السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سجين اللغة الواحدة واللغتين والشقيقة

سجين اللغة الواحدة واللغتين والشقيقة
28 يوليو 2010 20:40
للأسف، أنا سجين اللغة الواحدة، ولعلي أحس بضغط هذا السجن حين يتحدث أصدقائي عن اطلاعهم علي مواد أو كتب باللغات الأخرى، لا أستطيع الاطلاع عليها، وبالتأكيد، فإن الفجوة في حياتي بيني وبين التكنولوجيا وخصوصاً: الهواتف النقالة والكمبيوتر، تعود في جزء كبير منها إلى ضغط ذلك السجن، بل وأكثر، فالمرء يحس نفسه شبه معزول في بلد يزخر بعشرات الجنسيات، وبالتالي اتفقت حياتهم على الحديث بلغة مشتركة، هي في حالة دولة الإمارات ومنطقة الخليج الإنجليزية. ولقد خسرت كثيراً من الصداقات نظراً لضعفي في التحدث بهذه اللغة أو غيرها، وتكبد قلبي إخفاقات لا أظنها ستحدث لولا هذا “الشؤم” اللغوي. يزداد هذا السجن ضيقاً حين يكون المرء منشغلاً بالكتابة وأمورها، وبصراحة فإن الكتّاب “سجناء اللغة الواحدة” أحسهم يعانون من “فقر دم” ثقافي. ولعل أغلب الضعف والاستسهال والسطحية، والتي قد تسم الحراك الثقافي في منطقة عائد جزء منه إلى قلة اطلاع كتابها على الأفكار والإبداعات في لغاتها الأصلية. وبالطبع فإن التحدث باللغة الإنجليزية أو الهندية أو الإسبانية لا يعني أبداً القراءة أو القدرة على القراءة والتوغل في مستودع هذه اللغات الخيالي والمعرفي. وبالتأكيد فإن المؤسسة التعليمية مسؤولة إلى حد كبير عن هذا النقص المركب، فخريجي الأكاديميات الغربية، على سبيل المثال، خاصة أولئك الذين ينذرون أنفسهم لاحقاً ليكونوا كتّاباً أو بحّاثة، يتركون تلك الجامعات وهم على علاقة قوية بأكثر من ثلاث لغات، وأحياناً يعرفون لهجاتها المختلفة وأسرارها التي قد لا يعرفها جميع الناطقين الأصليين بها. تجربة المهجر وحتى تجربة المهجر العربي المديد لم تكن مفيدة جداً على هذا الصعيد، فالكثير من المهاجرين لا يعرفون جيداً حتى اللغة الرئيسية في بلد أقاموا فيها لعقود. وقلة من المثقفين هي التي تشبه النموذج الذي قدمه الكاتب والمترجم العراقي كاظم جهاد، فهذا المهاجر من الأرجح أنه تكبد المشاق، وسوء الفهم من مجايليه، وهو يذرع الفضاءات الأوروبية متوغلاً في معرفة وإتقان لغاتها، فهو يعرف إضافة إلى العربية والفرنسية، الأسبانية والألمانية، ولربما يجيد لغات أخرى غيرها. وإذا تجربة “المهجر” في هذا المجال من “الضعة” اللغوية، فإن تجربة الأكاديميين العرب الدارسين في الخارج لا تقل عنها سوءاً. فنحن نعرف، ويعيش بين ظهرانينا، كما يقولون، حملة ماجستير ودكتوراه من جامعات أجنبية، لا يعرفون إطلاقاً اللغة التي تتحدث بها مجتمعات تلك الجامعات، فلا تعرف كيف حصلوا على درجاتهم العلمية تلك. وإذا كانوا هؤلاء ليسوا بغالبية، أو أنني لا أريد أن أقول ذلك، أو ليس هناك ما يثبت ذلك، فإن الغالبية من هؤلاء يندر من بينهم من أقام علاقة قوية مع لغة المجتمع الذي درس فيه. ولاحظ البعض أن وجود عشرات الجنسيات في منطقة الخليج قد تكون دافعاً حقيقياً كي تعمل المؤسسات الخليجية في هذه المنطقة على تدريس لغات أهم تلك الجنسيات: كالفارسية والهندية والأوردو، ولغة المليبار والصينية واليابانية.. وغيرها. فدراسة هذه اللغات من قبل عدد واسع من أبناء الخليج يجعلهم يتحلون بفهم أعمق لمجتمعاتها، كما يخلق نوعاً من “التفهم” المشترك يعزز من صلابة النسيج الاجتماعي. هذا غير أنه متى ما اتسعت هذه الظاهرة، فإننا سنكون قادرين على قراءة إنتاج الهنود والصينيين واليابانيين المعرفي والخيالي مباشرة ومن دون وسيط. أي سيعزز من ظاهرة المترجم “الخليجي”. فبالطبع لا يوجد أوضح من أنه وبعد أكثر من نصف قرن على هذه “الخلطة” التي أحدثها النفط في هذه المنطقة بين شعوب ولغات متعددة، فإننا لا نكاد نلمس حركة ترجمة متجهة من الخليج نحو الشرق تحديداً، والعكس. وكل ما هنالك، أو ما تحقق، محاولات فردية لا تغني ولا تشبع من جوع. والى الآن تعتمد الثقافة العربية في قراءة المنتج الثقافي الشرقي من فارسي وهندي وصيني وغيره على لغات وسيطة هي بالتحديد الإنجليزية والفرنسية. ولقد درس الكثيرون هذه الظاهرة ومدى تأثيرها في خلق فجوة بين القارئ والنص المترجم من لغة إلى لغة إلى لغة، وهكذا، لكن لربما قلة درسوا هذه الظاهرة من منطلق علاقة المترجم العربي هنا بهاتين اللغتين “الكولونياليتين” الإنجليزية والفرنسية، والفروق الدامغة بين “المترجم” العربي “المستَعْمَر” من قبل الفرنسية. ويرتفع الصوت المتحدث عن “الهوية الوطنية” في منطقة الخليج في السنوات القليلة الماضية، ولكن كثيراً ما يُنسى أن النقاش دائماً يبقى في وضع ثنائية بين العربية التي تُعتبر هنا لغة “الهوية”، والإنجليزية، ففي مثل هذا التقابل لن يكون الانتصار الدامغ على الأرجح إلا للإنجليزية. ليس لتطور أساليب تدريسها، ولا لأنها لغة “العولمة” فحسب، وإنما لتأثيرات تلك “الثنائية” على وجه التحديد. فالصراع هنا قد حدد أرض المعركة: العربية في مقابل الإنجليزية. وهذا برأيي على الأقل تفكير مخفق استراتيجياً (مالي بدأت بالتحدث كعسكري هنا؟)، فالإنجليزية، من المفروض، ونضع هنا أكثر من خط تحت كلمة: المفروض، أن تكون لغة من اللغات التي على ابن الخليج، والعربي عموماً تعلمها، وبالتالي فإن هذا الطالب، كما يبدو لي، سيكون أكثر انسجاماً مع نفسه حتى يعرف جيداً الهندية والإسبانية والكورية، إضافة إلى العربية والإنجليزية. أو، حتى يتحول الأمر إلى مبالغة تعجيزية، يعرف على الأقل ثلاث لغات. لكن النظام التعليمي القائم حالياً في مجتمعاتنا يبدو عاجزاً كما تفهم الضرورات النفسية والاجتماعية، فالقوالب التي صُبت فيها لا تمشي عليها القطارات جيداً، لكن تغييرها كذلك، سيغير من طبيعة القطارات واتجاهاتها. والى مستقبل قريب سيبقى الكثيرون من “سجناء اللغتين”، لكن هؤلاء على العموم يبدون، ومتى ما عرفوا اللغتين جيداً، يبدون أفضل حالاً بكثير، من أمثالي “سجناء اللغة الواحدة” والذين نحتاج إلى معجزة تخرجنا من هذا السجن، معجزة كـ “الشقيقة”. «الشقيقة» سارة فلقد حدث (كما تناقلت الصحف في أبريل من هذا العام) أن تعرضت سيدة بريطانية اسمها سارة كولويل (35 عاماً، والتي كانت تتحدث بلهجة سكان المقاطعة الغربية في انجلترا التي تمتاز بثقل إخراج المقاطع الصوتية) إلى “متلازمة اللهجة الأجنبية”، تتحدث بـ “اللهجة الصينية”، وهذه المتلازمة هي أعراض مرضية تحدث للأشخاص المتعرضين لصدمات أو أعطاب في الدماغ، وقد شُخصت لدى نحو 20 شخصاً حول العالم. وكما جاء في الصحف فلقد “أدت حالة الصداع النصفي النادرة التي عانت منها المريضة إلى توسيع الأوعية الدموية في دماغها، وظهور ما يشبه أعراض السكتة الدماغية خلال النوبة وما بعدها”. ونقلت وسائل الإعلام البريطانية عن كولويل، وهي مديرة لبرنامج لتقنيات المعلومات، تسكن منذ صغرها في مدينة بلايموث: ـ إنني لم أزر الصين في حياتي إطلاقاً... لقد كانت الأسابيع الأولى بعد النوبة غريبة جداً، ولكنني الآن منزعجة من أن تظل هذه اللهجة الصينية ملازمة لي طيلة الحياة”. وأضافت أن “أصدقائي يظنون أنني أتلاعب بالألفاظ”. أما الأطباء الذين درسوا حالة كولويل فقالوا إن متلازمة اللهجة الأجنبية هذه تحدث “بسبب الأضرار التي تتعرض لها أجزاء الدماغ المسؤولة عن الوظائف اللغوية للإنسان، وكذلك بسبب الضرر الذي تتعرض له المهارات الحركية اللازمة لتشكيل الكلمات ونطقها. وهذا ما يتسبب في اضطراب نسق الحديث وتشوهه. ولذا فإنه يظهر على شكل لهجة أجنبية لدى المتحدثين بلغتهم الأصلية عند إصابتهم”. وبعيداً عن انزعاج كولويل وأصدقائها، فإن المعجزة التي انتظرتها للتحرر والانعتاق من “سجن اللغة الواحدة” أن أصاب بمتلازمة أشد يمكن أن أسميها بـ “متلازمة اللغات الأجنبية”، فأصحو في الصباح كي أقرأ باليابانية صفحات من رواية لكاوباتا، وعند الظهيرة أخرج إلى مقهى مطل على البحر (في الأيام التي يُقال لها شتاء طبعاً) كي أقرأ سونيتات شكسبير باللغة الإنجليزية القديمة. ولا بأس أن يكون معي النص الأصلي السومري لجلجامش. وبعد أن يصفو ذهني، وتتسع روحي للمزيد من الأشخاص والأماكن لا بأس أن أذهب إلى مقهى الدانة، وأجد هناك “بيتي” أقدم نادلة أعرفها في أبوظبي، وأتحدث معها بالفلبينية الموقعة عن تكسر الأمواج كالخراف على كورنيش مانيلا، وكيف كانت تتنقل الغيوم على رأسي في سماء تلك المدينة كالمحمل الذي يحمل العروس في الصحراء العربية. وإذا ما احتك بي أحدهم، فسأقرأ عليها قصيدة الغراب لادغار آلن بو، بلغتها الأصلية، وأصيح: Never, Never, Never. ولن أقرأ بعدها جبل الروح إلا بالصينية، ولا فاوست جوته إلا بالألمانية، ولا أستطيع من جديد قراءة كل دويستوفسكي، لكن “الجريمة والعقاب” سأقدم إجازة من العمل لأسبوع، وأقرأها بالروسية. كيف هي فرنسية بودلير، أو بأي لهجة من لهجات بريطانيا كانت تتحدث فرجينا وولف. سأترجم أشعار البحارة الهنود إلى العربية، وسأقف على مضيق هرمز كي أقرأ أقوال جلال الدين الرومي بالفارسية عن العشق، وبالفارسية كذلك سأتحدث هناك عن ابن عربي الأندلسي، الذي أبحر بباخرته المعرفية حتى اخترق آفاق العالم القديم. وبالطبع بإمكاني ترديد مقاطع شعرية من السنسكريتية حتى وأنا جالس أشرب الشاي مع زوجتي. ولن ينام صديقي النحات البلغاري سفلين ليلته تلك، بعدما أتكلم معه طويلاً ببلغارية مطلقة، وأقول له: تصبح على خير، وبالبلغارية طبعاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©