الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المنقذة من الطائفية

المنقذة من الطائفية
9 أغسطس 2017 19:04
أحيط مفهوم (العلمانية) في الكثير من الكتابات والممارسات بالالتباس. فالبلدان الإسلامية (كتركيا) والعربية (كتونس) التي التزمت بالمبدأ، فرّْطتْ بإرثها التاريخيّ: تركيا تخلت عن الحروف التي كُتِب بها أدبها وتاريخها طيلة قرون لصالح الحرف اللاتينيّ، كأن مجرد البقاء في التشكيلات الحروفية وحده شارة و«إشارة بصرية» للتخلّف والماضوية. تونس أدارت ظهرها طيلة الفترة البورقيبية وامتدادها، باسم العلمانية، للتراث العربي - الإسلامي كأنها اعتبرته رديفاً لكل ما هو مناهض للحداثة والتحديث، حتى أن جهلا مطبقاً يسود  جامعات الفنون الجميلة بشأن ما نسميه (الفن الإسلاميّ). على صعيد الأفراد المثقفين، خلّط بعضهم أيما تخليط بين مفهوم العلمانية واليسارية والتحديث ومناهضة الدين، بل اعتبره بعضهم رديفاً للتجديف. ارتباك وريبة ظل المفهوم بالنسبة لجمهور عريض مشوباً بالارتباك والريبة، رغم أن الدولة الوطنية العربية الحديثة، الخارجة من رحم الاستعمار سنوات الخمسينيات - بداية الستينيات، لم تتأسس قط على قاعدة دينية، على نمط الدول الأموية والعباسية والعثمانية مثلاً، إنما على أساس هوية محلية وجغرافية ووفق دساتير (علمانية إذا صحّ التعبير هنا) مستلهَمة من القوانين البريطانية والفرنسية، يُمهَّد لها غالباً بديباجة تذكر أن الإسلام هو دين الدولة الرسميّ. هذه العبارة لم تكن لتعني أن فقرات الدستور تخضع للشرائع الدينية بحال من الأحوال وتُطبِّقُها بالضرورة. لذا كان الفصل بين القانون المدنيّ والمؤسسة الدينية قائماً، بطريقة ملتبسة، منذ بدء نشوء الدولة الوطنية العربية الحديثة، وبوضوح شديد في مجمل القوانين المعمول بها، إلا في القوانين المرتبطة بمؤسسة الزواج والميراث والتبنّي وما يشابه ذلك مما يرتبط بالوجدان والتاريخ، وبفوارق كبيرة بهذا الشأن في بلدان العالم العربيّ والإسلاميّ، اقتراباً وابتعاداً. لم يكن بالإمكان نشوء الدولة الوطنية على أساس سوى قاعدة الفصل، قدر الإمكان ومهما كانت درجة الالتباس، بين المؤسسات الدينية والمؤسسات المدنية، ووفق شروط وظروف العالم العربيّ، دون إعلان هذا الفصل صراحاً للجمهور العريض. لم يكن الإسلام السياسيّ ليقبل قط وما زال بهذا المبدأ. عندما أصدر أحد شيوخ الأزهر، الشيخ علي عبد الرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم» عام 1925، دعا فيه إلى نبذ نماذج النظم التقليدية في الحُكم؛ وكان يدعو بطريقة ما إلى شكل من أشكال العلمانية؛ أو إلى «أسْلَمة العلمانية» على حدّ تعبير محمد عمارة، فقد كان عبد الرازق يُشدّد على أن الإسلام دين لا دولة، ورسالة روحية لا تُعنى بالسياسة. لكن عبارة محمد عبارة «أسلمة العلمانية» متناقضة جوهرياً، ولعلها تُقيم تصالُحاً لا مقام له هنا، بين أمرين يُناقشان في سياقين مختلفين. وإذا ما أدان كبار علماء الأزهر الرسميين كتاب الشيخ عبد الرازق وطُرد من مؤسسة الأزهر، فقد تمّ الأمر تحت حيثية تقول إن «الحكومة الدينية جزء لا يتجزأ من شريعة الإسلام» الذي يرى فيها بعضهم اليوم، تقريباً للدين الإسلامي الحنيف من الكهانة الكاثوليكية الأوروبية التي رفضت بقوة، يوم ظهور فكرة (العلمانية) فصل الديانة المسيحية عن أنظمة الحكم والسياسة في أوروبا. أصل اللفظ أن الأصل العميق للمفردة الأوروبية التي تُترجَم في العربية إلى علماني وعلمانية، تضرب بالتفريق بين  شخص أو مجموعة ذات صبغة دينية، وشخص أو مجموعة ذات صبغة مدنية (كانت تعني في لحظة ما في أوروبا صفة عسكرية = ليست دينية). كانت الكنيسة وممثلوها تُمثّل الصبغة الدينية، وكانت تفرض شروطها على القانون ونظام الحكم وفي جميع مفاصل الحياة. هنا لدينا فارق يؤخذ بنظر الاعتبار، فالــ (مسجد) يختلف بالوظيفة والمكانة والتاريخ عن وظيفة ومكانة الــ (كنيسة) الأوروبية. فإضافة إلى كونه مكاناً للعبادة في الإسلام، فهو يقوم بدور اجتماعيّ وثقافيّ في المدينة الإسلامية، نوع من (أغورا Agora) يونانية: مكان لتجمّع الناس من أجل تبادُل الأفكار والأعياد والصلوات ومناقشة شؤون الحي أو المدينة وتوزيع المنح والصدقات والطعام (وهذه وظيفة اقتصادية) على الفقراء والمحتاجين، قبل أن تأتي الدولة العربية الحديثة وتربطه بمؤسسات الدولة (مثل الأوقاف أو وزارات الشؤون الدينية)، مانحة إيّاه صفة واحدة وحيدة بصفته مكاناً للصلاة حصراً، مُبْعِدَةً عنه وظائفه التاريخية كنسخة من (الأغورا) اليونانية. هذا هو معنى ودلالة (المسجد الجامع) بالنسبة (للمسجد)، فالمسجد الجامع هو مسجد تقام فيه صلاة الجمعة والعيدين ويُعتكف فيه. كما أنه «الموضع الذي تقام فيه الحدود، ومركز يلتقي ويجتمع فيه الناس، ويتبادلون فيه قضاياهم ومنافعهم، ويتشاورون في أمورهم العامة وغيرها» على حد تعبير المتخصصين. وإذا أتيح لنا كتابة (المسجد الجامع) بألفاظ مُقارِبة مختلِفة قليلاً لكتبناه هكذا (المسجد الاجتماعي)، لأنه ينطوي على فكرة الاجتماع التي تُفرِّق المسجد عن الجامع، الأخير يشير إلى علاقة الإنسان بالآخرين والمجتمع بصورة عامة. بعبارة أخرى، لم يكن الجامع يقوم، تاريخياً، بوظائف سياسية على طريقة الكنيسة. وإذا جاز لنا القول سنقول إن جزءاً جوهرياً من الجامع كان منذ البداية (علمانياً)، أو أن وظيفته الجوهرية كانت مدنية اجتماعية بالأحرى، قبل الصفة النهائية، كمسجد فقط، التي أسبغتها عليه الدولة العربية الحديثة. في العودة إلى العلمانية نقول إن مبدأ الفصل بين المؤسسة الدينية عن مؤسسات الدولة، لا يتضمن الحطّ من شأن المؤسسة الدينية، ولا منع المتديّن عن التديّن، ولا دارس الفقه والشريعة والتاريخ الإسلامي عن دراستها. ولا سجن رجال الدين أو التضييق على حرياتهم الفردية. فمنذ أن تم هذا الفصل في أوروبا لم تُغلق «كلية لاهوت» واحدة، وبقيت مستمرة بتدريسها، ناهيك عن فتح الكنائس أبوابها لاستقبال «المؤمنين»، ودوماً دون الاشتباك بشؤون الدولة. «الكنيسة في بيتها والدولة في بيتها» على حد تعبير فيكتور هيغو. نتائج الغياب لغياب الدولة العلمانية في العالم العربيّ، نتائج على مستويات غير متوقعة. إذ على المستوى الديني والطائفيّ لا يحق لأحد، في دولة علمانية، احتكار  التبشير بمعتقداته وعقائده ومنع المختلف عقائدياً (بالطبع لا نتحدث هنا عن التكفير السلفيّ).  العلمانية تمنع التبشير الطائفيّ قطعاً، من هذه الجهة وتلك، بالتساوي وبشكل عادل: المعتقد مسألة شخصية بعيدة عن المنابر الثقافية المحايدة التي تملكها الدولة ممثِّلة الشعب. أما السجال التاريخيّ والفلسفيّ العميق والتراثيّ الموضوعيّ، فهو شأن أكاديميّ مختلف تماماً. القاعدة هي الفصل: المجتمع المدني ومؤسساته هو الذي يقترح قوانينه ويوكل للمؤسسة التنفيذية تطبيقها على جميع المواطنين المتساوين بالحقوق والواجبات. في (العلمانية) يظل الاعتقاد الدينيّ مسألة شخصية محض، يحفظها القانون للجميع شرط عدم إجبار المختلفين، بالرأي والاعتقاد، وترهيبهم وتكفيرهم وتقتيلهم، من هذا الطرف وذاك. العلمانية فضاء لتَساكُن الجميع، ضمن معايير الاحترام، وجعل القانون المدنيّ فوق الجميع. القانون المدني؟ سينبري بعضنا محتجاً، وهو يعيد السجال إلى نقطة الصفر، وقد يكون مسعاه الخفيّ العميق طرح أسئلة الوجود والربوبية والكفر أو الإيمان علينا. مسعى يَمسّ النوايا وتقويل الكلام ما لا يريد قوله. قانون مدنيّ وعلمانية لا يعنيان منذ البدء بحال من الأحول الإلحاد ومناهضة الدين. هذه الحجة مطروحة لجعلنا نرتاب بالعلمانية، ونعاود السير على الطريق الوحيد السليم الذي يختاره بعضهم لجميع أفراد المجتمع عنوةً. العلمانية، تَساكُنٌ للدينيّ والدنيويّ  باحترام مُتبادَل، انظرْ إلى بلدان مثل تونس والإمارات اليوم مثلاً (والعراق ومصر سنوات الستينيات والسبعينيات) ستجد تجليات مختلفة لهذا التساكُن الذي يطبّق المبدأ العلمانيّ عفوياً دون زعم ونظريات وتنظيرات. القانون هو الحكم مهما كانت طبيعة عقبات التساكُن وعدالة تطبيق القانون وتطرّف بعض الجهات. إن تنوُّع العالم العربيّ، جغرافياً وعرقياً ودينياً وثقافياً وحتى طائفياً، يستوجب نظاماً مُحْكَمَاً عادلاً، لا يظلم أحداً، ولعل العلمانية بالمعنى الذي نتكلم عنه هنا، ضروريّ  لجميع البُنى والمكوّنات، لأنه يُجنّب الدولة الحديثة التصارُع بين السكّان، انطلاقاً من الاختلافات العرقية والثقافية والدينية والطائفية، ولأنه يضع القانون والمجتمع المدنيّ نصب عينيه منذ الوهلة الأولى. تَساكُنٌ للدينيّ والدنيويّ العلمانية، تَساكُنٌ للدينيّ والدنيويّ  باحترام مُتبادَل، انظرْ إلى بلدان مثل تونس والإمارات اليوم مثلاً (والعراق ومصر سنوات الستينيات والسبعينيات) ستجد تجليات مختلفة لهذا التساكُن الذي يطبّق المبدأ العلمانيّ عفوياً دون زعم ونظريات وتنظيرات. القانون هو الحكم مهما كانت طبيعة عقبات التساكُن وعدالة تطبيق القانون وتطرّف بعض الجهات. فارقٌ  مُعتَبَر ثمة فارق يؤخذ بنظر الاعتبار بين المسجد والكنيسة، فالــ (مسجد) يختلف بالوظيفة والمكانة والتاريخ عن وظيفة ومكانة الــ (كنيسة) الأوروبية. فإضافة إلى كونه مكاناً للعبادة في الإسلام، فهو يقوم بدور اجتماعيّ وثقافيّ في المدينة الإسلامية، نوع من (أغورا Agora) يونانية: مكان لتجمّع الناس من أجل تبادُل الأفكار والأعياد والصلوات ومناقشة شؤون الحي أو المدينة وتوزيع المنح والصدقات والطعام (وهذه وظيفة اقتصادية) على الفقراء والمحتاجين، قبل أن تأتي الدولة العربية الحديثة وتربطه بمؤسسات الدولة (مثل الأوقاف أو وزارات الشؤون الدينية)، مانحة إيّاه صفة واحدة وحيدة بصفته مكاناً للصلاة حصراً، مُبْعِدَةً عنه وظائفه التاريخية كنسخة من (الأغورا) اليونانية. لا تبشير لغياب الدولة العلمانية في العالم العربيّ، نتائج على مستويات غير متوقعة. إذ على المستوى الديني والطائفيّ لا يحق لأحد، في دولة علمانية، احتكار  التبشير بمعتقداته وعقائده ومنع المختلف عقائدياً (بالطبع لا نتحدث هنا عن التكفير السلفيّ).  العلمانية تمنع التبشير الطائفيّ قطعاً، من هذه الجهة وتلك، بالتساوي وبشكل عادل: المعتقد مسألة شخصية بعيدة عن المنابر الثقافية المحايدة التي تملكها الدولة ممثِّلة الشعب. أما السجال التاريخيّ والفلسفيّ العميق والتراثيّ الموضوعيّ، فهو شأن أكاديميّ مختلف تماماً. القاعدة هي الفصل: المجتمع المدني ومؤسساته هو الذي يقترح قوانينه ويوكل للمؤسسة التنفيذية تطبيقها على جميع المواطنين المتساوين بالحقوق والواجبات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©