سر الكلمة المطبوعة

من ضمن ما جاء به عصر الإنترنت والتوسع في النشر ذلك الفتح الجديد، وهو تراجع سطوة الكلمة المطبوعة. لقد اكتشفنا أن بعض الكلمات المطبوعة ليست هي الحقيقة المطلقة كما كنا نعتقد. هناك الكثير من الهراء والكلام الفارغ. في طفولتي كنت أعتقد أن أي معلومة مطبوعة، صادقة وحقيقة علمية. لهذا وجدت مجلة فنية من المجلات التي يمكن أن تتصفحها في ثلاث دقائق عند الحلاق. كنت أقلب صفحاتها فوجدت صورة على صفحتين للفنانة «فتكات رمش العين».. تقول: فن الإغراء ليس خلع الملابس. الإغراء الحقيقي هو أن تفعل الفنانة هذا بنظرة عين أو كلمة دلال. طبعاً كنت صغير السن جداً لذا لم ألحظ أن الفنانة تخففت من ثلاثة أرباع ثيابها كي تؤكد أن الإغراء ليس بخلع الملابس. وهكذا رحت أؤكد كالببغاء أن الفنانة فتكات رمش العين تعتمد في فن الإغراء على النظرات.. الظريف أنني كنت أؤكد هذا كأنه معلومة وسط أناس لا يهتمون بالأمر البتة. فيما بعد كبرت أكثر واكتشفت أنها تفعل ما تفعله أي فنانة أخرى. الحل الأسهل.. ارتداء ثياب خليعة، أما ما قالته للمجلة فهو دعاية تقولها الفنانات لا أكثر. ذات مرة وجدت مجلة تظهر فيها الفنانة «عزيزة جنح» وهي تلتهم طبقاً من السلطة، وكتبت المجلة تحت الصورة: «السلطة الخضراء هي سبب جمال عزيزة جنح». افتخرت جداً بهذه المعلومة وقلتها في كل مكان.. ذكرتها للمعلمة في المدرسة فأكلت علقة ممتازة.. حكيتها لأبي والأسرة على مائدة الغداء.. كانت أمي تريد أن آكل بعض السلطة، فرحبت بذلك وقلت لها: السلطة الخضراء هي سبب جمال عزيزة جنح. قال أبي في غيظ إن عزيزة جنح ليست جميلة أصلاً كي تقول هذا الكلام، وانفجرت أمي ضحكا. لكن كلما جاءنا ضيف كنت أحرص على إخباره بأن السلطة الخضراء هي سبب جمال عزيزة جنح، فكان ينظر لي في حيرة محاولاً فهم هل أنا مجنون أم مجرد أبله. على كل حال، أؤكد لك أن الخبر غير صحيح. لقد التهمت أطنانا من السلطة الخضراء، فلم أبلغ جمال الفنان علي الشريف أو الفنان عباس فارس. بالتأكيد لن أبلغ جمال الفنانة عزيزة جنح أبداً. لكني على كل حال وجدت هذه المجلة القديمة فأصابني الذهول. كنت وقتها عاجزا عن فهم معنى أنثى جميلة وأنثى قبيحة، لهذا لم ألحظ أن الفنانة عزيزة جنح تبدو مرعبة في الصورة.. تشبه سحلية الأجوانا بالضبط. إذن كان الخبر فاسدا تماما.. الفنانة ليست جميلة.. السلطة ليست سر جمالها.. بل ربما كانت تكره السلطة جداً.. عندما صرت أباً عرفت أن تأثير التلفزيون على الأطفال لا يهمد لحظة. مثلاً دخل ذلك الطفل من أقاربنا إلى حمام دارنا ثم خرج ليقول في ثقة: -«أسطوانتكم ستصدأ» لم أفهم ما يريد.. لكنه كرر هذه المعلومة عدة مرات. فيما بعد عرفت أنه لاحظ نوع صابون الغسيل في حمامنا.. الإعلان يؤكد أن من لا يستعمل مسحوق غسيل «مساحيقو»، سوف تصدأ أسطوانة غسالته الكهربية.. وبعد هذا؟.. يبدو أنه مصير أسود وأن الموت أهون بالنسبة له.. نحن لا نستعمل «مساحيقو» وقد لاحظ الصغير هذا.. صارحتني زوجتي بأنها قلقة خوفا من أن تصدأ اسطوانتنا.. هكذا ابتعت لها علبة عملاقة من مسحوق الغسيل «مساحيقو».. وقد أدركت بعد شهر أن هذا المسحوق بالذات يؤدي لتلف الأسطوانات بسرعة البرق.. قالت لي في دهشة: التلفزيون قال هذه المعلومة.. هل التلفزيون يكذب؟ تنهدت في تعب ثم قلت لها: -«هل تعرفين سر جمال الفنانة عزيزة جنح؟» -«عزيزة جنح ليست جميلة» قلت في ثقة: -«بالفعل.. السبب أنها لا تأكل السلطة الخضراء.. وهل تعرفين سر إغراء الفنانة فتكات رمش العين» -«لا ...» -«السبب أنها لا تنزع ثيابها أبداً... هل فهمت أي شيء»؟ -«لا» -«إذن أنت سعيدة الحظ» لقد تعلمت ألا أثق بالكلمات المطبوعة.. بل يجب أن أشك فيها...!! د. أحمد خالد توفيق