السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كسر العمر

8 نوفمبر 2008 23:40
أزعم، وبشيء من الزهو يستعصي عليّ تبريره، أنّ تعبير ''كسر السفرة'' الذي كثُر تداوله في مسلسل ''باب الحارة'' لم يلتبس عليّ، كما حصل مع كثيرين غيري، ذلك أنّ للمصطلح في ذاكرتي مكاناً ومكانة مميزَيْن، وغالباً ما لجأت إليه الوالدة، أمدَّها الله بالعمر والعافية، في توصيفها (تشريعها) للمائدة المفرطة في تواضعها التي كانت تعدّها لنا أحياناً على عجل، حرصاً على استثمار الوقت في ما هو أفضل وأجدى، وفقاً لأولوياتها، من حيثية عابرة يجسدها الطعام· صحيح أنّ كسر السفرة الذي كان يحظى به عصام، حلاق الحارة، ذو الزوجتين المتنافستين على الفوز برضاه، يُعتبر وليمة باذخة مقارنة بسفرنا الواقعية بالغة الانحياز إلى الكسر، لكنّ الحصيلة تبقى واحدة في الحالين، وهي وجبة تميل إلى التقشف وإن اختلفت حدوده· كان لا بدّ لكسر سفرتنا المتكرر حدوثه أن يُقابل بردود فعلٍ معترضة من جانبنا، لكنّ الوالدة كانت جاهزة دوماً لإفحامنا ببداهة من امتلك الثقة حتى لم يترك متسعاً لمزيد: ''نصف البطن أفضل من مليانه''، هكذا كانت تحسم سجالنا غير المتكافئ معها، متغاضية عن سعي الأنصاف الفارغة من بطوننا لإبقائه معلقاً على احتمالات الآتي، ومتجاوزة لأسئلة شتى كانت تضج بها المخيلة الفتية، عن مُطلق هذا القول القاطع بيقينية مستفزة، تحيل أي نقاش مع ناقليه إلى معركة خاسرة سلفاً· شكّل ''كسر السفرة'' الاصطدام الأول لوعينا الطفولي مع ضوابط العيش النازعة دوماً إلى خفض السقوف، وتقليص المُتاح، ولعب المثل السائر المنسوج وفق إيقاع متزن وصياغة بليغة، دور المعادل اللغوي لسطوة يجدر بنا الخضوع لمقتضياتها حتى نستحق صفة الأبناء المطيعين· كبرنا وإلى جانبنا كبُر المثل، وتشعبت دلالته، كان حاضراً باستمرار لتذكيرنا بأنَّ الشبع المنشود في كل شيء، قد يكون نوعاً من الترف، بل ربّما آل أحياناً إلى بطر لا يليق بعاقل· وفي محاذاته انتصب المثال بما يحيل إليه من نموذج قائم يجدر بنا تقليده، والاعتراف به كمرجعية تحدد مدى اقترابنا من ذواتنا المنشودة· وكان على العيش أن يمضي متهادياً بين المثل والممثال، متعثراً بقانون الكسر وتداعياته حيناً، وباحثاً عن سبل للتأقلم مع انعكاساته المختلفة أحياناً، وكان على انكسارات شتى أن تفرض نفسها أمامنا كرواسخ لا تقبل النقاش، وعلى خيبات متعددة أن تحطَّ رحالها في أعماق الروح، حتى ندرك أخيراً أن الحياة في جوهرها ليست وليمة يميزها البذخ، وأنَّ العمر نفسه هو مجموعة متنافرة من الكسور العمرية الباحثة عبثاً عن اكتمال مستحيل، اكتمال يظل ينأى ساخراً من سعينا الساذج إلى توحيد المخارج ودمج الصور· علي العزير
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©