الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

طبيبات وراء خطوط النار .. كيف انتصر الجنس الناعم على القذائف والآلام في ساحات القتال العربية ؟!

طبيبات وراء خطوط النار .. كيف انتصر الجنس الناعم على القذائف والآلام في ساحات القتال العربية ؟!
25 سبتمبر 2016 18:22
تحقيق - أحمد النجار 18 شهراً قلّبنا خلالها أوراق كتابٍ لم يطبع بعد، بطلاته 7 نواعم غالبن شراسة الرصاص ورعونة القنابل، وبين فصوله تبدو حكاياتهن البطولية لتصف ملاحم صارعت المنايا فهزمتها، ورفعت راية الإنسان وسط غبار المعارك، هنا وعلى امتداد خارطة الألم في دول الشرق الأوسط من اليمن وسوريا، إلى العراق وفلسطين، مروراً بالأردن ولبنان، تتبرعم إرادة ذوات المعاطف البيضاء، تسطر بطولات طبيبات لا تكسرها أشد الحروب شراسة. على جبهات الصراع، رصدت «الاتحاد» شهادات حيّة لطبيبات عايشن خطر الموت ورعب القصف اليومي والدمار الشامل الذي قبر الآلاف من الأحياء تحت الركام، وشهدن قصص ألم لأطفال ونساء وشيوخ، وفجعن بحالات تشوهات وملامح محروقة بالكامل، وأجساد فقدت أعضاءها بسبب قذائف وشظايا، وانطفأت بين أيديهن أرواح مصابين وضحايا بالجملة نتيجة مطحنة الحروب والنزاعات التي التهمت الأخضر واليابس. اليمـــن روضة وآمنة على خط النار: نواجه الحرب بالورود من أجل السلام قلم وكاميرا ومعطف طبيبة، ثلاثية تأبى الانكسار أمام سطوة الحرب في مدن اليمن الذي كان سعيداً.. كتب تحقيقه بالحبر وختمه بالدم في مستشفى الحوبان بتعز اليمنية، حاول بعدسته توثيق ضحايا الحرب من شيوخ وأطفال ونساء، لإيصال صوت آهاتهم إلى منظمات حقوق الإنسان حول العالم، وفي أثناء خروجه من بوابة المستشفى، رصدته عين قناصة فاصطادته برصاصة استقرت في صدره، فسقط مغدوراً، لتنطفئ أنفاسه الأخيرة، فلم يجد غير السماء دثاراً، والرصيف لحافاً ليغفو عليه إلى الأبد، سقط صديقي محمد السامعي وهو يتأبط كاميرته وأوراقه المضرجة بالدماء. بعد شهرين من اغتياله، بدأت رحلة الـ 18 شهراً لأعايش يوميات طبيبات يمارسن مهنتهن على خطوط النار، انطلقت براً من دبي عبر عُمان وصولاً إلى عدن، ثم توجهت إلى صنعاء التي أقطنها لأطمئن على أحوال أسرتي، ثم بعد أيام قصدت مدينة تعز التي كانت تعيش أبشع سيناريوهات الموت تحت أمطار القصف والقنص الذي يستهدف البشر والحجر والشجر دونما شفقة ولا هدف. دخلنا المدينة المكلومة تحت جنح الظلام، وقد تحولت إلى مأتم كبير، تقيم كل يوم عزاءها الأسود، وتزف أنينها ونحيبها المر الذي بلغ أقسى درجات العنف وأعلى مراتب القهر الإنساني، توزع ولائم الألم يومياً على أهلها الطيبين الذين نهشهم الفقر، فخذلتهم أجسادهم وأمعاؤهم في الطريق، وبعضهم نسيّ أشلاءه منتشرة في زوايا الشوارع الملتهبة، وبعضهم لقيّ حتفه قبل أن يتداركه خيط وضمادة لرتق جروحه التي تشكلت بنزفها وصمة عارٍ في ضمير الإنسانية. كانت رائحة الجثث المتفحمة تزكم الأنوف حين دلفنا إلى مستشفى الحوبان الذي أريق على عتبة بابه دم صديقي الصحفي محمد السامعي، ومن غرفة إلى أخرى وبين الممرات، كنت أرى ابتسامته تضيء كل وجه شوهته قذيفة، وكل جسد عبث به قصف صاروخي. وبينما كانت الصرخات تتعالى والأنين يسكن الجدران، وأرواح الجرحى تتشبث بالحياة، وحين التقيت صدفة لأول مرة روضة حكمي وآمنة عياش في قسم التغذية بمستشفى الأمومة والطفولة بتعز اليمنية، ولدت لديّ فكرة مطاردة تفاصيل مأساة تتوزع على خارطة بلداننا العربية الموجوعة بالنزاعات والفتن، روضة وآمنة ممرضتان نذرتا حياتهما استجابة لنداء الوطن والإنسانية، وعلمت منهما بعد استماعي إلى قصتهما، بأنهما خاطرتا بحياتهما من أجل الانضمام إلى منظمة «أطباء بلا حدود». وتسرد روضة فصول معاناتها مع زميلتها آمنة، فتقول: «نحن صديقتان منذ الطفولة، تعاهدنا ألا يفرقنا شيء في الحياة، وقررنا أن نوقف صوت الحرب بصمودنا، ونتحدى الرصاص بضمادة، ونواجه شلال الدم بالورود، لعلنا نسهم في إنقاذ حياة مصابين من نساء وأطفال وضحايا من أبناء بلدنا الذي يعيش الفقر والقهر ويكابد الظلام، ويفتقر إلى أبسط مقومات الحياة بسبب وحشية الحرب، واحتدام لهيب النزاعات المسلحة». مشوار ملغوم تقاوم روضة دمعة على وشك أن تسقط، ثم تتابع بحرقة «كنا ندرك جيداً معنى أن تسافر فتاتان بمفردهما في مجتمع قبلي صارم في عاداته وتقاليده، ويرفض بشدة خروج المرأة بمفردها، لكننا بالنهاية نجحنا في إقناع أهالينا بصعوبة، ثم غادرنا مقر إقامتنا في زبيد بمحافظة الحديدة. وكنََّا نعلم أن مشوار الطريق إلى تعز ملغوم بنقاط تفتيش يتخفى خلفها لصوص ومسلحون مرتزقة وعصابات وقُطّاع سبيل، كنّا كلما اقتربنا من نقطة نحبس أنفاسنا، ونكاد لا نصدق كيف نجونا من الاختطاف بأعجوبة كلما عبرنا حاجزاً وخطر الألغام التي قد تنفجر برهة، ناهيك عن قذائف الكاتيوشا الطائشة التي توزع الموت مجاناً على المارة والعابرين». تتسع حدقتاها، وهي تستحضر معاناة الطريق إلى تعز، وتقول: «شاهدنا أحد الجسور ينهار أمامنا بفعل قذائف المدفعية، مخلفاً حوله كومة من ركام يصعب تجاوزها، فيحاول سائقنا تغيير مساره دون فائدة، وإذ بنا ننحدر في وادٍ سحيق أكثر خطورة ووعورة، وهنا تخلى عنّا السائق، فعاد من حيث أتى، لم ينته سيناريو الرعب هنا، واضطررنا للمشي ليلاً لساعات دون أن نجد سيارة بعد تقطعت بنا السبل، وبعد مسيرة نصف يوم وصلنا في حالة يرثى لها، واستأجرنا فندقاً تعيساً لكنه على الأقل كان آمناً. كانت تلك أصعب رحلة في حياتنا»، تقاطعها آمنة وتلتقط الحديث: «خلال توجهنا إلى مدينة تعز، كنا نرى الموت أمام أعيننا، لكننا لم نأبه، فقد كانت غايتنا أن نصل مهما كلفنا الأمر، لكي نؤدي عملاً إنسانياً بتقديم رعاية لمصابين وجرحى في مستشفى الأمومة والطفولة التابع لمنظمة أطباء بلا حدود، ونسطر موقفاً شجاعاً للمرأة اليمنية في إنقاذ الأطفال والنساء من أبناء بلدنا الذين يواجهون أصناف الموت في جبهات النزاع المسلّح». لحظات الخطر تطلق آمنة تنهيدة طويلة، وهي تتذكر لحظات الخطر التي حبست أنفاسها في منطقة الحصار، فتقول: «جئنا من منطقة بعيدة عن تعز، وهي أول مرة نغترب فيها عن أهلنا في زبيد «الحديدة»، لم تكن عائلاتنا معترضة على فكرة سفرنا للعمل بقدر ما كانوا خائفين علينا بحكم أن زبيد منطقة هادئة نسبياً، بينما كانت تعز تئن تحت القصف اليومي والمعارك الشرسة، لكننا أقنعناهم بأن عملنا هذا واجب إنساني تجاه أهالينا. وأن مهنة التمريض تتطلب العمل في أوقات الطوارئ والتنقل إلى المناطق الملتهبة فوافقوا أخيراً». وعن تحديات التأقلم ومرارة الاغتراب، تجيب آمنة مبتسمة: «لسنا نساء حديديات، فقد عانينا صعوبة التكيف مع الوضع، لكننا اعتدنا الغياب عن أهلنا، وبعد شهرين تأقلمنا مع طبيعة الحياة من بداية عملنا بعيداً عن الديار، صحيح أننا مهددات بالقصف في أي لحظة، لكننا لن نتزحزح من مكاننا، سنصمد هنا، ولن نعود قبل أن تتوقف مكائن الحرب عن زراعة الموت في أرجاء وطننا الحبيب»، والحديث هنا بلسان آمنة. وتفسر روضة قبولها تحدي الخطر في مناطق النزاعات المسلحة بقولها: «أنا مستعدة أن أضحي بحياتي ليحيا أبناء بلدي في سلام، وأسعى لإثبات وجودي كامرأة فاعلة في المجتمع، وفخورة بتقديم تضحياتي من خلال رعاية الأطفال المصابين والتخفيف عن آلام النساء والجرحى». وتظهر آمنة بدورها نفس الحماسة، قائلة: «أتيت من قرية بعيدة لأقدم عملاً إنسانياً، وقد تحملت مشقة الطريق وخاطرت بحياتي لأمنح الحياة للأطفال والأبرياء من ضحايا الصراع والنزاع، وسأظل صامدة أمام كل الصعوبات والمخاطر، وسأواجه الحرب بوردة لكي يعيش بلدي بسلام». العراق شاهدت مجازر حيّة كأنها مقاطع من أفلام الرعب تركنا اليمن ينزف وملائكة الرحمة تقاتل وحش المنية بالورود، أما في العراق فبطلة قصتنا التي كانت في انتظارنا، اقتلعت النبتة الشيطانية التي اتفق العالم على تسميتها بـ «داعش»، وباتت تقض مضجعه في كل حدب وصوب، بداية الحكاية ترويها آسيا إلياس بلسانها: «بعد دخول «داعش» إلى قريتي، هربت برفقة أسرتي سيراً على الأقدام عبر الجبال، وظللت عالقة مع أشقائي الثلاثة، لأيام دونما طعام أو دواء، ثم توجهت شمالاً نحو معبر فيشخابور، وشهدت خلال هروبي الكثير من المجازر والدماء التي حطمت نفسيتي، فلم تبدأ حكايتي بعد، فقد عشت أكبر فجيعة في حياتي حين أسر التنظيم أعزّ صديقاتي أمام عينيّ. وأتذكر تلك المشاهد وكأنها كابوس». هكذا تسترسل العراقية آسيا إلياس في سرد قصتها كطبيبة منقذة نذرت نفسها لمواجهة الموت على خط النار، مشيرةً خلال اتصال حيّ معها على «سكايب»، إلى أنها ذاقت تحديات عصيبة بعد اقتحام تنظيم «داعش» مدينتها، وهنا انقطع التواصل مع عائلتها وغابت أخبارهم بشكل مريب، وبعد أشهر طويلة من الحيرة والبحث والسؤال، جاءتها البشرى السعيدة بأن عائلتها سالمة بعد أن هربت عبر تركيا متوجهة إلى ألمانيا حيث تقيم بأمان. ولدت آسيا بمحافظة نينوى، ولا تزال تعمل حالياً ممرضة بداخل عيادة متنقلة تابعة لمنظمة أطباء بلا حدود في منطقة زمار، حيث بقيت صامدة مع شقيقها جلال الذي استطاع الفرار من قبضة التنظيم، لتعثر عليه لاحقاً، وهو بالمناسبة الذي أقنعها الانضمام إلى المنظمة. ويعمل حالياً معها في منظمة في منطقة سنجار في كردستان العراق. وتعيش آسيا مع جلال في خيمة تقع في أحد مخيمات النازحين في دهوك، ويؤديان عملهما في منطقة قريبة من مناطق سيطرة «داعش». آسيا شخصية غاية في اللطف، هذا ما لمسته خلال حديثنا الذي استمر نحو ساعتين عبر خدمة «سكايب»، وحين سألتها عن رحلة هروبها من تنظيم «داعش»، قالت: «رأيت تنظيم «داعش» من بعيد حين اقتحم منطقتنا، وسارعنا إلى الهروب إلى الجبل رغم سيل النيران الذي كان يتصيد سيارتنا، فقد شعرنا يومها بأننا على شفير الموت، وازددت ذعراً حين رأيت جثثاً وقتلى كانوا يتساقطون أمامي، حينذاك فكرت بعائلتي وإخواني الثلاثة الذي كانوا عالقين في الجبل، فأصبت بانهيار عصبي، لا سيما حين شاهدت عصابة «داعش» يخطفون أعزّ صديقاتي أمامي، ولا يزال مصيرها مجهولاً حتى اليوم، ونتيجة ذلك فقدت وعيي ودخلت المستشفى فور وصولي إلى منطقة دهوك، وتلقيت فيها علاجاً وحقناً بالسوائل الوريدية، ثم تدهورت حالتي نفسياً وعصبياً، وبدأت أفقد شهيتي نتيجة استذكار صدمات وأحداث مروعة رافقت هروبي من سنجار إلى أعالي الجبال». ورغم ما شهدته من فجائع ومخاطر لم تفكر آسيا بالهروب خارج بلدها، فقد عزمت على تأدية دورها الإنساني بنجدة المستغيثين من أبناء بلدها وما جاورها، فلا يزال صوت صديقتها، وهي تستغيث ماثلاً في مخيلتها، لذلك فضلت البقاء لعلّها تسمع أخباراً تطمئنها عن مصير رفيقة طفولتها. قررت آسيا أن تنسى كل شيء، وتواجه مصيرها وتتحدى الظروف، تقول: «الحياة يجب ألا تتوقف عند مأساتي، ويجب أن أكافح لأعيش بأمان، وذلك ما جعلني أنضم إلى منظمة أطباء بلا حدود لتأدية واجبي الإنساني تجاه أبناء مجتمعي الذي يحتاجون لأبسط أنواع العناية والرعاية والعلاج». لا تخفي آسيا حجم التحديات التي واجهتها أمام مسلسل القتل اليومي ومنظر الإصابات وبشاعة الحالات المزمنة ودراما الأهوال التي شهدتها خلال عملها ممرضة في مستشفى سنجار العام، وعملها في مستشفى شيخان العام، وصولاً إلى عملها مع منظمة أطباء بلا حدود منذ 1 مارس 2015 وحتى اليوم. وتوضح: «كانت أغلب الحالات الحرجة يتم تحويلها إلى خارج المنطقة لافتقارها العلاجات والأجهزة الطبية لعلاجها. وكنت أتلمّس حسراتهم، وأتجرع الألم كل يوم مع آهاتهم، وفقدت شهيتي للأكل والنوم والحياة أيضاً. فلم يكن همي سوى إسعاف ما خلفته آلة الحرب من جرحى ومصابين، وما حصدته وحشية «داعش» من أرواح أطفال ونساء وشيوخ بلا رحمة». قصص حزينة وتروي آسيا بعض القصص التي حطمت قلبها حزناً فتقول: «استوقفتني فتاة عمرها 15 عاماً أصيبت بشلل في المخ، فلم نستطع علاجها لعدم توافر الإمكانات، فشعرت بألم رهيب حين لم نستطع إنقاذها، أو نتمكن من الرد على تساؤلات أمها المسكينة عن جدوى إسعافها إلى الخارج، كانت تلك الحالة من أقسى ما عاشيته في مشواري الطبي، ووقفت عاجزة عن تقديم أي شيء لها، واكتفيت بتقديم الدعم النفسي والمعنوي للمصابة وأمها». وهذه قصة مؤثرة ترويها آسيا على لسانها، فتقول: «أتت إحدى النساء الحوامل إلى العيادة المتنقلة، فقالت: لقد انجبت 6 أطفال فلم يبق لي أحد منهم حياً، فقد توفوا جميعاً بعد الولادة بثلاثة أشهر من عمرهم، أتت إلينا لنعالجها، فتأثرنا كثيراً بحالتها، لكننا لم نستطع أن نفعل شيئاً لها. وهناك حالات أقل تأثيراً، فحين يأتي المرضى إلينا يشكون ارتفاع ضغط الدم، ولا يستفيدون من العلاج، نقوم بإرسالهم إلى قسم الصحة النفسية في عيادتنا». وتذكر آسيا قصة لا تزال ملتصقة في وجدانها، تقول: «أتت إلينا إحدى الأمهات من منطقة الهضيمة في زمار الذي أصاب مدفع الهاون دارهم، فذعر ابنها وعمره 10 أعوام، حينئذ بدا ابنها يمرض ويزداد سوءاً يوماً بعد يوم، ثم أصيب بتعسر النطق، وظل يبكي باستمرار دون توقف. بكاء ذلك الطفل لا يزال أنينه يحرق دمي ويسكنني حتى العظم». سيناريوهات الموت عاشت آسيا مشاهد خطرة كممرضة في جبهات النزاع المسلح وتقول: «كنت أتوقع الموت في أي لحظة، وأضع أحياناً سيناريوهات كثيرة لموتي، فأنا أعيش يومياً تحت تهديد القصف والخطف، وحياتنا مهددة بالخطر، وندرك أنا وزميلاتي من الطبيبات أننا الأكثر استهدافاً كوننا نعتبر ولائم حرب وسبايا في نظر تنظيم (داعش)». تعتبر آسيا أن تضحيتها مصدر اعتزاز للمرأة العربية التي تدفع ثمن العنف وضريبة التطرف، وتحاول بحنان أمومتها صدّ جرائم التنظيمات المختلفة، وتضيف: «وجودي ضمن كادر «أطباء بلا حدود» هو خدمة للإنسانية في مناطق النزاع، والتي لا تخلو من بذل أغلى التضحيات، وسأكافح، وأناضل من أجل أهلي وصديقاتي وأطفال بلدي، وقد نذرت حياتي من أجل الإنسان بصرف النظر عن جنسه ولونه وطائفته ومذهبه، وسأبذل روحي رخيصة لإنقاذ أرواحهم من الموت، فما أقدمه هنا هو فخر واعتزاز لكل النساء الشرقيات اللواتي يستطعن أن يضعن بصماتهن من أجل الخير للإنسانية». وتتوقع آسيا أن مستقبلها في جبهات النزاع سيقودها يوماً إلى مرتبة رفيعة في مجال عملها، وتوضح: «أطمح إلى استكمال دراستي، والتفوق علمياً ضمن اختصاصي، سواء في التمريض أو كلية الطب لأواصل مسيرتي الإنسانية في خدمة الإنسان بكل مكان». وتضيف: «سأنجح في حياتي طالما وهبت نفسي عن قناعة وإرادة راسخة لعمل الخير وإنعاش حياة ضحايا الحروب، وأجد سعادتي عند تخفيف آلام الناس، وأضع ابتسامتي ضمادة لجراحهم، لن أستريح حتى يعود السلام إلى كل القلوب». قصص إنسانيـــــة سطرت روضة وآمنة ملحمة إنسانية في بلدهما الذي تحاصره ثلاثية الموت والخوف والجوع. وروت روضة قصصاً مأساوية لأطفال جرحى تآمر ضدهم تجّار الحروب من دون أدنى شفقة، وفتك بهم الحصار الذي صادر صحتهم وسلب طمأنينتهم وأجهض أحلامهم، فلم يجدوا أي مراكز صحية تغيثهم، ولا مستشفيات تتعهدهم بأبسط أنواع الرعاية والإسعافات الأولية. وهذا ما جسده حال محمد، طفل 10 سنوات، تم إسعافه إلى مستشفى الأمومة والطفولة التابع لمنظمة «أطباء بلا حدود» في الحوبان في محافظة تعز المحاصرة، وهو يعاني تقيؤاً وإسهالاً شديدين في مرحلة متقدمة من المرض، بسبب عجز أهله عن دفع نفقات وتكاليف العلاج والفحوص، لأن معظم المستشفيات كانت لا تستقبل أي مريض من دون مقابل أو تأمين صحي، وهو ما كانت تفتقر إليه أسرته الفقيرة. ثم تدهورت حالته إثر انخفاض نسبة الأوكسجين بالدم، فأصيب بمضاعفات حادة أدت إلى وفاته. لم تستطع، حياة علي، بسبب اشتداد الحرب إسعاف ابنتها «رام الله»، حيث كانت تعاني حمى وتقيؤاً وسعالاً وتشنجاً، توضح أم رام الله: «كنا نريد أن نسعفها لكننا لم نتجرأ لأن القتال كان دائراً والوقت متأخراً والخطر يتربص بنا في كل زاوية وشارع، ثم قررنا الخروج صباحاً، فجئنا من الحوبان مشياً من الساعة 6 حتى الساعة 8 ثم اضطررنا أن نستقل الحافلة، ووصلنا إلى المستشفى بصحبة طفلي الصغير وابني الأكبر 16 عاماً لإسعاف ابنتي رام الله. وانتظرنا جميعاً حتى تحسنت حالها بعد إعطائها الأدوية اللازمة من المستشفى، ثم غادرنا إلى منزلنا مشياً على الأقدام». أطباء بلا حدود وفقاً إلى تقارير حصلت عليها «الاتحاد» من مختلف المستشفيات التابعة لمنظمة أطباء بلا حدود في اليمن، أفادت بأن عدد ضحايا العنف في اليمن بلغ 31 ألف جريح ومريض خلال 2015، و2016. كما تم إجراء 11 ألف عملية جراحية في مختلف مستشفيات المنظمة في البلاد، وتم تقديم حوالي 38 ألف استشارة طبية للنازحين في عيادات متنقلة تابعة للمنظمة، وأجريت أكثر من 8 آلاف ولادة طبيعية وقيصرية، وتم استقبال أكثر من 108 آلاف مريض في غرف الطوارئ في مستشفيات تدعمها المنظمة في اليمن، كما أدخلت حوالي 1000 طن من المساعدات الطبية إلى مستشفيات ومرافق صحية تدعمها في اليمن. الأردن تعالج المصابين جسدياً وتدعمهم مجد العدوان: نجوت بأعجوبة.. وعشت أجمل عيد في محطتنا الثالثة حطّت بنا الرحال في الأردن، وتحديداً في الرمثا، التي فتحت ذراعيها لضحايا النزاعات في دول الجوار، هناك حكيت فصول قصة طفلين عمرهما 5 أعوام تم إسعافهما إلى قسم الطوارئ نتيجة إصابتهما بشظايا، ما أسفر عن بتر ساقيهما من فوق الركبة، وبتر الساعد وفقدان إحدى العينين. الطفلان كانا يلعبان في إحدى المناطق التي تعرضت للقصف في سوريا، بينما عثر طفل ثالث لم يتجاوز الرابعة من عمره على قنبلة، وأخذ يلعب بها مع رفيقيه، وفجأة انفجرت في وجهه فأردته صريعاً، بينما تم نقل الطفلين الآخرين إلى مستشفى الرمثا بالأردن. لتستقبلهما الطبيبة الأردنية الدكتورة مجد حسن العدوان لتشملهما بعنايتها الفائقة ولمستها الإنسانية. تلك المأساة روت لنا تفاصيلها الدكتور مجد على لسانها بتأثر، ورداً على سؤال لـ «الاتحاد» عن أكثر حالة مؤلمة عايشتها من جو الحروب الدائرة في سوريا، مفيدة بأن قصة هذين الطفلين هي أبشع ما عايشته خلال عام كامل من عملها مع «أطباء بلا حدود» في مستشفى الرمثا. وتكمل الدكتورة مجد قصة الطفلين، قائلةً: «بعد أن تم إسعافهما، وإجراء عمليات متعددة لهما. خضع الطفلان لعناية فائقة، بعد أن وصلا دون أهليهما، وكنا بالنسبة إليهما بمثابة الأم والعائلة التي تهتم بهما وترعاهما». لمعت دمعة في عيون الدكتورة مجد، وهي تتذكر طفلاً آخر عمره أربع سنوات أتى مصاباً بشظايا في البطن والمثانة: «كان وضعه خطيراً. فتمت معالجته وتحسنت أموره بسرعة. وأصبح الطفل لا يفارقني، إلا أن صار يعتبرني أخته الكبرى، وقال لي ذات صباح بأنه يحبني ولا يريد فراقي، وأمضيت عيد الأضحى معه في المستشفى، وكان ذلك أجمل عيد قضيته في حياتي، فقد تركت أهلي وأقاربي، وآثرت أن أقضيه مع هذا الطفل، لعل ذلك يخفف من وطأة حنينه لأهله». تصمُت الدكتورة مجد برهة كأنها تحاول أن تبتلع غصتها قبل أن يحضرها وجه شاب في العشرينيات من عمره، تلقى قذيفة في الوجه، فطمست ملامحه التي تشوهت بالكامل؛ حيث قمنا بإجراء الإسعافات اللازمة وتحويله إلى مستشفى آخر يقوم بعمليات الترميم. وبعد ثلاثة أسابيع، عاد الشاب إلى المستشفى بوجه كامل بعد خضوعه لعمليات عدة ناجحة. يومها نسيت نفسي فقفزت ابتهاجاً عندما رأيته مبتسماً بعد أن تحسنت حالته، فقد شعرت بقيمة وجودنا، وما نحدثه من فرق في حياة المرضى. وتقول الدكتورة مجد: «الضحايا من النساء يشعرن بالأمان عند رؤيتي. وأذكر ذات مرة أن سيدة قدمت إلى الطوارئ وحدها مع مجموعة من المصابين وكانت فاقدة للوعي. وعندما استيقظت، كانت تصرخ وتستنجد خائفة، فقد تعرض منزلها للقصف، وهي نائمة، وانهار عليها الجدار، وتم نقلها إلى المستشفى ملفوفة بستائر نافذة انهارت عليها. وكانت مصابة بشظايا في العينين وكسور بالغة في الأطراف وجروحاً عميقة. وحينما اقتربت منها هدأت أخيراً بعدما باءت محاولات الطاقم الطبي تهدئتها بالفشل. ثم طلبت مني أن أمسك يدها لتستمد الشعور بالأمان من وجود أنثى بجانبها، كما أخبرتني بأنها لا تعلم ما مصير أولادها وزوجها وعندها شعرت بالفرق الذي أحدثته كوني الطبيبة الأنثى الوحيدة في قسم الطوارئ آنذاك». على قدر المسؤولة هناك مواقف عايشتها الدكتورة مجد مع مصابين من الشباب قامت بمعالجتهم، فتحسنت أحوالهم، ليشكروها بشدة، وعبروا لها عن فخرهم بوجود طبيبة عربية قادرة على علاجهم، وتقول: «كل مرضاي يشهدون بأنني كنت على قدر المسؤولية، وهذا هو التقدير الذي يهون عليّ التعب والمصاعب، فدوامنا يستمر 24 ساعة متواصلة، لهذا فإن المستشفى بما يحتويه من كادر ومرضى، يحظى بالحيز الأكبر في حياتي»، وتلفت: «أنا لا أعالج المرضى جسدياً فحسب، لكنني أساهم في دعم نفسياتهم». تعيش الدكتورة مجد الخطر وتتعايش معه، وتسمع يومياً صوت انفجارات القنابل من داخل المستشفى، مشيرةً إلى أن المستشفى يقع على مقربة من الجبهات الحدودية مع سوريا التي يحتدم فيها الصراع، ونشعر أحياناً بارتجاج في المستشفى من هول الانفجارات نتيجة القصف العشوائي. ومن أكثر اللحظات التي شعرت فيها فعلاً بالخطر عندما سقطت قذيفة غير بعيدة عن المستشفى، وتوفيّ أحد السكان على إثرها مباشرةً، وأصيب آخرون، وكان لهذه التجربة الأثر الأكبر في حياتي ومسيرتي الطبية. وتؤكد الدكتورة مجد أنها تطمح إلى تحقيق غاياتها التي قررت الانضمام من أجلها إلى منظمة أطباء بلا حدود: «حين علمت بأن هناك مستشفى تابعاً لهذه المنظمة يقوم باستقبال ومعالجة مرضى الحرب بحاجة لأطباء، تقدمت على الفور بطلب للانضمام رغم وجوده في محافظة أخرى قرب الحدود الشمالية الملتهبة. ليتم اختياري من بين مئات المتقدمين للامتحان الطبي أولاً ثم إجراء المقابلة الشخصية، لقد كانت لحظة قبولي من أجمل اللحظات في حياتي». وتضيف: «كرست عمري من أجل إنقاذ المرضى، لأشعر بقيمة حماية حياة البشر. فأنا الطبيبة التي تعرضت لمخاطر جمّة، قد لا يستطيع أطباء من الرجال تحمّلها، فمن أكثر اللحظات التي أفخر بها حين أنعش مريضاً، فيعود النبض إلى قلبه مجدداً. هذه هي بالنسبة لي الجائزة الكبرى في الحياة». أروى عيد: النزاعات المسلحة أنتجت جرائم الاغتصاب وزواج القاصرات الحروب والنزاعات بيئة خصبة لنمو جرائم اجتماعية مثل زواج القاصرات واغتصاب الأطفال والفتيات والأرامل، وكان عليّ استقصاء هذه الظاهرة وتشخيصها بالأرقام، فتواصلت مع أروى عيد، طبيبة أردنية بمستشفى إربد، وهي طبيبة نذرت نفسها لتقديم أعمال تطوعية عبر منظمة أطباء بلا حدود، ولمّا سألتها عن آخر إحصائية بعدد المصابين من الأطفال والنساء النازحين بسبب النزاعات والحروب الذين شملتهم الرعاية النفسية في المستشفى، قالت لـ «الاتحاد»: «تم تقديم الرعاية الصحية لأكثر من 800 طفل منذ بدء مشروع الأم والطفل في مدينة إربد، كما تم تقديم الرعاية الطبية والتمريضية لحديثي الولادة الذين يعانون صعوبات متوسطة في التنفس، والولادة المبكرة واليرقان ومشاكل الجهاز الهضمي وغيرها. كما تم علاج عشرات من حالات التشوهات التي استدعت تدخلاً جراحياً، وتم تحويل حالات صعوبات التنفس إلى مستشفيات أخرى تمتلك القدرة التقنية والطبية لعلاجها، حيث نتحمّل تكلفتها مادياً». وأكدت أن النزاعات المسلّحة أنتجت جرائم كثيرة مثل الاغتصاب وخطف النساء وزواج القاصرات، مضيفةً: «كلما أرى فيها طفلة دون سنّ 16 وقد أصبحت أماً لطفل وربما للمرة الثانية، تنتابني الشفقة ناحيتها، فلم تقتصر الحرب على قطف الأرواح، بل امتدت إلى اختطاف الطفولة وحرمانها من فرصة إتمام تعليمها وإجهاض أحلامها، وصولاً إلى تزويجها قسراً، فقط لأن وليّ أمرها يرى في ذلك حماية لأسرته». لبنان تخاطر بحياتها في مخيم مُحاصر بالخوف عايدة حسّوني: سأستمر في إنقاذ الضحايا حتى لو قتلتني قذيفة في الطريق عرجنا إلى لبنان الذي تداعى جسده ألماً لجرح الجارة السورية، لم تكن مهمة اتصالي بالدكتورة عايدة حسّوني بالأمر الهين، فقد اتصلت بها أكثر من مرة دون أي رد، إلى أن عرفت من زملائها بأنها تأتي إلى دوامها في الثامنة صباحاً، وتغادره عند الخامسة عصراً، وتكون مشغولة فور دخولها حتى نهاية دوامها، لهذا اتصلت بها قبل 10 دقائق من مغادرتها المستشفى الكائن في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، وأخيراً ردّت الدكتورة عايدة حسّوني، فتحدثنا مطولاً، فسردت لـ «لاتحاد» قصتها من قلب الخطر منذ التحاقها بأطباء بلا حدود عام 2012. ومع اندلاع الأزمة السورية، واستجابة إلى تدفّق اللاجئين إلى لبنان، قرّرت «أطباء بلا حدود» توسيع نشاطاتها في مخيم عين الحلوة الذي يحوي 100000 لاجئ، منهم لاجئون سوريون وفلسطينيون هاجروا من سوريا، لتفتتح عيادة الرعاية الصحيّة الأولية في مستشفى النداء الإنساني، حيث كانت تدير برنامجاً للصحة النفسية لمدّة ثلاث سنوات. فانضمت إلى العيادة الدكتورة اللبنانية عايدة حسّوني لتصبح أول طبيبة صحّة عامّة تعمل بدوام كامل في العيادة. وتعتبر الدكتورة حسوني أن عملها كطبيبة هو خيار حياة، اتخذته يوماً، وأقسمت أن تلتزم به. وتوضح: «أعمل طبيبة صحّة عامة بدوام كامل في عيادة أطباء بلا حدود في مخيم عين الحلوة في صيدا جنوب لبنان، وأعمل مع فريق مؤلّف من ممرض، واختصاصية اجتماعية ومرشدة صحية»، وتلفت: «كانت مهمّتي الأولى في قسم الطوارئ التابع لمستشفى النداء الإنساني في مخيّم عين الحلوة، تقدّيم الرعاية الصحية المجانية لضحايا الحروب والنزاعات المسلّحة وضحايا الكوارث الطبيعية والأوبئة، وذلك مع الالتزام بالحيادية التامة وعدم التمييز بين أعراق أو ديانات. ولا نزال غير قادرين على الاستجابة لعشرات الجرحى الذين يأتون عند حصول أي اشتباك بسبب ضعف الإمكانات ونقص الموارد البشريّة». وتشير حسّوني إلى أن عدد اللاجئين والنازحين الذي تمت معاينتهم في عيادتهم بالمخيم بلغ 16763 مريضاً في 2015، وهذه المعاينات تضمنت أمراضاً حادّة وإصابات خطيرة، كما تم تقديم 436 استشارة نفسية واجتماعية». وتوضح: «عملي في مخيم «عين الحلوة» عرضة للخطر على حياتي بسبب كثرة الحوادث الأمنيّة، ما يشكّل تحدياً بالنسبة لي وللفريق الطبي، ورغم ذلك أشعر بالمسؤولية أمام ضحايا الحروب من مصابين وجرحى يحتاجون مساعدتي لذلك سأستمر في إنقاذ حياتهم». وتقول الدكتورة عايدة إنها تعالج يومياً حالات إنسانية قادمة من مناطق النزاع والحروب، فتقول: «استقبلت أعداداً من اللاجئين الذين يعانون أوضاعاً اجتماعية اقتصادية ونفسية صعبة تؤثّر على صحّتهم، واكتشفت أن حالات المرضى تكاد تكون مستنسخة عن بعضها، كل مرّة أريد أن أسأل المريض عن تفاصيل مرضه وأتوقّع مسبقاً الإجابة، فمثلاً، يأتي أحد المرضى مع أوجاع في المعدة، الطبيعي أن أسأله ما نوع الأكل الذي يتناوله، لكنني أعرف أن في حالة هذا المريض وغيره، خياراته بالأكل محدودة، وهو يأكل ما توفّر له، ولا يمكنه تدارك الأمر بسبب وضعه الاجتماعي والاقتصادي السيئ. هذه المعاناة أعيشها يومياً مع المرضى، وغالباً ما أضبط نفسي لأستمر بالعمل». تدرك الدكتورة عايدة ما يمكن أن يصيبها من مخاطر قد تهدد حياتها أو تلحق بها الأذى، فتقول: «منذ بداية عملي مع منظمة أطباء بلا حدود كنت أعلم أن المخاطر الشخصية موجودة في كل مكان حتى في المنزل الآمن، وقد أصادف الموت في الشارع أو تتلقفني قذيفة في الطريق، كل ما أفكّر به حالياً أن أبقى حذرةً، وأحاول ألا أخاطر بحياتي لأن هناك أشخاصاً بحاجة لمساعدتي». تكد الدكتورة عايدة في تأدية واجبها الإنساني بإخلاص لإنقاذ الإنسان الضحية دون تمييز، مشددة على أن دور المرأة العربية حيوي في مواجهة هذه المحنة التي أصابته بدءاً من العراق، مروراً بسوريا وليس انتهاء باليمن، فهي أمام تحدٍ تاريخي في زمن النزوح والحروب، ويجب أن تضطلع بدورها الإنساني، وتقديم دعمها النفسي لأهلها وأبناء مجتمعها. وبسؤالها كيف توفق بين حياتها الزوجية ومهمتها الإنسانية كطبيبة وأم لطفلين، قالت: «بعد زواجي قرّرت إدارة حياتي للتنسيق بين دوري كزوجة وأم وطبيبة، فعملت في مستوصفات محليّة عدة بدوام جزئي لكي أتمكن من رعاية أسرتي والاهتمام بها رغم كل ما يفرضه ذلك من تحدّيات». وتضيف: «أبدأ بإعداد الطعام بعد الساعة 8 مساءً، وأكمله في ساعات الصباح الأولى قبل أن يستيقظ أطفالي. وأضطر للخروج ليلاً في حالات الطوارئ، وأترك الأولاد مع والدهم. لكنني لم أغفل دوري في تربية الأولاد في سنين طفولتهم». سوريا رفضت العمل بألمانيا من أجل أطفال بلدها ثريا زين العابدين: سأبقى صامدة أمام القصف وأمطار القذائف الأرض السورية أضحت منذ أكثر من 5 سنوات خلت، ساحة لإحدى أشد الأزمات الإنسانية في العصر الحديث، هنا تحالفت جميع عناصر الشر لتصنع مأساة الإنسان السوري التي باتت عابرة للحدود، في أحد مشاهد هذه المأساة، تقول ثريا زين العابدين: «تلقيت عرضاً مغرياً للعمل في ألمانيا، لكنني قررت أن أبقى هنا في سوريا، لأن أطفال بلدي بأمس الحاجة إليّ، فلن أخسر إنسانيتي أو أتنصل من واجبي المهني، لا سيما في ظل النقص الحاد في عدد الأطباء». هكذا بدأت الدكتورة ثريا زين العابدين اختصاصية طب الأطفال في مستشفى السلامة التابع لمنظمة أطباء بلا حدود في منطقة أعزاز شمال سوريا حديثها خلال تسجيل فيديو خاص تم تصويره خصيصاً لـ «الاتحاد» عن سيرتها كطبيبة كرست حياتها لإنقاذ ضحايا الحرب في سوريا. مؤكدةً أن أكبر تحدٍ واجهته خلال عملها هو داء «السلس البولي» الذي يصيب مئات الأطفال القادمين من داخل المخيمات ومناطق الصراع في البلاد بسبب الخوف والهلع جراء الانفجارات والقصف الجوي. وتلفت بأن الأطفال هم أكثر المتضررين من الحرب والنزاعات، سواء نفسياً أو جسدياً وحتى معنوياً، وهذا ينذر بكارثة كبيرة تهدد مستقبل الأجيال القادمة. تعمل الدكتورة ثريا مع المنظمة منذ عام 2013، وهي طبيبة من ضمن 150 فرداً في الطاقم الطبي السوري الذي يدير مستشفى السلامة الذي يعتبر أكبر مرفقٍ طبي لأطباء بلا حدود داخل سوريا، حيث يقع على بعد 23 كيلومتراً شمال غرب مدينة حلب قرب الحدود التركية، والذي لم ينجو هو الآخر من ويلات الصراع المسلح، هذا المستشفى يستقبل حسبما تقول الدكتورة ثريا مئات الضحايا والمصابين في صفوف المدنيين والمسلحين على اختلاف انتماءاتهم، وتؤوي منطقة أعزاز عشرات الآلاف من النازحين بمن فيهم نساء وأطفال ومسنون باحثون عن ملجأ يقيهم جحيم الحرب. وعن دور المستشفى في إسعاف المصابين ميدانياً، تقول: «لدينا حافلة صغيرة، تجول في المخيمات مرتين أو ثلاث مرات يومياً. وتجلب إلى المستشفى 30 إلى 40 طفلاً مع أمهاتهم، وعقب موجات النزوح الجديدة، بلغ توافد المرضى ذروته، حيث استقبلت العيادات الخارجية ثلاثة أضعاف عدد المرضى المعتاد، وقدّمت المستشفى 8141 استشارة طبية مقابل 2811 استشارة في الفترة نفسها من العام الماضي، كما قُدّم ضعف عدد العمليات الجراحية والاستشارات الطارئة». عن أبرز المخاطر التي شكلت تهديداً لحياتها، تؤكد الدكتورة ثريا أن المستشفيات كافة في المناطق المحيطة باعزاز تعرضت للقصف، ما أدى إلى فرار معظم الطواقم الطبية، ولم يسلم مستشفى المنظمة في أعزاز من الاعتداء، حيث تعرّض إلى هجوم بالرشاشات التي خلفت عدداً من المصابين في صفوف المرضى، ولولا «السواتر» الحديدية لما نجونا من ذلك القصف، وتشير التقديرات حسب الدكتورة ثريا إلى وجود نحو 100,000 شخص مدني محاصرين وعالقين بين جبهات القتال الملتهبة والحدود التركية المغلقة. معارك حول المستشفى وتقول الدكتورة ثريا: «مع تدهور الوضع الأمني، وصل خطّ الاشتباك مع مقاتلين متطرفين إلى بعد 3 كيلومترات عن المستشفى، فقامت المنظمة بإغلاقه بشكل مؤقت، لتعيد افتتاحه بعد أشهر، مع انحسار خطوط الاشتباك، ولكنّ خدماته لا تزال مقصورةً على التدخلات الجراحية والطارئة والمنقذة للحياة». وتوضح: «لدينا فريق للاستجابة الطارئة، متخصص في تقديم مساعدات إغاثية، حيث وزعت الخيام والأغطية وأطقم النظافة لأكثر من 53,000 متضرر»، مشيرةً إلى أن الناس في المخيمات يعيشون في ظروف قاسية جداً، فالخيام أصبحت رثة ومتهالكة بسبب الأمطار والعواصف شتاء، فقد شهدنا مأساة أمهات يبكين ويشتكين أن أطفالهن لا يتعافون من أسقامهم. ونوهت بأن كثيراً من الفرق الطبية العاملة انسحبت من الخدمة بسبب اشتداد الخطر على حياتهم، فمنهم من سنحت له فرصة المغادرة، وقليلون فقط من قرروا البقاء والمخاطرة بأنفسهم لمساعدة المحتاجين. وبات أغلب أفراد الطاقم نازحين من منازلهم، ويعيش بعضهم داخل المخيمات وخارجها على الحدود التركية، بينما ينام بعضهم الآخر في المستشفى. وقد اضطر كثيرون إلى ترك قراهم ونزحوا إلى منطقة أعزاز نتيجة للظروف القاسية. فلسطين في ألبوم معاناة الفلسطينيين الممتد على عقود عدة، صور إنسانية صادمة، التقط بعضاً منها المصور «أوفيديو تاتارو» الذي وثق جهود أطباء بلا حدود الموجودة في فلسطين منذ سنة 1989، وهي شاهد على ما تعرض له الشعب الفلسطيني من ويلات، سواء في غزة أو بقية أنحاء فلسطين المحتلة، والمنظمة تحاول عبر طبيباتها الشجاعات توفير الخدمات الجراحية والرعاية الصحية النفسية للسكان المحرومين من الرعاية الصحية. وهنا نلخص حكايات صمودهن وقصص معاناتهن عبر عدسة المصور «أوفيديو تاتارو» الذي يجسد بالصور بطولاتهن وشجاعتهن من خلال معرض صور أقامه في 2015 في غزة، وتعكس الصور طبيبات يرتدين زيّ البطلات الخارقات، ويعرض صوراً مبهجة لمجموعة من النساء وهن يضحكن ويقضين وقتاً ممتعاً، لأنه ورغم معاناتهن في جو الفقر والأسى، وقوة تحملهن وتضحياتهن لإنقاذ المصابين من ضحايا الحروب والدمار، إلا أنهن يجدن الأمل بالسلام، ويحلمن بحياة أفضل، ويفسحن للتفاؤل مكاناً في قلوبهن. محمد بالي مدير مكتب أطباء بلا حدود في دبي: طبيباتنا يتحدين الحرب بالحب ويواجهن النار بالزهور وعدنا إلى الإمارات بلد الحب والسلام والأمان، وتحديداً إلى دبي بعد رحلة شاقة وممتعة في آن، طاردنا فيها المعلومات والشهادات الإنسانية الحيّة في الميدان، فضلاً عن المعايشات الشخصية لقرابة 18 شهراً، اكتشفت فيها مرة أخرى أن القوة الناعمة لا تكسرها أشد الحروب شراسة. لوحة مؤلمة لم تكتمل تفاصيلها، فكان لنا أن التقينا محمد بالي مدير مكتب منظمة أطباء بلا حدود في دبي ليوضح مزيداً من التفاصيل، بداية أكد أن المنظمة تتلقى تمويلها عن طريق تبرعات الأفراد فقط، ولا تقبل أي تمويل من أي دولة، وترفض أي معونات حكومية لكي لا تتعرض لأي ضغوط من طرفها، كما ترفض أي دعم أو حماية عسكرية لمراكزهم الطبية في مناطق الحروب، ولا تقبل أن يدخلها أحد يحمل سلاحاً حتى لا يتم احتساب عملها الإنساني على أي جهة ربما تكون متورطة أو طرفاً في النزاع. ويتذكر بالي أصعب موقف هزّ مشاعره أثناء زيارته إلى أحد المراكز الطبية التابعة للمنظمة، تحديداً في مستشفى «أسياف» في عمّان الأردنية، وهو مركز طبي متخصص في إعادة تأهيل وبناء الأعضاء البشرية، ويستقبل المستشفى أعداداً كبيرة من المتضررين بسبب الحروب، لاسيما الذين تعرضوا لإصابات بليغة، وفقدوا أعضاءهم أو تفحمت أجسادهم أو انطمس جزء من ملامحهم جراء انفجارات أو شظايا أو قصف صاروخي في العراق وسوريا واليمن ومناطق النزاعات. ويلفت أن المنظمة تتكفل بإسعاف الضحايا ميدانياً، وترسلهم لاستكمال العلاج، وتتحمل المنظمة كافة مصاريف السفر والنقل والسكن والغذاء، مفيداً بأنه صدم حين وجد أكثر الضحايا والمصابين هم من الأطفال الذين فقدوا أعضاءهم، وبعضهم خسر ذراعه أو بساق واحدة، وبينهم مشوهون جسدياً ومحروقو الملامح، وقد أحزنني شاب سوري فقد ساقه، وعرفت فيما بعد بأنه كان رياضياً يلعب كرة القدم، لكن الحرب غيرت حياته، فلم تعد لديه رغبة في مواصلة العيش. عن معايير قبولهم للطبيبات في المناطق الملتهبة، يقول: «لدينا 5 مكاتب رئيسة في باريس وبرشلونة وهولندا وجنيف وبلجيكا، وتتولى مهمة التوجيه وتدريب الطبيبات ميدانياً، وبعد تأهيلهن نفسياً ومعنوياً مدة 6 أشهر، يتم توزيعهن في المراكز الطبية في بلدانهن والإشراف على العمليات الخاصة، مفيداً بأن عدد الطواقم الطبية للمنظمة حول العالم يبلغ 32 ألف فرد، بينهم 70% من الأطباء والممرضين، لكن هذا العدد يتغير بحسب تفاقم الصراعات والنزاعات، فمثلاً في اليمن عام 2015 كان لدينا 200 طبيب وممرض، ثم أصبح اليوم لدينا 2000 فرد بسبب اشتداد الحرب وارتفاع عدد الضحايا». ويفيد: «لدينا طاقم خاص للأمن والدعم، مهمته المحافظة على حياتهم وسلامتهم، ونأخذ بعين الاعتبار عدم وجود بعض الجنسيات الأجنبية لكونها تكون مستهدفة أكثر، لذلك نحرص أن يكون أفراد طواقمنا من جنسية البلد نفسها لاعتبارات كثيرة لكونهم يعرفون خصوصية المجتمع وطبيعته وأساليب التعامل مع أهله. أما عن أصعب موقف تعرضت له طبيباتنا ونجحن في تجاوزه، كان في حرب غزة 2014، حيث كنّ يعملن بكل شجاعة أثناء القصف بالطائرات دون أن يتوقفن عن إسعاف الضحايا، وقمن بمساعدة مئات المصابين». ويصف بالي طبيبات «بلا حدود» بأنهن قدمن تضحيات ثمينة خاصة في مناطق الحروب في الشرق الأوسط، مثمناً دورهن البطولي والإنساني، ومفسراً سرّ صمودهن بأن المرأة تتمتع بحسّ عالٍ من الأمومة، فضلاً عن تاريخ المنظمة المشرف في تأدية مهمة نبيلة ورسالة إنسانية لا تشوبها أي مصالح سوى إنقاذ الإنسان، يدفعهن إلى خوض التحدي والانضواء تحت مظلتها. كما أن أغلب الطبيبات يتمنين أن يؤدين دوراً إنسانياً إزاء أبناء بلدهن، ولديهن حماسة عالية ودافع كبير لحماية أوطانهن، ومواجهة الحرب والنار بالحب والورود.  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©