الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سوق البراغيت الباريسي

سوق البراغيت الباريسي
21 يناير 2006

خزائن الأزمنة الغابرة وملتقى العامة والمشاهير
باريس- نايلة ناصر:
سوق 'براغيت سان اوان' يقع على المدخل الشمالي للعاصمة الفرنسية، فهل مر أحد بباريس دون زيارته؟
يشك الفرنسيون بذلك خصوصا أن بعضهم يتذمر أحياناً من كثرة رواد السوق الأجانب الذين يقصدونه من كافة أنحاء العالم، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار معروضاته· يرتاد السوق ما بين الـ 120 و150 ألف زائر خلال عطلة نهاية الأسبوع من فرنسا وخارجها· يأتي الأميركيون في المقدمة خاصة عندما يتدنى سعر الدولار فيستقلون أول طائرة ليشتروا كنبة أحلامهم أو مخطوطاً نادراً لطالما بحثوا عنه·
المكان أكثر من سوق هو واحد من اكبر المعالم السياحية في باريس وضواحيها ومصنف كمنطقة تراثية محمية كما هي الحال بالنسبة لقصر فرساي أو برج ايفل· يمتد على سبعة هكتارات ويضم 2500 محل وكشك تشكل جميعها عالما سحريا يفاجأ الزائر من النظرة الأولى ويغريه بالعودة مرارا وتكرارا·
والسوق نقطة التقاء· التقاء للعصور والأذواق والميول والمدارس والنزعات الفنية والموضة· من أثاث المنزل إلى الأشياء التي لا لزوم لها، من المتاع الأكثر كلاسيكية إلى الأدوات الأكثر غرابة، لا بد أن يجد الباحث في أروقته ومحاله وبسطاته وزواياه شيئا ما يعود به إلى بيته يعرضه فخوراً لأهله وصحبه·
مغارة علي بابا
السوق كمغارة علي بابا في ألف ليلة وليلة· تغرف عيناك من جماله و'لا يمل'· في الواقع كلمة جمال ليست مناسبة تماما لحال السوق· ربما الأصالة هي باعث السحر في السوق وموقدة جمراته، سحر العتيق ودفئه· تأتيه شتاء كما في هذه الأيام من السنة تتجول في طرقاته المفتوحة على الفضاء غير مبال بالبرد والصقيع· تدخل بشغف محلاته الخشبية الصغيرة الشبيهة ببيوت الأساطير والحكايا وسراديبه الواسعة بأروقتها العريضة، وعند مغادرته، تتركه بأسف·
سوق 'براغيت سان اوان' في الواقع مجموعة من خمسة عشر سوقاً· أقدمها 'سوق فرنيزون' المعمر منذ 120 سنة وهو أول ما تطأه قدما الزائر الوافد من باب 'كلينينكور' ومحطة المترو سميته· هو أكثر الأسواق شعبية بممراته الضيقة وأصصه الفخارية المزهرة· تخال نفسك أمام أكشاكه وكأنك في الريف· يشد السوق كل من يهوى الأواني الصينية والخزفية والصحون والأكواب والبلور· يجذب المولعين بالجرار والسلال ومقاعد الحدائق الحديدية التي أكلها الصدأ وأحجار الرحى الضخمة والأجراس والقناديل والسلاسل والتماثيل والأزرار والدمى والخردة وأوراق البردى والكتب··· وهذه الأخيرة تجدها أينما حللت·
في 'سوق بيرون' المجاور الأكثر غنى والذائع الصيت بين أثرياء المعمورة تعرف منذ أن تدخله لماذا يلقبه الباريسيون ب 'فوبور سان هونوريه البرغوت'· فالمكان إيثار متواصل للحواس كما شارع 'فوبور سان هونوريه' الباريسي الشهير بالأزياء والأناقة· هنا في 'سوق بيرون' تمشي الهوينا حتى لا يفوتك النادر والبديع وليس من واجهات إلا لبعض المحال الفخمة التي ارتأت عرض قطع من اثرياتها ودررها فتحا لشهية الزوار· تجد في 'تخاشيبه' أثاثا من القرن التاسع عشر ومن ستيل لويس الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر
وتصاميم من الـ 'آرت ديكو'····
تجد قطعا نبيلة الخامات تكثر فيها الحفر والتطعيم والتذهيب، مشغولة بإتقان وفرادة، تتوهج لمعاناً فتحيل المكان إلى مقصورة أرستقراطية بامتياز· هنا يتركز التجار الأقدم عهداً بهذه المهنة· توارثوها عن آبائهم وسينقلون أسرارها إلى الأبناء والأحفاد· هنا يتوقف الزمن الذي نعرفه وندعي أنه لأزمنة غابرة· غاليري 'زيلكو' واحد من محال 'سوق بيرون' ما زال يتباهى بأنه كان مؤثثا للبلاط الشاشنشاهي في طهران (1969) بحسب لوحة إعلانية تتصدر واجهة متجره·
سوق 'دوفين'
أحدث أسواق البرغوت عهداً المسمى بسوق 'دوفين' هو فناء من طابقين يتواجد فيه أخصائيون من مختلف المهن والحرف الفنية بينهم مهرة يحيون القديم ويجددونه· هناك أيضا شركات تتولى الشحن عبر العالم ومكتب يفتي خبراءه بأصالة القطع المعروضة أو زيفها·
قد تحلو لك طاولة أكلت النيران قشرتها أو خزانة من خزائن الجدات نخرها السوس أو صندوق جهاز عرائسي أكل الدهر عليه وشرب، فيعيده حرفيو السوق كما لو أن صانعه الأول أنجزه للتو· طبعا هذا يكلف غاليا كما هي الحال في فرنسا لكل ما يتطلب يداً عاملة وخصوصا في مجال 'الانتيكا' التي يحمل احد الأسواق اسمها: 'سوق الانتيكا' الأنيق وهو بمثابة غاليري صغيرة بالقياس إلى الأسواق الأخرى يعرض أثاثاً من حقبة نابليون الثالث ولوحات وسجاد وشمعدانات وأحجار كريمة ومراوح اسبانية وأخرى مشرقية···
حسن الجوار
أسواق أخرى يعج بها المكان· أسواق متلاصقة واحدها يؤدي بك دون عناء إلى الآخر وان تهت فلا خوف عليك فالحسن يجاورك أينما حللت والحكايات التي ترويها الأشياء تؤنس روحك فتنسى لبعض الوقت برودة المدينة التي جئت منها صباحاً وأثاث منزلك برمته إن كنت من أتباع التصاميم الحديثة·
أسواق يجمع بينها كيمياء فجرها تجاور أنواع الخشب الثمين مع البرونز الثقيل وبريق الذهب مع سرمدية الفضة··· كيمياء تعكسها المرايا المشطوفة، المستديرة أو المستطيلة، المؤطرة أو الحرة الأطراف· تعكسها ساعات حائط عالية تخالها أعلى من أي سقف تعرفه، ومدافئ الغرانيت الزيتي أو الرصاصي اللطيفة الاستدارات، العريضة الواجهات، التي لا مكان لها إلا القصور·
هنا في 'أسواق البراغيت' تدوس الأرض ببطء خوفاً من أن تدوس أثرا ما بعده اثر· تتأنى··· تتفحص··· لأن ما قد يبدو لك أثرا سخيفاً أو بالياً هو بمثابة الكنز الفريد المشتهى لآخر· أحياناً عليك البحث والتنقيب حتى تعثر على ضالتك المنشودة· تقلب وتزيح الأشياء· تنقلها قليلا لتصل إلى أخرى لمحتها، نادى عليك لونها أو شكلها· تغريك فتمسك بها تتلمسها براحة يدك بنعومة أو صلافة تفرضها حالها الرثة أو المتماسكة· يشدك فنجان قهوة وحيد بين مجموعة من الفناجين المستوحدة· يشدك بزخارفه فتتمنى أن يصير فنجان قهوتك الأبدي· تمد يدك، تنتشله من سلة النسيان فيطالعك شرخ رفيع كالشعرة يفصم عرى لحمته· تعيده إلى مكانه بعد أن تكون قد حملته بعضا من شغفك ومنحك بعضا من ذكرياته·
وإذ تجرأت وسألت صاحبة المحل عن الفائدة من عرضه لما حصلت إلا على نظرات تشي بسخرية البائعة من جهلك· فهناك حتما شار يعرف القيمة الحقيقية لهذا الفنجان، قيمة العتق ومسحة الزمن الغابر، لهذا الفنجان ولغيره من الأواني الصينية المخدوشة أو المشعورة، والمقالي النحاسية الصدئة المعوجة الحوافي والأجران الصخرية وأحواض الاستحمام والكراسي الناقصة الأرجل وكذا الطاولات والمقاعد·
وهناك حتما راغب في سجادة داستها الآلاف من الأرجل حتى انمحت رسومها في مواضع عدة، راغب هاو سيدفع غاليا ثمن ولعه· فالأسعار تتخطى غالباً ما في جيبك إن كانت ثروتك متواضعة وعموما من الأفضل أن تفاصل إلا إذا كان منافسك زائرا مسه جني الفانوس السحري·
لباس جلدي
أسواق البرغوت يأتيها من يرغب في لباس جلدي مختلف ربما لفحته الأيام بشمسها أو صقيعها، توسع بعض الشيء أو صار أكثر ليونة، تقولب على مقاس الأجسام الذي لبسته ولكن ما هم طالما انه القطعة الفريدة المغرية· تأتي إليها سيدات باحثات عن 'لانجري' من عصر آخر، عن قمصان نوم الدانتيل الفرنسية المرهفة تلك التي وخزت الإبر أصابع صناعها مرات ومرات، عن مردات وشراشف وبرادي مطرزة بألف خيط وخيط··· يقصدها كل من له ولع بالحرير، بالقطن، بالكتان، بالصوف بالفراء بالجلد··· كل من يبحث عن حصيرة آسيوية أو سجادة عجمية· عن زي من أزياء الفولكلور الفرنسي العديدة أو فستان غيشا يابانية· عن زخارف دمشقية أو لوحات صينية· عن كاميرات سينما من عصر 'الأخوة لوميير' أو أدوات الصيد وعدته· عن ميداليات عسكرية ولى أصحابها أو اسطوانات ما زال مغنوها أحياء يرزقون· عن أسلحة للزينة ومدفأة انطفأت منذ دهر· عن حصان خشبي أو قناع أفريقي· عن جواهر متلألئة أو أصداف خاب بريقها·
تجد في أروقتها طاولات البلياردو التي تخلى عنها أصحابها بعد أن أفلسوا· ثريات من كريستال تنتظر من يعلقها مجددا في سقف دارة عز· لوحات وقعها مشهورون وأخرى أنجزها مجهولون لم يسمع احد بهم· تجد متاعا خلفه ثري وراءه فباعه ورثته لأحد تجار السوق بعد أن تشاجروا طويلا على قسمته·
أسواق للألبسة
ولا تقتصر المعروضات على أثاث البيوت والقصور ولا على القديم وحده· هناك أسواق للألبسة والأحذية والحقائب والأكسسوارات وصرعات المبتكرين التي لا تجدها في أي مكان آخر· وهنا تختلف حركة البيع والشراء ذلك انك لست في غاليري فخم أو سوبر ماركت حديث· لا احد يستعجلك ولا موظفة تعكر مزاجك· ينتظرك البائع بلهفة وكأن ليس هناك شار غيرك في هذا العالم· يشرح لك ويفيض· عموماً لا احد يركض من حولك كما في الأسواق الأخرى إلا إذا تصادفت زيارتك لسوق البرغوت مع زيارة شارون ستون أو كلوديا شيفر أو ريتشارد غير أو كيارا مايستروياني ووالدتها كاترين دونوف المولعين بحسب أوساطهم بأجواء السوق ومتاعه·
مشاهير وشعراء ونحاتون ورسامون وسينمائيون وسياسيون فرنسيون يرتادون سوق البرغوت للفسحة والتبضع، لجلسة في احد المقاهي ولسماع موسيقى الجاز أو الأغنيات الفرنسية القديمة، كأغنيات اديث بياف التي بدأت مشوارها الفني من حانات سوق البرغوت قبل أن تصبح أشهر من صدح بالفرنسية· يرتادونه في رحلة عودة ولو مؤقتة إلى أجواء باريس القديمة وأوساطها الشعبية المتحررة من انضباط الأصول والبروتوكول·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©