السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ترانيم القلب.. والقلم

ترانيم القلب.. والقلم
10 مايو 2012
أحدث ما صدر للكاتب والقاص الاماراتي حارب خميس الظاهري هذا العام، كتاب بعنوان “ترانيم القلب”، وهو سلسلة مقالات أدبية في 200 صفحة عن منشورات وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع واتحاد كتاب وأدباء الامارات، ويوثق الظاهري من خلال 86 مقالة ذكرياته حول المدن والناس وطبيعة الحياة والانسان بشكل عام، كما يناقش من خلال هذه الموضوعات جملة من القضايا الأدبية والفكرية والقضايا التي تهم المجتمع. وأول ما يلفت الانتباه في هذا الكتاب هو طريقة تصنيف وتبويب المواضيع التي كان قد نشرها في وقت سابق في اطار سردي ذات صلة بايقاع القصة القصيرة تحت عناوين فرعية، بدأها بباب “ترانيم المدن” وتضمن 10 مقالات، وباب “ترانيم السفر” ويضم 14 موضوعا، وباب “ترانيم الحياة” وفيه 15 فكرة شاملة حول جدلية الحياة وسؤال الذات، وباب “ترانيم الروح” وفيه 23 موضوعا، وأخيرا باب “ترانيم الذاكرة” ويتضمن 24 فكرة انسانية. يمتاز الكاتب في رصده للقضايا التي طرحها بشفافية عالية وبخاصة حينما يصور الضعف الانساني مستخدما المعاني الباطنية المزدوجة والمركبة المعنى ذات الصلة بالمشاعر المتداخلة ما بين الذاتي والعام، فعندما يتحدث عن فكرة الحوار الحضاري، فهو يمزج بأسلوبية التقابل البارعة وفضاء الذاكرة ما بين حكاية واقعية وسؤال الثقافة المحيّر من خلال مقالة حملت عنوان “اللحن الثقافي” تحدث فيها عن لقائه بنادل تونسي مثقف يعمل في أحد المطاعم بمدينة الحمامات التونسية ويقول: “قبل أعوام مضت كتبت عن نادل تونسي أدهشني بما يمتلكه من ثقافة رصينة لا تتوافر عند كثير من أنماط البشر المختلفة، فما تلمسته منه ليس مثقفا فحسب، بل روح المبدع تختزل جسده الضئيل! طاف الحوار بنا زهاء الساعة، فالمطعم على مشارف قلعة شامخة لمدينة الحمامات. رائحة الفل التونسي تشاغب الباعة الاطفال، يخالط عطرها مربكا حديثنا! كنا في قبضة “ديستوفيسكي” أثناء إنطلاقه من سجن سيبيريا شاخصا بقربنا حين صال وجال مشبعا بالمواقف”. ذاكرة نافذة ما بين السطور يشي بأن الظاهري يملك ذاكرة نافذة، كما يملك فضاء شاسعا ومتخيلا يبدو واضحا حتى في لحظات التكثيف والاقتصاد في استخاد المفردة وتشكيل الصورة الفنية التي تتشكل أحيانا من خلال إنطباعية تبدع وهي تصور هوية المكان، ولهذا فان معظم ابواب الكتاب نسجت حكايات عديدة عن مدن وأمكنة ما زالت عالقة بذهن الكاتب وبخاصة المكان ذات الخصوصية المحلية مثل ما كتبه عن أبوظبي وواحة النخيل في مدينة العين وحارة السوق وفلج الصاروج وحارة باور هاوس وجلفار في رأس الخيمة، وفي جملة هذه التناولات تجد عنصر التشخيص باديا واضحا، كما تبدو العبارات الفلسفية عن العلاقة الجدلية بين الحب والحياة وبين الارض والمكان والانسان. نقتبس بعض ما كتبه عن واحة النخيل بالعين: “خلعت النخل رداء جدرانها القديمة وبدت أجمل حين أخذت تستوحي ذاتها من صيت الماضي، وحين تسكب على تراثها متعة لا تضاهى، واحة النخل بمدينة العين ليست سوى ضرب من الدهشة والانبهار ولمعالمها رغبة التمتع بذلك الصفو الجميل، كم ستبدو للسياحة خاصية أكبر لو يلفها الاهتمام ويتقنها الحرص الشديد على الموروث”. وتحت عنوان “نهضة ممتعة” يتحدث الكاتب عن العاصمة أبوظبي، فيرى أنها رمز لشغف التحدي وحكايات الايام وظباؤها عربية المنبت، تستوحي من تراثها وثبة وانطلاقة جميلة، وعباراتها رسالة للأمان، تزدهر كمدينة مشرقة ما بين المدى وسحر الشمس على ضفاف بحر الخليج العربي. يقول الظاهري عن مدينة السلام والمحبة والتمازج الحضاري والانساني: “أبوظبي مدينة تكمن فيها الحكمة والاتزان ما بين المضمون الثقافي القادم والبعد الحضاري المتأصل، نهضة الخير على أرض لا تعرف الخمول ولا الاكتفاء، فلا تعرف سوى النهضة المثابرة من جديد”. رؤية المثقف للانسان وثقافته وطبيعة حياته تتشكل من خلال جملة المقالات التي أوردها الكاتب تحت باب ترانيم السفر، إنه في الواقع يسجل تجربة الانسان وظروفه وتحدياته مع عوالم مخيفة، كما يسجل حارب الظاهري رؤيته العميقة للمدن التي زارها ليس فقط ضمن إطار أدب الرحلات والأسفار وإنما في إطار الادب الانساني الشامل، إنه يكشف في بعض أحاديثه لحظة التّعري لبعض المدن والساسة والشخصيات في مزيج يكشف عن تجربة الانسان المعاصر وهو يعيش اختلالات العولمة والقوانين الميكانيكية التي تدوس أحلامه دون رحمة. كتب تحت عنوان “لبنان” بقوله: “اذا ليس لبنان الحكاية القديمة، ولا تلك الجميلة التي أعرفها منذ القدم، لتلك الطفولة وللقراءة التي تثير شغبها على شبابيك الزمن المخيف! عزف آخر ما بين الوجه ورسم شهية الحرية ومدى آخر للحياة، بصوت الضفاف الندية تتجلى رغبة الانهار نحو الدفء، وخصوصية البحر يكسوه العشق الأبدي، إنحناءات المساءات الناعمة على الجبال! لبنان ملاذ الجبال ومخمل الاحياء رغم الانكسار والخوف”. حواف رومانسية لا تخلو مقالات هذا الكتاب من حواف الرومانسية وأناقة الحديث عن نصف الدنيا ـ المرأة، فهو يتحدث عن الحب المتطرف حد الجنون، كما يتحدث عن المرأة المناضلة المكافحة من أجل إثبات الذات، وللحب عند الظاهري طعم ولون ورائحة مختلفة بل وعالم خاص ممتلئ بالأحلام والأماكن التي كان يرتد اليها كلما ألمت به الظروف، وقد رصد لجمال اللحظة وعشق الهوى عديد المقالات منها: عطر إمرأة، العشق والحزن، وإزار الهنديات الحمر وهو كتاب جميل لخوان خوسيه، كما كتب عن المرأة الاستثناء من خلال حوار تراتبي مع الروائي المصري أحمد ماضي بقوله: “ذات مرة وصلتني رسالة عذبة رقيقة من صديقي الروائي المصري الجميل أحمد ماضي، وقد كتب لي بعد أن أتم قراءة مجموعتي الشعرية “قبلة على خد القمر” و”شمس شفتيك”: يا صديقي تذوب حبا وولها ورومانسية، لست نزار قباني ولست كامل الشناوي، ولكنك تقف بالمنطقة العذراء بينهما”. في موضوعة عطر إمرأة، يبدو الظاهري عاشقا من الطراز الاول، إنه يكتب ويصف ويسرد نوعا من الحب الهادئ، وعنده تتحول الكلمات والمفردات الى قلوب عذرية وعطور وغيمات تغازل في الفضاء وأرواح تهيم بفكرة الانتظار، وحينما يكتب في هذا الباب فانه لا يتورع عن استثمار تناص نابع من لوعة القلب حتى تبدو الحبيبة مثل شخوص الروايات ويقول: “تتشكلين الآن من روح الفجر، ملأ عشقك القلب، تتوسمك الفصول والحكايات القديمة، دثري ملاءة العشق بمعطف السحب، ولا توقظي مدى الدمع المتشرد كالانهار الملتوية بين الدروب، أذاب هواءها نسمات النسيان، حين ترحلت الأيام عنها، كم شقّت على النفس الاحلام”. في الواقع هذا الكتاب بتنوع مقالاته وتشعب مواضيعه يدفعك لقراءته أكثر من مرة، لأنك كلما قرأته كلما إكتشفت فيه المزيد من المزايا والافكار والرؤى العميقة للكاتب الذي يستفيد كثيرا من أسلوبه الادبي ككاتب قصة، ومشتغل في الحياة الثقافية، وغالبا ما تجد في نصوصه طاقة جميلة من الانفعال حيال عديد القضايا التي يناقشها بحرفية عالية، فهو حينما يتحدث عن القصة في الامارات، يصبح في موقع المشرّح والباحث والناقد في دقائق وتفاصيل مسيرة الكتابة بوجه عام، يقول الظاهري: “فما تعمله بعض المؤسسات من اصدارات عشوائية تخطو في اتجاه هدفها، وكأن المطلوب هو الاصدار فقط وليس المحتوى، فلم لا يستأثر مشروع النشر بالطرح المتقن عبر مجموعات قصصية سنوية مشتركة؟ في أمريكا هناك إصدار سنوي جامع لكافة كتّاب القصة، يطرح ما هو جميل ونوعي بالمسار القصصي، فمنه تبرز الصفوة ولا تندثر البقية، بل تبدأ طرحها من جديد، متجددة في معالمها وتجاربها”. الحديث عن الشخصية في الكتاب حديث له خصوصيته، فهو يتحدث بقالب فني رفيع عن والده والراوي حارب هاشل النيادي والكاتب العماني سليمان المعمري والشاعرة الهندية كمالا ثريا بمقالة تحت عنوان “يا الله ثريا”: “المولودة في 31 مارس 1934 وعاشت في كنف أدبي ثقافي، والدها مدير تحرير صحيفة يومية تصدر بعنوان “ماتر بهومي” ووالدتها “يالامني أما” وهي شاعرة عريقة”. يقدم الظاهري الشاعرة الهندية للقراء في ثوب أدبي جميل يكشف عن اسرار حياتها وابداعها وتقديمها كنموذج للابداع النسائي ورؤيتها شديدة الخصوصية للحياة، كما يقدمها نموذجا فريدا لمن يعتنق الاسلام عن قناعة بعد أن قامت بذلك عام 1999، حتى أطلق عليها لقب الشاعرة العاشقة كما لو تعشق من قبل، فالعشق الالهي دائما لا يكتفي بتفاصيل الحياة يقول عنها: “وبعد إعتناقها الاسلام إتخذت لنفسها اسم “ثريا” حيث اختزل الماضي عنها اسم “كمالا”، شرعت في كتابات قصصية وصحفية وروايات باللغتين الميلامية والانجليزية حتى تجاوزت شهرتها حدود الهند، ورغم أنها لم تكمل تعليمها الجامعي الا انها استاذة زائرة لكثير من الجامعات العالمية”. مقالات الظاهري في هذا الكتاب البديع لا تخلو من النقد الطريف والنقد الموضوعي اللاذع للحياة الثقافية، فعن حالة الشعر في الامارات مثلا يكتب تحت مظلة باب “ترانيم الروح” فيقول: “الخطاب الشعري الاماراتي، كما يرى كثيرون، فقد بعضا من الخصوصية المحلية بشكل واضح، فأخذت تظهر فيه مفردات غريبة وغير معروفة في الموروث الشعري المحلي ولا في منهجيته، ومن هنا يفتقد الشعر المحلي لدارسين يجتهدون كل في تخصصه للخروج بدراسات معمقة وليس بتجميع شائع للدراسات! فالدراسات الحقيقية من شأنها أن تعيد للشعر بسمته”. وفي سياق الطرافة الادبية لا يغفل الظاهري الكتابة عن الحمار في الأدب كما ورد في مقالته، وهنا يتناول كتابا للدبلوماسي صالح الغفيلي، الذي تحدث بدوره عن الحمار كمخلوق تحت المجهر لينبئ بحقائقه وعلاقته بالبشر، أما طرائفه وحياته “الاجتماعية” والتاريخية فتحدث عنها الكتاب باسهاب، ويوليها المؤلف اهتماما نابعا من المعرفة التامة لهذا المخلوق فيقول إن ما نعت به الحمار من صفات هو إما تجنّ أو من فرط حب الانسان وانتمائه اليه عبر العصور. من الصور الجميلة التي شكلها الكاتب ضمن عشرات الصور المتدفقة البديعة التي رسمها في مقالاته وركز فيها على صورة الوطن والانسان والذاكرة الجمعية كنقظة التقاء بين الماضي والحاضر، وربما تكون مقالته بعنوان “يا بحر” من أجمل ما كتبه عن سيرة الماضي ممثلة في مفردة البحر ويقول: “ظللت وفيا يا بحر لا تؤرقك حكايات المسافر ولا يظللك رحى النسيان، لربما لا يعود البحار من الغياب، ولربما أخذته قصة حالمة بحضور أبدي، أو زهقت أحلامه على أديم زرقتك الهادرة، أو حفظ البحار مجددا عين لا تنام أو حفظ وعود الايام”. حارب الظاهري الذي أصدر: مندلين 1997، وقبلة على خد القمر 1999، وشمس شفتيك 2000، ونبض الروح 2004 وليل الدمى 2007، وزهز أمام القلق، هو كاتب أصيل، ولعله يستمد اصالته من لغته ومن رؤيته المحلية الخالصة للقضايا التي يتناولها برصانة وعمق ورؤية المثقف المتجذر في أرضه وموروثه، وان كان في جوانب من كتاباته لا يملك سوى الحلم للتعبير عن الراهن الضبابي الا انه يملك لحظة الاستكشاف الضرورية لأي كاتب معاصر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©