الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حب في هذا الزمن

حب في هذا الزمن
10 نوفمبر 2008 23:47
كنت استغرب وأنا أرى زميلات الدراسة وهن يتحدثن مع هذا وذاك هاتفياً مدعيات بأنه الحب، وأنه هو الطريق الأمثل للزواج، كانت دهشتي تزداد كلما استبدلت أحداهن حبيبها بغيره لأسباب كثيرة، واستغرب بأن معظم تلك الحكايات لا تنتهي بالزواج، فكيف يكون حباً حقيقياً وينتهي بسهولة؟ وكيف تنتهي الأمور دائماً نهايات سخيفة لا مستقبل فيها؟ لم تكن لديّ أية اهتمامات طوال سني حياتي الدراسية، وكانت قناعاتي تزداد يوماً بعد يوم بأن الحب الحقيقي لا يشبه أبداً هذه الألاعيب التي تحدث من حولنا الآن، كنت حريصة على إرضاء والديّ وعدم اغضابهما، وقد فرغت فكري وعقلي للمذاكرة والتفوق، ولا شيء غير ذلك حتى أنهيت دراستي الثانوية بتقدير مرتفع، ثم دخلت كلية الطب في إحدى الدول الخليجية· كنت عملية في حياتي، أذهب إلى الجامعة وأنا في غاية الاحتشام والبساطة، عكس زميلاتي الجامعيات، اللواتي كن يحرصن على الخروج بمظهر مبالغ فيه، وكأنهن مدعوات إلى عرس، حيث المكياج الصارخ، والعطور والإكسسوارات، والتسريحات، وقد كانت الواحدة منهن حريصة على جمع أكبر عدد من المعجبين، أما أنا فلم ألفت انتباه أحد، ولم يلفت انتباهي أحد، على الرغم من أن الكلية كانت مختلطة· أكملت دراستي بنجاح وعدت لبلدي في وقت قياسي أحمل الفرح والتفوق· عملت في أحد المستشفيات في الدولة، وغمرت نفسي بالعمل لاكتساب الخبرة المهنية الكافية، وفي ظل انشغالي بالعمل، مرت السنون دون أن أشعر بها، حتى اقتربت من سن الثلاثين، لم أشعر يوماً بالحاجة للنظر في حياتي كامرأة، فلا وقت لديّ، وبالطبع فإنني لم اقتنع بوجود الحب الذي تعرضه الشاشات، أو ما يكتبه الأدباء، يمكن أن يغير حال الإنسان ويقلب دنياه رأساً على عقب، ولكن كل ذلك تغير بين ليلة وضحاها· الفتى الوسيم كان لدينا زميل، شاب مميز يعمل طبيباً في قسم العظام، كان محوراً لأحاديث الزميلات، ففي كل تجمع، وفي كل جلسة يكون الحديث عنه، وهو الموضوع الأساسي فيها، كنت استغرب لتلك اللهفة التي تبديها الكثيرات نحوه، خصوصاً تلك الزميلة بعينها، إنها من عائلة ثرية، وهي إنسانة متكبرة وجميلة بشكل ملحوظ، لا أدري لم أصرت تلك الفتاة على لفت انتباه الشاب، وقد تحدث الباقيات بأن لا رجل يستطيع مقاومتها أبداً، وأنها ستفوز بذلك الشاب مهما كان الثمن· كنت استمع إليهن باستغراب شديد، يتحدثن عنه وكأنه فارس الأحلام المثالي لكل واحدة منهن، وقد كن يخططن بشكل سري للإيقاع به، كل ذلك التحدي وكل تلك الأحاديث أعطتني مبرراً وفضولاً بسيطاً للنظر إليه، بصراحة أردت معرفة ما يمكن أن يميزه عن غيره من الرجال· عن طريق الصدفة، كنت ذاهبة إلى قسم العظام وشاهدته، ليتني لم أفعل، بقيت متسمرة في مكاني، أحاول إغلاق عيني ولكني فقدت السيطرة عليهما، لا أدري ما هو المرض الذي أصابني عندما نظرت إليه، كان منهمكاً في مطالعة ملف أحد المرضى، اقتربت خطوات، لا أدري من أين جاءتني تلك الجرأة، كلما اقتربت ازداد المرض الغريب الذي اجتاحني، كأن تياراً كهربائياً انطلق منه وأثر في كياني كله· بقيت واقفة فرفع بصره نحوي ثم ابتسم، عندها شعرت بأنني سأصاب بالإغماء، ارتبكت وتلعثمت وكأنني مريضة، أو خرساء، ثم انصرفت من أمامه وكأنني أجر قدمي جراً· التبدل عدت إلى مكتبي وكأنني إنسانة أخرى، لم أعد أبداً كما كنت، حاولت أن أبدو طبيعية، ولكن بلا فائدة، حاولت تجاوز هذا الوضع الغريب، ولكن محاولاتي باءت بالفشل، عدت إلى كتبي التي قرأتها من قبل، وإلى ملاحظاتي التي دونتها، علني أعرف ما الذي أصابني، فلم أجد شيئاً· على غير عادتي جلست أتنصت على أحاديث الزميلات أثناء الاستراحة، تلك الأحاديث التي لم تكن تعجبني أبداً، ثم بدأت برفع حواجز الصمت والخجل الذي يلف شخصيتي، سألتهن عن تجاربهن العاطفية، علني أجد حالة مشابهة كحالتي، فتستقر نفسي، ولكني بعد الأسئلة والقراءات وجدت بأن هذا المرض الذي أصابني هو الحب من نظرة واحدة، وأن أخطر أنواعه عندما يكون من طرف واحد، لأنه يقضي على صاحبه ويحرقه بنار لا نهاية لها، للأسف، أصابني هذا المرض الخطير دون إرادتي· وهانذا أقف أمام رجل غريب، لا أعرف عنه شيئاً، ولم أتحدث معه بكلمة واحدة، وها هو يؤثر بي كل هذا التأثير الخطير، فيجعلني أتحول من إنسانة قوية متماسكة لا تفكر إلا يعقلها، إلى إنسانة هشة محلقة في الفضاء، محمومة، متألمة، تتحسر بزفير ساخن طوال الوقت، الغريب هو أنه لم يفعل شيئاً، ولم يقل حرفاً، ولكني صرت في وضع غريب لا أحسد عليه· حاولت أن أقنع نفسي بأن كل هذه الأمور هي نتيجة طبيعية لفعل الإيحاء، فلربما قد تأثرت به بسبب حديث الزميلات المستمر عنه، وأنني مع الأيام سأنسى هذه المشاعر، وسأعود إلى طبيعتي ولكن ما حدث هو أنني صرت كلما سمعت باسمه أو لمحته ولو من بعيد فإنني أتأثر وتنقلب أحوالي بشكل غريب· ليس هذا فحسب، وإنما تطور المرض بداخلي لدرجة أنني صرت أشعر بمكان وجوده قبل أن أراه، وصارت أحوالي تتغير حتى عندما يذكر اسم مشابه لأسمه، أو أرى شخصاً يذكرني به· تمردت على وضعي، حاولت أن أسيطر على هذا المرض الذي سيهلكني، فأنا طبيبة، وإن لم أنجح في علاج حالتي، فكيف سأنجح في علاج الآخرين؟ ملئت عقلي وكل تفكيري بهذه الحكمة، خصوصاً وأن الرجل لم تظهر عليه أية علامات تدل على معرفته بي، ثم تذكرت قول الزميلات بأنه من النوع الذي يحترم زميلاته، ولم يحدث أبداً أن استغل عمله في تكوين علاقات مع علمه بكثرة المعجبات من حوله، إلا أنه يتعامل مع الكل باحترام لا يعطي المجال لأية تحركات· حرصت على عدم تواجدي في مكان إذا شعرت وجوده فيه، وصرت أبتعد عن سماع الزميلات في حديثهن عنه، ولا أتنصت على تلك الزميلة التي تبذل كل جهودها للإرتباط به بأي ثمن، وقد وصلت إلى حالة من الاستقرار تقريباً، لولا قدري الذي أراد شيئاً آخر غير ما أردت· فعل القدر أصبت بحادث سيارة وتم إدخالي إلى قسم العظام لتلقي العلاج، وقد شاء القدر أن يكون ذلك الشاب هو الطبيب المشرف على علاجي، هذا الاجتياح القوي لمشاعري حطم كل ما اتخذته من احتياطات للابتعاد والتخلي عن فكرة الحب· صار يمر عليّ يومياً، فأشعر بأني أفقد سيطرتي على قواي وأحاسيسي، وأن الرجفة تتملكني وبأنني سيغمى عليّ في أية لحظة، حتى صرت أدعو ربي بأن ينهي كشفه بسرعة ويبتعد عني قبل أن يحدث لقلبي مكروه· على غير ما كنت أرجو، فقد كان يتعمد إطالة بقائه في غرفتي، وقد كنت أفكر بأن ذلك الاهتمام يعود لكوني زميلة له، ولست مريضة عادية ولكن الأمور بدأت بالتطور تدريجياً، فبعد أسبوع واحد من بقائي في المستشفى، صار يحدثني عن أمور مختلفة بعيدة عن الصحة والعافية وأمور العمل، ثم صار يسألني عن أشياء تخصني، وعندما وجدني لا أسأله عن شيء، استفزني قائلاً: ألا يهمك أن تعرفي عني شيئاً؟ سكت ولم أجب ثم استجمعت شجاعتي وقوتي وكل ما أملك من طاقة وقلت له: نعم أريد أن أعرف عنك كل شيء· ابتسم تلك الابتسامة الأخاذة، وقال: أنا رجل متزوج ولديّ طفلان!! صدمت صدمة عنيفة وتمنيت أن يغرب عن وجهي، دمعت عيناي دون إرادتي، وكدت أن اقلب وجهي للحائط لولا أني لاحظت بأنه ساكت وأن دمعات ترقرقت من بين رموشه الكثيفة، ظللت أنظر إليه باستغراب، ولم أمنع دموعي من الانزلاق بحرية على خدي، لا أدري ما هي حقيقة مشاعره، انتظرته ليكمل حديثه فقال: أعيش حياة زوجية مليئة بالتعاسة، زوجتي إنسانة غير متعلمة، لا أجد أي نوع من التواصل بيني وبينها، لا في العقل ولا في المشاعر ولا في الفهم والتقدير، آلاف الأميال تفصل بيني وبينها وهي تدرك كل ذلك، تزوجتها وأنا طالب في الثانوية العامة، بضغط من والدتي، فهي ابنة خالتي اليتيمة التي تربت في بيتنا بعد وفاة والدتها وزواج والدها، كنت وقتها مجرد شاب مراهق، لا ينظر للمرأة سوى نظرة الرغبة الجسدية، فتزوجتها· أنجبت لي طفلين ولكني أدركت بأنني أخطأت خطئاً كبيراً بأقدامي على هذا الزواج، بعد أن عاشرتها وأيقنت بأنها إنسانة غير قادرة على التطور، أفقها محدود جداً، وعالمها يدور فقط في المطبخ والعناية بصغارها، حتى بدأنا بالانفصال التدريجي، فأصبحت لي غرفة نومي الخاصة بي، وصرت مثل الضيف في بيتي، أنا في واد وهي في واد آخر· كرست حياتي للدراسة والعمل، وكلما كبرت في السن اتسعت آفاق تفكيري وكبرت الهوة بيني وبينها، هذا بالإضافة لعدم وجود الحب بيننا، فشعوري نحوها، هو نوع من العطف والتقدير لأنها أم أولادي، وابنة خالتي· لا أنكر بأنني شعرت بسعادة طاغية عندما كاشفني بتلك الحقائق عن حياته، وقد فكرت بأنه ربما شعر بنوع من الثقة والأخوة بيننا، لذلك أراد أن يزيح عن كاهله هذا السر، ولربما أرادني أن أوصل حكايته لأحدى الزميلات، كي يمهد الطريق إلى خطبتها، فكرت في كل الاحتمالات، ولم أفكر باحتمال واحد، هو أنه سيختارني أنا بالذات من بين الجميع· تحقيق الحلم قبل خروجي من المستشفى بساعات، جاءني وهو في عجلة من أمره، خوفاً من ضياع الفرصة، أمسك بيدي بجرأة فشعرت بقشعريرة رهيبة تسري في جسدي· علم بارتباكي الشديد فترك يدي وقال: منذ اللحظة التي رأيتك فيها، هل تتذكرين ذلك؟ كنت واقفة أمامي تنظرين إليّ بصمت، ثم سحبت نفسك دون أن تتحدثي بكلمة واحدة، منذ ذلك اليوم وأنا أشعر بأنك قد أثرت بي تأثيرا غير عادي، حاولت الاقتراب منك، ولكنك كنت تتهربين باستمرار، سألت عنك وعرفك كل شيء عن حياتك، ولكني كنت خائفاً من أن مشاعرك تجاهي ليست مثل مشاعري أنا، ففكرت بأنك كنت من نصيبي فلابد من أن الله سبحانه وتعالى سييسر الأمر وستكون هنالك فرصة مناسبة لتعرفنا بشكل مناسب· الآن وقد وضعك الله سبحانه وتعالى بين يدي، فلن أضيع الفرصة فما هو رأيك؟ سكت، لم أستطع أن أقول كلمة واحدة، وظلت الدموع تنهمر من عيني، أمسك بيدي مرة أخرى وقال: أريد أن أتزوجك فهل توافقين؟ شعرت بأنني أسعد إنسانة على وجه الأرض، بعد أن تحقق حلمي، فها هو الرجل الذي أحببته يبادلني نفس الشعور، ويطلبني للزواج، المشكلة التي كانت تقلقني هي وجود امرأة وأطفال في حياته، فهل سننعم بذلك الحب مع وجودهم؟ هذا الشيء جعلني أطلب منه مهلة للتفكير قبل اتخاذ القرار، فوافق وهو مكره، فبقيت علاقتنا محدودة ضمن الحديث الهاتفي، لأن ظروفنا لا تساعد على اللقاء· في أحد الأيام كنت مع والدتي وأختي في أحد مراكز التسوق، شاهدته هناك مع زوجته وولديه، أتجه نحوي وسلم علينا، ثم قدمني لزوجته قائلاً: أقدم لك زميلتي· الطبيبة الماهرة· نظرت إليها جيداً فأصابتني الصدمة، فهذه المرأة التي تقف أمامي ليست كما تخيلتها، إنها شابة جميلة وأنيقة، بل هي أجمل مني بكثير، أما الولدان فكانا متشبثين به بشكل غريب، وكأنهما شعرا بأنني سأخطف والديهما منهما· ذلك اللقاء دمرني، حطم كل قراراتي، فتراجعت في الحال، وأخبرته برفضي للزواج في الليلة نفسها، وكعاتي على ترويض نفسي، فقد منعتها من الضعف والاستجابة لاتصالاته، وصده بشدة، حتى إنني شعرت بالرضى عن النفس، وغمرت نفسي بعمل شاق متواصل، ولم اسأل عنه وعن أخباره معتقدة بأنني قد حققت معجزة بانتصاري على ضعفي، بعد أن وقفت موقفاً إنسانياً سأكافأ عليه، لأنني حافظت على تلك الأسرة· بعد ثلاث سنوات مرت صادفت إحدى زميلاتي السابقات، فصارت تحدثني عن أخبارهن، وكم كانت صدمتي شديدة عندما أخبرتني بأن حبيبي قد تزوج من زميلتنا التي كانت تراهن الجميع للحصول عليه، وأنها أجبرته على تطليق زوجته وقد سيطرت عليه بشكل كامل· هنا عرفت بأنني غبية، وأنني قد أضعت فرصة حب نادرة كانت ستغير مجرى حياتي كلها، وأنني قد تخليت عنه وتركته ليمر بتجربة زواج أخرى فاشلة مع امرأة تزوجته لتكسب الرهان، وهي شريرة لدرجة أنها أثرت عليه ليطلق زوجته، وبالطبع فإنني لم أفكر بهذه الطريقة لو أنني تزوجته، فيالخيبتي، ويالغبائي، بعد أن ضيعت حباً رائعاً وشعوراً عظيماً لا يمكن إيجاده في هذا الزمن·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©