الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ترامب وجموح سياسة الهوية

17 أكتوبر 2016 10:42
أتذكر أنه كانت لدينا ذات يوم اختلافات فلسفية وأيديولوجية، وأن السياسة كانت عبارة عن سجال بين الليبراليين والمحافظين، وبين آراء مختلفة بشأن أسلوب الحكم، وقيم أميركا، ودورها في العالم. أما في عامنا هذا، فكل شيء جرى تجريده من ردائه، حتى لم يعد يكسوه شيئ. فالسياسة تنقسم وفق خطوط هوية فجة مثل العنصر والطبقة. فهل أنت أميركي أبيض مولود في أميركا، أم وافد من الخارج؟ وهل أنت من الناس العاديين أم من النخبة؟ لم تعد السياسة تتعلق بالسجال والنقاش كما كان الحال من قبل، وإنما أصبحت تتعلق بمحاولة كل طرف وضع خصومه في خانة المنبوذين. والحق أن دونالد ترامب ليس هو من اخترع هذه اللعبة، لكنه هو من يجسدها بكل تأكيد. وقد حاول مستشاروه، الأربعاء الماضي، إلباسه ثياباً يبدو من خلالها كمسؤول ناضج من هؤلاء المسؤولين الذين نراهم عادة في مؤتمرات القمم، لكن ترامب، وكما هو دأبه دوماً، أبى إلا أن يتصرف حسب طبيعته. ففي خطابه ذلك اليوم عاد مجدداً للمجازات اللغوية المتعلقة بالطبقة والعنصر، والتي كانت قد حددت معالم حملته من قبل، وهي باختصار: إن الحكومة الأميركية باتت في قبضة أقلية «أوليجاركية» تشوه كل شيء من أجل مصلحتها، وإن الشعب الأميركي محاصر بالأجانب الذين يستولون على وظائفه، ويهددون حياة أفراده. والأمر هنا لا يتعلق بأن تينك الفكرتين مغلوطتان تماماً، وإنما يتعلق بحقيقة أن ترامب شأنه في ذلك شأن كل من يتبنون خطاب الطبقة والعرق، يأخذ هاتين النواتين للحقيقة، ويصنع منهما كذبة كبيرة. فهو يرى مثلاً أن الهجرة زرعت بذور الفوضى في أحياء الطبقة المتوسطة، وهو طرح زائف لأن الأبحاث أثبتت أن الزيادة الأخيرة في الهجرة، قد جعلت شوارع أميركا أكثر أمناً، لأن احتمال ارتكاب الأشخاص المولودين في الخارج جرائم عنف هو احتمال مستبعد إلى حد كبير. وترامب يقول إن طوفان المهاجرين، يستولي على وظائف العمال الأميركيين الأصليين غير المهرة، وهي حجة زائفة أيضاً لأن معظم الكتابات التي تناولت الموضوع، أكدت أن تأثير الهجرة في أجور أو وظائف الأميركيين (المولودين في الولايات المتحدة) ضئيل للغاية. يدعي ترامب أن الأغنياء يستفيدون من الهجرة، فيما تعاني جميع الفئات الأخرى: فالأغنياء يحصلون على مربيات أجانب بمرتبات زهيدة، والأطباء يحصلون على ممرضات بتكلفة رخيصة، بينما لا يستفيد الآخرون أي شيء من ذلك. وهي حجة زائفة أيضاً، لأن الأغلبية العظمى من الأميركيين تستفيد من الهجرة، فكل مهاجر جديد، حسب دراسات موثوقة، ينتج 1.2 وظيفة جديدة، لأن المهاجرين الجدد ينتجون ويستهلكون ويساهمون في زيادة النشاط الاقتصادي الإجمالي. والمدن التي تبلي بلاءً حسناً من الناحية الاقتصادية، تعمل جاهدة من أجل اجتذاب مهاجرين جدد، لأن المنافع المترتبة على ذلك كبيرة. ويذكر «تيد هيسون» في دورية «اطلانطيك» أن نيويورك وشيكاغو وهوستون ولوس أنجلوس، تنتج 20? من الناتج القومي الإجمالي، وأن المهاجرين يشكلون 44? من إجمالي المعروض من العمالة فيها. وسياسات الهوية تشوه العملية السياسية لناحيتين: الأولى أنها «مانوية»، أي تقسم العالم إلى قوتين متعارضتين هما الظلام والنور، فأنت إما عامل وإما نخبوي، إما أميركي وإما أجنبي. هذه الرؤية تمثل علامة على الكسل الفكري، حيث لا يمكن اختزال موضوع معقد مثل الهجرة في مجرد فيلم كرتون. الناحية الأخرى، والأكثر أهمية، هي أن سياسة الهوية هي في جوهرها سياسة انقسامية: فنحن في معظم القضايا، سواء تمثلت في الهجرة أو في الاقتصاد، أو في الأمن القومي، نرتفع ونهبط معاً. فالهجرة، حتى مع نسبة معقولة من الهجرة غير الشرعية، تساعد الغالبية العظمى من الأميركيين، كما أن اقتصاداً ينمو بنسبة 3? سيساعد جميع الأميركيين من دون شك. سياسة الهوية، كما يمارسها ترامب وغيره من اليسار واليمين، تصرف أنظارنا عن حقيقة أننا أمة واحدة. فهي تؤدي إلى تآكل إحساس التضامن، وتولد الشك، وبلادة الحس، وعدم الثقة. فالبشر أعقد من أن يجري تصنيفهم على أساس لون البشرة، أو مستوى الدخل، أو الحصول على الجنسية من عدمه. وفي رأيي أن هؤلاء الذين يحاولون اختزال السياسية في هذه الهويات فقط، يمارسون عنفاً حقيقياً ضد الحياة الوطنية. *كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©