي مليون عربي من الملايين التي تعيش في نحو عشرين دولة أولاً. ? الشعر والفلسفة سمات تجلت بوضوح عبر روايتك، خاصة في المقاطع التي تصدرت فصول الرواية، هل كان ذلك اعتذاراً للشعر وهل ستنحازين للسرد الروائي على حساب الشعر؟ أيضاً ما الوظيفة التي أردتها لهذه المقاطع؟ ? دائماً ما أردد أن الكتاب الذي يخلو من الشعر حتى ولو كان مجموعة مقالات فهو لا يعول عليه كثيراً، فالشعر هو العصا السحرية التي تضيء جنبات العمل الإبداعي أياً كان جنسه، وهو لم يكن اعتذارا للشعر بقدر ما كان عموداً مهماً في الروايتين استند إليه هاربة من جنون العالم وقبحه الذي استطاع السرد حمل تفاصيله، ونحن على أية حال وطوال إرثنا الأدبي لم تخل حكاياتنا ونوادرنا بل كتب تاريخنا المهمة من الاستدلال بالشعر وبالحكمة وبالأغاني، لقد كانت وظيفة المقاطع في “لهو الأبالسة” والتي كانت عشرة مقاطع تمثيل حكاية موازية ولكن شعراً، أما في “ميس إيجيبت” فقد مثلت مداخلاً رئيسية للفصول وكانت بالفعل وكأنها بمثابة اعتذار قصير عن قسوة ودموية الأحداث وجنون العنف الذي انتشر في الرواية. وأنا لا أستطيع تحديد إلى ماذا سأنحاز، فمازلت أكتب الشعر والرواية طوال الوقت ولكنني لن أنشر أبداً إلا ما أطمئن له تماماً، أنا أراهن على نشر نص جميل يستطيع الصمود على أرفف المكتبة العربية التي أنتبه تمام الانتباه أنها ألقت بالكثير من النصوص الركيكة طوال القرون الفائتة، مازلت أحاول على أية حال ولم ينته مشواري الإبداعي بعد . أما الفلسفة فلا أتصور أنه يمكن لعمل روائي النهوض بدونها لأنها ببساطة تفسير رؤى الكون المتعددة، وهى البناء العلوي لجميع ظواهر الحياة، وهى أخيراً العين التي يرى بها العقل الحياة والمجتمع والكون بوجه عام. الخيال والواقع ? “نفرت”، “إيجيبت”، “أبو الهول”، نثارات خفية بالرواية تحاول التأكيد على فرعونية مصر أكثر من عربيتها، خاصة مع التأكيد على نهاية حضارة العرب، هل حضرت تلك المعتقدات فعلاً عند كتابة الرواية؟ لا أظنها صدفة؟. ? أنا ابنة حضارتين، أردد هنا مقولة نجيب محفوظ فإذا كانت الحضارة العربية حديثة الانهيار فالحضارة الفرعونية قد انهارت بالفعل منذ زمن طويل. تأتي على لسان أحد أبطال الرواية “دكتور عبد الرحمن” فكرة انتقال الحضارات زمانياً ومكانياً وأظنني معه ومعها، فلم تشهد البشرية كما نعلم حضارة عاشت إلى أبد الآبدين، الحضارة لها عمر افتراضي ودورة حياة.. ميلاد وفتوة وشيخوخة ثم موت، والرواية هي مرثية للحضارتين على السواء ولكن ليس هذا فقط وإنما هي دعوة لضرورة الاعتراف بذلك حتى نتمكن من بناء مفردات حضارة جديدة، بدون هذا الاعتراف أعتقد أننا لن نتمكن من الخروج من النفق المعتم. لن يفيدنا مثلاً التبجح بأننا أهم أمة وخير أمة ولندع الغرب يخترع ويعمل في خدمتنا ونستهلك نحن فقط، ولن يفيدنا كثيراً الاتكاء على ما حققنا منذ آلاف السنين بدون على الأقل قراءته قراءة صحيحة، ولن يفيدنا مثلاً ادعاء أن لهم الدنيا ولنا الآخرة فالدنيا حتى على المستوى اللاهوتي هي التي تحدد شكل الآخرة، ولن يفيدنا أبداً عدم الاعتراف بأخطائنا التاريخية بل استمرار الدفاع عنها دون أن نتعلم شيئاً. ? قلت في حوار سابق إن “نفرت جاد” شخصية حقيقية قابلتها في كوافير سيدات، ما هي حدود الواقعي والمتخيل في روايتك؟ ? عندما سألت فتاة جميلة عمرها ثمانية عشر عاماً في كوافير سيدات بالهرم عن اسمها، أخبرتني ببساطة إن اسمها “نفرت”، أصابني الذهول وابتلعت سؤالي من أين أتت بهذا الاسم ومن أطلقه عليها. هذه هي حدود الواقع. ثم اختفت هي واختفى الجميع وتحول المكان على الفور إلى مسرح للأحداث التي كانت تطاردني في تلك الأيام، ثم تساءلت إذا كان الواقع جريئاً إلى هذا الحد في تسمية أحد عاملات كوافير باسم ملكة مصرية تقريباً مندثر، فلماذا لا أسمي بطلتي في الرواية “نفرت”.. كانت “نفرت” الحقيقية بمثابة إلهام. أما الرواية نفسها فأنا بالفعل لا أستطيع تحديد الخيال فيها من الواقع. بالنسبة لي هذا واقع ما جرى حتى ولو لم يتم اغتيال أية مرشحة لمسابقة ملكة جمال، حتى وإذا كان لم يوجد على الأرض أبداً “تاج العريان” أو “محمد العريان” أو “عبد الرحمن الكاشف” أو “لوسي”، فأنا أتفق كثيراً مع فيرجينيا وولف بأنه كل ما كُتب قد حدث بالفعل وهو حقيقي، وأتذكر هنا إحدى الحكايات الخرافية التي ترجمتها لـ “بوشكين” بعنوان “الديك الذهبي الصغير” والتي يعترف الشاعر العظيم في نهايتها بأن حكايته “خيال في خيال”. ورددت أنا بعده حينئذ من فرط إعجابي بالحكاية: لشد ما هو واقعي خيالك! بالنسبة لي إذا ما كتب الخيال فقد أصبح واقعاً. بإمكانك إذاً قول أن الرواية واقعية لأن هذا سيسعدني جداً ويرضي على كل حال غرور خيالي. لدينا نكات كثيرة وضحك أقل.. هذا النص من رواية “مس إيجيبت” لسهير المصادفة: يعلم أنه لم يمت بعد، وأن هذه الحشرجة ليست مصاحبة لخروج روحه من جسده، وأن تخلخل منظومة الهواء حول رأسه ليست رفرفة أجنحة عزرائيل، وأن من يحملقون فى عينيه المفتوحتين منتظرين أن يشهدوا نهايته ليسوا ملائكة أو شياطين وإنما هم ورثته الذين سيستمتعون بما تركه وسيطالعون كل يوم شروق الشمس وغروبها ومذاق النبيذ الفرنسي الفاخر، وصدور الدجاج المشوي في الهواء الطلق، ورائحة البحر في شهر أغسطس، وملمس اليود على الجلد البرونزي، ورعشة لمس يد الحبيبة واستنشاق رائحتها، وصفع الابن على مكان تقبيله، والحملقة فى البدر المستدير ومتابعة اكتماله واختفائه، والسخرية من الأغبياء ومنافسة الأذكياء والتنكيل بالأنبياء، واختراع مهام جديدة كل يوم، وقيادة أوركسترا يصمم أعضاؤها دائماً على العزف النشاز. (...) لم يمت بعد، وأمام عينيه تتناثر نيران مدفعية ثقيلة لم يعد يعلم هل كان يهاجم بها قصراً ما أم ثكنة عسكرية ما.. تهاجم أنفه رائحة أزهار برية من تلك التى تلقى أمام المقابر فينوح مثل جندي مجهول يقف وحده في العراء ويلطمه الهواء الساخن على كل جزء من أجزاء جسده المعدني. يعلم أنه لم يمت بعد وأن هذا الأنف المعقوف لصديق ابنه الذي يعذبه من آن لآخر.. يستمع إلى صدى صوته هو العميق آتياً من عمق نصف قرن: ـ ياافندم أنا أفهم أن الاقطاعيين وخدمهم يتحسرون على أيام ما قبل الثورة، ولكنني لا أفهم لماذا يتحسر عليها الحفاة الجرابيع من جموع الشعب؟ لا يتذكر من هذا الذي كان يخاطبه بيا افندم آنذاك، ولكنه يعلم الآن أن هذا الصوت الحلو الواضح النبرات ليس صوته وأنه لم يعد لديه صوت ما كي يميز به.. وبعد يا “باشا”.. وبعد هل كانت هناك استحالة في القضاء على الظلم الاجتماعي البين والفساد السياسي والإداري تدريجياً بدون أن تضعوا البلاد وبهذا العنف على أول عتبات درج جديد؟ كنا نتنسم هواء حرية آنذاك أنقى بكثير مما يجثم على أجوائنا الآن.. كانت البلاد (حامل) بثورة حقيقية أتت بحزب يديرها رغم أنف الملك، وكان الاستعمار يحزم حقائبه ويستعد للجلاء على أية حال من الأحوال، وكانت القاهرة من أجمل مدن الدنيا وكنا أكثر نظافة ورقياً.. ماذا نفعل الآن يا “باشا” ونحن لدينا عشرات المفكرين وليس لدينا طه حسين واحد.. لدينا مئات الوعاظ يتربعون في الفضائيات وليس لدينا محمد عبده واحد.. لدينا عشرات المطربات وليس لدينا أم كلثوم واحدة.. لدينا ملايين الدارسين بالمجان ومتعلمون أقل.. لدينا وسائل راحة كثيرة ووقت أقل مما يجعلنا لا نلحق بأي شيء.. لدينا فاترينات بها ما لا نستطيع إحصاءه ولا شيء في مخازن مصانعنا الخاوية على عروشها.. لدينا نكات كثيرة وضحك أقل.. لدينا أحزاب كثيرة ووجهات نظر أضيق.. لدينا كتابة كثيرة وكتب أقل.. لدينا ملايين العبوات من معطرات الهواء ورائحة عفننا أفدح.. لدينا قتلة وجلادون يزيدون عن حاجتنا ولذا يبحثون في الخارج عن جثث أكثر.. لدينا أطنان من المناديل الورقية للاستعمال مرة واحدة وفي مآقينا دموع أقل.. لدينا نقود كثيرة ونحن أفقر.. لدينا صحار شاسعة وتأملات تافهة.. لدينا حواسيب كبيرة عليها معلومات منذ بدء التاريخ حتى الآن وذاكرة أنضب.. لدينا في خزائننا شعر كثير وعلى آذاننا تراكم عبر السنين صمغ أكثر.. نقوم بجهد كبير ونحصد نجاحا أقل.. نهذي في الجرائد والبرامج والمساجد والكنائس من الصباح إلى الصباح ولا شيء يتبقى مما نقول.. لدينا ليل طويل ونهارات أقصر.. نفتح الظلام على آخره ونضرب كتلة في بعضها البعض حتى تتوالد شرارة ما ولكنها تذوي سريعاً فور اشتعالها.. نصلي أكثر ونصوم أكثر ونزكي أكثر ونحج لبيت الله كل عام وخراب أرواحنا يزداد أكثر.. لدينا...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©