الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الخروج على الأيديولوجيا..

الخروج على الأيديولوجيا..
9 أغسطس 2017 18:58
كيف ينشأ المفهوم؟ يرى مونتين Montaigne، من روّاد المشككين في المقاصد الإنسانية، أن الإنسان وحده يضع المفاهيم المغلوطة، بسبب جشعه ونزوعه العدواني واضطرابه النفسي وعدم الثبات على صيغة تعايش، ففي كل عصر هناك تبدل وتغيّر، بينما المخلوقات الأخرى تصل إلى المفهوم من تجاربها المادية، ويبقى هذا المفهوم ثابتاً دائماً. كما إن اللغة الإنسانية تربك المفاهيم، مع تطورها، بينما لغة الحيوان ثابتة. ومونتين يشك شكاً شديداً في ضمير الإنسان، ويرى أنه يسكَ  ضميره، كما تسكّ  العملة، بحسب مصالحه المادية المتغيّرة، وإلا ما الداعي لإراقة الدماء منذ أيام قابيل وحتى اليوم؟ وما «العقل» الذي يفخر به البشر سوى «مصلحة» في الأمور الملموسة، و «تضليل» في الأمور المجردة من أجل المصلحة أيضاً، فهل يصلح هذا المخلوق لوضع المفاهيم؟ ومونتين ليس وحيداً في هذا الباب، فهناك لاروشفوكولد وماكس شتيرنر وتشيرنيشيفسكي وهرزن. مفهوم العَلمانية انتشر مفهوم العلمانية واستخدم كثيراً في العصر الحديث. وتشير الكلمة إلى الأمور الخاصة بالعالم، بالواقع، بالأشياء الملموسة، من دون أي مفهوم ديني، أو معتقد، أو تخيّل، أو أيديولوجيا... إنها معالجة الأشياء بحسب طبائعها، من دون إضافة أي شيء إليها. والكلمة ترجمة للكلمات الأوروبية التي لم يجر تداولها قبل القرن السابع عشر، على أقل تقدير. من هذه الكلمات: secularism- laicism- temporal- mundane&hellip... وهي كلمات بمعنى «أرضي» «زمني» «دنيوي»... خارج مظلة الدين، مع أن الدين لا يعتقد بوجود شيء خارج مظلته. العلمانية فيما يخص الإنسان تعني حقاً الزمني والأرضي والدنيوي والأهلي...، أما فيما يخص الأشياء فهناك العِلمانية... العَلمانية مختصة بمعالجة قضايا البشر، فنقيضها هو الإكليريكية أو الدينية أو اللاهوتية... الخ. لكن من باب آخر لا ينظر العَلمانيون إلى المفهوم باعتباره خاصاً بالعالم (أي البشر) من دون الأخذ بالعلم، فلا بد من إخضاع «الإنسانيات» لمنطق العلم ومنهجه. فالمعالجة من منطلق عقائدي، حتى لو كان إلحادياً، سوف تفشل، لغياب الحيادية والموضوعية. إن إدخال العلم في العالم الإنساني هو من أهم شعارات العَلمانية، ويقصد بها الابتعاد عن المصالح الخاصة. السؤال الآن: هل تتحقق العلمانية بعيداً عن المنازع البشرية، من طمع وجشع، وأيديولوجيات تسلطية ومعتقدات فردية...؟ أين هي هذه العلمانية في التاريخ؟... قد يقال إن الموسوعيين الفرنسيين حققوا ذلك، ولكن بالإمعان أكثر فيما كتبوه نرى أنهم يخدمون عقيدة إلحادية، ويوجهون الشؤون الإنسانية بناء على متطلبات هذه العقيدة، تماماً كما اتهموا الكهنوت بأنه عالج قضايا الإنسان من عقيدة مسبقة... إننا هنا نتذكر مونتين كثيراً... ثم إن هناك مشاكل وتشابكات كثيرة، فهل العلمانية خاصة بالدولة؟ ألا تخص المجتمع المدني مثلاً؟ وكيف يمكن لدولة أن تكون علمانية، وجميع مواطنيها متدينون أشد التدين، ويتبعون الأوامر والنواهي الدينية وليس الدنيوية، أو الزمنية أو الأرضية...؟ فرجل الدين لا يزال موضع مشورة... في العصر الميثولوجي مشكلة الواقعية التي نزعم اليوم أنها تتعلق بالواقع «العَلماني» أي الدنيوي، هي في كونها مفهوم اعتباري، فالإنسان القديم في العصر الميثولوجي كان يؤمن بواقعية «أرباب الرياح»- مثلاً- أكثر من إيمانه بواقعية بيدر الحنطة الذي أمام عينيه، بل أكثر من ذلك، يؤمن أن كل ما يراه زائل، وكل ما يؤمن به، وإن كان لا يراه، خالد. ففكرة الخلود كانت واقعية، وبخاصة عند المصريين، وقد دفعتهم أسطورة الخلود إلى بناء حضارة هائلة. وقانون حمورابي من أكثر القوانين «مادية» ولكن إذا قرأنا المقدمة وجدنا أن الإله مردوخ هو الذي سنّ هذا القانون وطلب من حمورابي أن يطبقه على شعبه... ولو ذهبنا إلى تاريخ اليونان القديمة، وهي من أعرق الدول التي نزعم أنها «علمانية» لوجدنا أنها في كل مراحل تاريخها كانت تدافع عن التقاليد الدينية والمعتقدات الشعبية، لأنها لحمة العلاقة المجتمعية. عندما نقرأ أن فيثاغورس اكتشف أن مربع وتر المثلث القائم يساوي مجموع مربعي الضلعين، نعتقد أن فيثاغورس «علماني» جداً، مع أن الرجل كان يؤمن بقدسية الأعداد، فهذا الاكتشاف «العلماني» نابع من المعتقد الديني، مثل بعض مكتشفات جابر بن حيان، وإيمانه بأشياء وأشياء مقدسة كثيرة. الخلاصة أن العلمانية لا تتنافى مع المعتقدات والتقاليد الدينية وغير الدينية، فلا يوجد شعب بلا معتقدات كهذه، ولكن المشكلة في السياسة التي تستغل هذه الناحية، ففي أرقى حالات المجتمع المدني اليوناني كانت الميثولوجيا، وليس «العلمانية» وراء أعظم الحضارات الراقية. العصر الكلاسيكي تجلى هذا العصر في الفكر اليوناني الذي رأى أن الإنسان مقياس كل شيء، وهذا ما اعتمدت عليه النهضة الأوروبية، وانتبه الناس إلى الجانب التربوي الأدبي، كأفضل سبل التأهيل البشري، فأنشأت الدولة الديمقراطية الملاعب والمسارح، وأشاعت المنافسات الرياضية والشعرية والتمثيلية والموسيقية والرسم والنحت، وأجزلت الجوائز، وكان الأغنياء يندفعون للمساهمة في هذه التنمية الثقافية اندفاعاً لم تعرفه أمة من الأمم، فوصلت اليونان إلى أرقى مجدها معتمدة على قانون علماني منصف بحسب مقاييس تلك الأيام، وعلى ميثولوجيا غنية كانت وراء خلود سمعة اليونان القديمة... في هذا العصر تشكلت اللجان المختصة لترشيح المؤهلين لمناصب حساسة، مما أشاع نوعاً من العدل الدنيوي. وهذه محاولات «علمانية» جداً لحل مشاكل الناس، وإن كانت آدابهم وفنونهم ورياضتهم ذات منبع ميثولوجي. ولعبت هذه اللجان دوراً إيجابياً في الديمقراطية اليونانية، ففي الانتخابات كانت الدعاية الانتخابية تعتمد على شيئين أساسيين: المال والدين، فصاحب المال يستخدم الرشوة ومدعي الدين يظهر التقوى. لكنها، لمنع سلطة المال والدين (أي منع السلطة العلمانية والسلطة الكهنوتية معا) ابتكرت نظام القرعة الذي يتلو الانتخابات، فضاعفت عدد الناجحين، الذين تضع أسماءهم في صندوق أو كيس، ويخرج صبية معصوبو الأعين أمام جمهور المدينة في احتفال رسمي، ويختارون من الصندوق أو الكيس، بحسب المقاطعة، أوراقاً تحمل أسماء من سيمثلون الشعب، فيرسب الباقون، فيضيع مال الراشي، ونفاق المتديّن. وحتى اليوم لم يأخذ قانون في العالم بهذا الإجراء العظيم، الذي يقطع الطريق على السلطة المالية والدجل الديني (وهما من أخطر تهديدات العلمانية)... ومع ذلك أعدم سقراط لسبب ديني، معتبرين أن دعوته تمزق وحدة الشعب. في العصور الوسطى العصور الوسطى هي العصور الدينية المتعصبة قياساً إلى الأديان السابقة، فلم نسمع بحرب دينية قبل ظهور المسيحية، باستثناء ما يخبرنا به «العهد القديم» عن دخول العبرانيين إلى ديار الكنعانيين. والعصور الوسطى هي عصور الحروب الدينية في الغرب والشرق: حرب المسيحية على الوثنية وإبادتها والفتن في العالم الإسلامي (في فتنة الجمل قتل عشرة آلاف وفي فتنة صفين قتل سبعون ألفاً) والفتن بين البروتستانية والكاثوليكية، وبين المسيحيين الروس والوثنيين، ثم الحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش التي امتدت حتى طالت أميركا، وحرب إبادة الشعوب غير المسيحية في الأمريكيتين... هناك شيء واحد لا بد أن نلاحظه وهو أن هذه العصور الدينية قلبت المفهوم الكلاسيكي، فجعلت الحياة الدنيا هي الزائفة والزائلة، لأنها «زمنية» وهمية، بينما هناك حياة أخرى خالدة هي مطلب الإنسان، الذي باتت النظرة إليه أيضاً مختلفة عن النظرة الكلاسيكية، فلم يعد محور الكون، ولا مقياس الأشياء، وانجر الناس وراء هذا المفهوم، فصار القرار الديني هو الأقوى، فأعتى الإقطاعيين لا يجرؤ أن يقف في وجه هذا القرار، فالتف عليه الكثيرون وركبوا الموجة... ومع ذلك كانت المؤسسات الدينية تشكل لجاناً (قومسيونات) خاصة بالشئون الزمنية، تقوم بإدارة هذه الحياة «الوهمية الزائلة»... بينما يتفرغ الإكليروس للحياة الأبدية... إلى أن جاء عصر النهضة وأعاد المقولة الكلاسيكية بأن الإنسان مقياس كل الأشياء... ولكن من غير أن يقولوا بأي شيء نقيسه هو؟... عادت النهضة إلى العصر الكلاسيكي ووقفت عنده، فلم تؤسس القوانين الخاصة بالعلمانية، لا بد أن ننتظر حتى قيام الثورة الأميركية، على رأي هنتنغتون، أو الثورة الفرنسية، على رأي هيغل، حتى نتلمس بداية لنوع من الموضوعية التي تعيد الإنسان إلى دائرة الاهتمام، بحيث تبرز «علمانية» واضحة إلى حد ما، ويقال إن قانون نابليون تعبير عن هذه «العلمانية» وهو أساس لكثير من القوانين الحديثة. في العصر الحديث بدأ العصر الحديث يطرح المفهوم العلماني (ويقصد به حيادية الدولة تجاه كل الاتجاهات السياسية والدينية والاجتماعية... والسماح للمجتمع المدني بدور كبير...الخ) طرحاً جديداً، فقد ربط بين العلمانية والديمقراطية، والاتحاد السوفيتي في العصر الحديث مثال لتهافت العلمانية بسبب غياب الديمقراطية. وفي منتصف القرن العشرين جرت انقلابات شملت أكثر من ثمانين دولة، كلها قيل عنها إنها «علمانية» كأن هناك ربطاً بينها وبين الدكتاتورية. فإن فقدتْ حقوق المرء، فلا فارق عنده لو حكمته طغمة ملحدة أو عصبة دينية، وإذا قلنا إن بلاد الشام والعراق هي بلاد الفتن الدينية، فماذا نقول في ليبيا وتونس والجزائر؟... إن وضع العلمانية مقابل الدين كفرَسَيْ رهان من أفدح الأخطاء. فالمتدين والملحد سواء بسواء في علمانية النظم الاستبدادية، كلاهما يضطهد. إن ربط العلمانية بالديمقراطية هو اتجاه عام في العصر الحديث، أبرز ممثليه فوكوياما وهنتنغتون وتوفلر... ولكن من الصعب العثور على دولة تجسد مفهومهم، فحتى الولايات المتحدة تحصر الديمقراطية في مصلحتها فقط، ولذلك تعاونت مع الدكتاتوريين في أميركا اللاتينية والطغاة في آسيا وأفريقيا أكثر بكثير مما تعاونت مع الدول التي تتسم بالديمقراطية كالهند مثلاً. وعندما تكون المصلحة عمود السياسة، فإن الديمقراطية تنكفئ إلى الداخل، ويظل الخارج رهين المصلحة. وتغطية المصلحة بالدين قديمة حديثة، فعندما غزا «بوش» العراق زعم أنه رأى الله في حلمه وطلب منه ذلك، فذكرنا بحمورابي الذي زعم أن مردوخ جاءه في حلمه وقدم له القوانين إياها. ففي العلمانية العلمية يجب على رجل الدولة أن يضع جانباً المعتقدات المسبقة، ولكنهم يخبروننا أن تشارلز ديكنز كان يدير وجهه نحو الشمال عندما يكتب، لاعتقاده أن الجاذبية هي التي تفعّل الأفكار، فهل يعقل أن نجد رجل دولة أرقى من ديكنز، يمسك الإدارة من دون مصلحة أو اعتقاد مسبق؟ ومن هنا تنبأ توفلر أن «الموجة الثالثة» ستوفر الإدارة السيبرانية cybernetics وستكون هناك «حكومة إلكترونية» تحمي الدولة من الفساد... الخ، ولكن الفوضويين، الذين لم يؤمنوا بقدرة «التربية» على الإصلاح، كما زعم مونتين، أكدوا أن وجود «الدولة والملكية الخاصة والدين» وراء كل طغيان وقهر واستعمار، بل وراء كل الأفكار والمعتقدات الخاطئة والمنحرفة والعدوانية، ومن دون إسقاط هذا الثالوث المرعب من العبث الحديث عن علمانية علمية، أو ديمقراطية نزيهة، أو إدارة عادلة... ثم إن العالم اليوم رهين الدول الكبرى تجري عليه التجارب المختلفة لتأمين مصالحها، فلا علمانية من دون استقلال، من دون رفع وصاية الدول القوية، ومن دون إسقاط الدولة والملكية والدين، كما قال برودون وباكونين وكروبتكين، ولن تقوم دولة علمانية مبرأة من الفساد البشري... إن أقرب التجارب إلى النجاح تجربة اليونان في العصر الكلاسيكي، على الرغم من كل عيوبها، فهي أنجح من برنامج مونتين التربوي، وأفعل- نظن- من حضارة الموجة الثالثة لتوفلر، إنها الوحيدة التي قدمت أعظم مجتمع مدني نشيط في التاريخ، ولهذا حديث آخر. اليونان.. بصيرة العميان في الانتخابات اليونانية القديمة كانت الدعاية الانتخابية تعتمد على شيئين: المال والدين، فصاحب المال يستخدم الرشوة ومدعي الدين يظهر التقوى. لكن، لمنع سلطة المال والدين (أي منع السلطة العلمانية والسلطة الكهنوتية معا) ابتكرت اليونان نظام القرعة الذي يتلو الانتخابات، فضاعفت عدد الناجحين، الذين تضع أسماءهم في صندوق أو كيس، ويخرج صبية معصوبو الأعين أمام جمهور المدينة في احتفال رسمي، ويختارون من الصندوق أو الكيس، حسب المقاطعة، أوراقاً تحمل أسماء من سيمثلون الشعب، فيرسب الباقون، فيضيع مال الراشي، ونفاق المتديّن. وحتى اليوم لم يأخذ قانون في العالم بهذا الإجراء العظيم الذي يقطع الطريق على السلطة المالية والدجل الديني (وهما من أخطر تهديدات العلمانية). سَكُّ الضمير يرى مونتين أن الإنسان وحده يضع المفاهيم المغلوطة بسبب جشعه ونزوعه العدواني واضطرابه النفسي وعدم الثبات على صيغة تعايش، ففي كل عصر هناك تبدل وتغيّر، بينما المخلوقات الأخرى تصل إلى المفهوم من تجاربها المادية، ويبقى هذا المفهوم ثابتاً دائماً. ومونتين يشك شكاً شديداً في ضمير الإنسان، ويرى أنه يسكٌّ  ضميره، كما تسكّ  العملة، حسب مصالحه المادية المتغيّرة، وإلا ما الداعي لإراقة الدماء منذ أيام قابيل وحتى اليوم؟ وما «العقل» الذي يفخر به البشر سوى «مصلحة» في الأمور الملموسة، و «تضليل» في الأمور المجردة من أجل المصلحة أيضاً، فهل يصلح هذا المخلوق لوضع المفاهيم؟ قانون نابليون عادت النهضة إلى العصر الكلاسيكي ووقفت عنده، فلم تؤسس القوانين الخاصة بالعلمانية، لا بد أن ننتظر حتى قيام الثورة الأميركية، على رأي هنتنغتون، أو الثورة الفرنسية، على رأي هيغل، حتى نتلمس بداية لنوع من الموضوعية التي تعيد الإنسان إلى دائرة الاهتمام، بحيث تبرز «علمانية» واضحة إلى حد ما، ويقال إن قانون نابليون تعبير عن هذه «العلمانية» وهو أساس لكثير من القوانين الحديثة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©