الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إدغار موران لـ«الاتحاد الثقافي»: نحن جميعاًً برابرة محتملون

إدغار موران لـ«الاتحاد الثقافي»: نحن جميعاًً برابرة محتملون
20 يونيو 2018 19:31
«الترياق الحقيقي الوحيد ضد البربرية هو إنسانيتنا»، يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران في الحوار الذي أجريناه معه بمناسبة صدور كتاب جديد له بعنوان «حان الوقت لتغيير حضارتنا» (دار L›Aube). مفكّر التعقيد بامتياز، موران، الذي سيبلغ قريباً عامه الـ 96، هو أيضاً ضمير عالمنا اليقظ، كما تشهد على ذلك مواقفه البصيرة والنبيلة تجاه أبرز القضايا الدولية (كالقضية الفلسطينية والاستعمار والبيئة)، ومسيرته الطويلة الموقَّعة بالنضالات. وفي حال استحضرنا مؤلّفاته الغزيرة والمرجعية في ميادينها العلمية والفلسفية المتعددة، لتجلّت عبقريته ومعها دوافع محاورتنا إياه في أسباب أزمة عالمنا الراهن وسُبُل حلّها، موضوع كتابه الأخير. هنا نصّ الحوار الذي أجراه «الاتحاد الثقافي» مع إدغار موران (مولود في باريس 1921)، والمؤلف الموسوعي صاحب «وحدة الإنسان» و»الإنسان والموت»: * كيف ترى وضع عالمنا اليوم؟ ** يخضع العالم حالياً لسيرورتيّ تفكّك ودمج متناقضتين تضعان جميع البشر أمام قدرٍ واحد. فالمخاطر الاقتصادية والبيئوية لا توفّر أحد، تماماً مثل مخاطر التعصّب الديني والسلاح النووي. وكان على هذا الواقع أن يولّد يقظة جماعية، وبالتالي أن يدفعنا إلى التكاتف والالتحام. لكن بدلاً من ذلك، ها نحن نتفرّق وننطوي على ذاتنا، متمترسين خلف هوية خاصة، قومية أو دينية. وبدلاً من استقبال الغريب، نخاف منه. وأقصد بـ»الغريب» المهاجر، الغجري، اللاجئ العراقي أو السوري، وأيضاً كل من أو ما يمنحنا الانطباع ـ المبني أو الاستيهامي ـ بأنه يمسّ باستقلاليتنا وهويتنا الثقافية والحضارية. من هنا أزمتنا الدولية، لا بل قلقنا الشامل، نظراً إلى غياب أي أمل بالمستقبل. * هل تختلف هذه المرحلة من تاريخنا عن المراحل السابقة؟ ** غياب أي أفق أو أمل مسألة حديثة. حتى خلال الحرب العالمية الثانية، تحت الاحتلال أو الإرهاب النازي، كنّا محمولين بأملٍ كبير وواثقين بانبثاق عالمٍ أفضل. فمع أننا اختبرنا الرعب والفظائع بشكلٍ يومي، كان الأمل طاغياً. وهذه المفارقة تميّز كل المراحل المأساوية التي عبرناها على مر التاريخ، باستثناء مرحلتنا الراهنة حيث المستقبل غير أكيد ومقلِق. نقطة انطلاق * ما هو سبب تنامي التعصّب الديني والأصوليات ليس فقط في العالم الإسلامي، بل أيضاً في الغرب؟ ** نقطة انطلاق هذا التعصّب هو الثورة الإيرانية عام 1979 التي أدّت إلى تأسيس سلطة سياسية دينية راديكالية. ثورة جاءت نتيجة اضطرابات عميقة شهدها العالم الإسلامي على مدى طويل. فبعد الاستعمار العثماني الذي دام خمسة قرون، حلّ الاستعمار الغربي الذي دام عقوداً قبل أن يتفكّك بعنفٍ كبير، وبعد سنين حل «الربيع العربي» الذي حمل قوى معاكسة زرعت السديم بأيديولوجياتها الرجعية البربرية. طبعاً، عودة الديني ليست دائماً عنيفة، بل غالباً ما تحصل بشكلٍ سلمي. لكن لا يمكننا تناسي واقع الأشكال العدائية الأخرى التي نمت وازدهرت في أفغانستان، وتتحمّل جميع الأطراف التي كانت فاعلة على أرض هذا البلد جانباً من مسؤوليته. وفي حال أضفنا حرب العراق الثانية، وتدخّل الغرب في ليبيا، ولا مبالاته في سوريا، والصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وجبروت أميركا وبثّها رؤية مانوية لعالمٍ تتواجه فيه قوى الخير وقوى الشر، لفهمنا تمزّق العالم الإسلامي وتطرّف بعض فئاته. سلوك الدول الكبرى ساهم بقوة في انبثاق «القاعدة» ثم «داعش»، وفي تحويل سوريا إلى أرض صراعٍ عسكري رهيب وتحالفاتٍ ظرفية لا تُصدَّق. ترياق ضد البربرية * البربرية تزدهر بينما ذاكرة البربرية، التي كان بإمكانها أن تشكّل سدّاً في وجهها، تتوارى. هل تهاب نتائج هذا التواري للتاريخ؟ وهل أن الإنسان ضحية ثقته المفرَطة والعمياء بإنسانيته، وبالتالي بعدم تكراره غداً ما اقترفه من فظائع أمس؟ ** إبادة اليهود في معسكرات الموت النازية لم تمنع جزءاً منهم من استعمار فلسطين. وهل أن ما تعرّضوا له خلال الحرب العالمية الثانية منع عملاء الموساد وضباط الجيش الإسرائيلي من ارتكاب الفظائع؟ لا. وماذا فعل الشيوعيون حين احتلّوا ألمانيا الشرقية وحرّروا سجناء معسكر «بوشينفالد»، ومن بينهم شيوعيون؟ رموا في المعسكر نفسه معارضيهم أو مَن ظنّوا أنهم معارضين لهم. ومنذ الثامن من مايو 1945، ألم يقترف الفرنسيون، الذين كانوا بدورهم ضحايا البربرية النازية، مجازر سطيف وقالمة وخراطة (الجزائر) التي أبيد فيها آلاف الجزائريين المناهضين للاستعمار؟ المحزن هو أن هؤلاء الضحايا كانوا يطالبون بالأشياء نفسها التي طالب الفرنسيون بها السلطة النازية: الحرية والسلام. تعمل الذاكرة دائماً في اتجاه واحد، وبالتالي لا تقينا من ارتكاب الشر مجدداً. الترياق الحقيقي الوحيد ضد البربرية، سواء كانت فردية أو جماعية، هو إنسانيتنا. يتوجّب ترسيخ هذا المبدأ في عمق ذاتنا لأننا بفضله نتعرّف إلى القيمة الإنسانية لدى الآخر، مهما كانت هويته. من دون هذا الاعتراف بالآخر، الغالي على قلب هيغيل، من دون ذلك الحسّ بالآخر الذي عبّر مونتاين جيداً عنه بتأكيده أنه يرى في كل إنسان أخاً له، نحن جميعاً برابرة محتملون. * غالباً ما نسمع في فرنسا والغرب «مثقفين» يقولون بتعارُض الإسلام مع مفهومَيّ العلمنة والديمقراطية. ما رأيك في ذلك؟ ** يمنحنا التاريخ أفضل جواب. على مدى قرون في أوروبا، ماذا أثبتت الكنيسة الكاثوليكية؟ عدم توافقها مع الديمقراطية والعلمنة. وكان علينا انتظار مطلع القرن العشرين، أي أمس فقط، كي تبدأ مرحلة تعايش بين هذه الكنيسة والديمقراطية والعلمانية، وذلك إثر سلسلة صراعات عسكرية، فلسفية، سياسية، فنية واجتماعية امتدت على طول عصر «النهضة» و»الأنوار» وصولاً إلى الحرب العالمية الأولى. جميع هذه المراحل كانت ضرورية كي تغادر سلطة الكنيسة الفضاء السياسي وتركّز على الفضاء الخاص، «فضاء النفوس». لماذا إذاً نطلب من المسلمين إنجاز بسنوات قليلة، وأحياناً فوراً، ما تطلّب من الكنيسة قروناً من أجل إنجازه؟ بربريتان تتعايشان وتتصارعان * إلى أي حدّ تلعب العقيدة الرأسمالية والنزعة الاستهلاكية الناتجة منها دوراً في غياب الأمل الفردي والجماعي في الغرب؟ ** ثمّة بربريتان مسؤولتان عمّا نحن عليه اليوم. بربريتان تتعايشان وأحياناً تتصارعان. البربرية الشعوبية أولاً، مثل «داعش» اليوم أو النازية والستالينية والماوية أمس. وهذه البربرية، المتواترة في التاريخ، تظهر مع كل صراع، وكل صراع يولّدها. تصدمنا اليوم الصور والشهادات على ما اقترفه «داعش» من فظائع، لكن ملايين الموتى في معسكرات الاعتقال النازية والسوفياتية (غولاغ) والصينية (أثناء الثورة الثقافية)، أو على يد الخمير الحمر (كمبوديا)، تذكّرنا بأن البربرية ليست حكراً على القرن الحادي والعشرين أو العالم الإسلامي. البربرية الثانية التي تهيمن أكثر فأكثر على الحضارة المعاصرة هي بربرية الحساب والأرقام. لم يعد كل شيء رقماً فحسب (الربح، الناتج المحلي الإجمالي، النمو، البطالة، الإحصاءات...)، بما في ذلك الجانب الإنساني للمجتمع وقتلى الحروب، بل تم تقليص كل ما هو اقتصادي إلى مسألة حسابية، وذلك إلى حد ردّ كل علل المجتمع إلى مصدر اقتصادي. وهذه الرؤية الأحادية والمختزِلة تساهم في حلول استبداد الربح والمضاربات المالية والمنافسة الوحشية. لدخول ميدان المنافسة، لم تصبح جميع «الضربات» مسموحة، بل مطلوبة، وذلك إلى حد تنظيم العمل في المؤسسات والمصانع بطريقة غير إنسانية. ويرتبط هذا الوضع المأساوي برفضنا مقاربة واقع العالم والمجتمع والفرد بكل تعقيده. * جزءٌ كبير من عملك كعالم اجتماع وفيلسوف موجَّه لاستكشاف هذا «التعقيد»، أي تداخُل مختلف ميادين الفكر والمعرفة. كيف تفسّر الرفض المعاصر لما هو «معقَّد»؟ ** المعرفة عمياء حين يتم تقليصها إلى بُعدِها الكمّي فقط، وحين نتّبع التجزئة في مقاربتنا الاقتصاد ونفصل كل جزء منه عن الأجزاء الأخرى. بما أن المنطق الطاغي اليوم هو منطق المنفعة على المدى القصير، لم نعد نثقّف أنفسنا في استكشاف ميادين واختصاصات وطُرُق تفكير غير تلك الخاصة بنا، وذلك لأنها لا تفيدنا بشكلٍ مباشر وفوري في إنجاز مهمّاتنا، بينما الحقيقة هي أنها قادرة على إثراء ما ننجزه. الثقافة ليست ترفاً، إنها ما يسمح بالتأطير أبعد من الثلم الذي نحفره. واجب أن نكون عاليي الأداء تقنياً في ميداننا يقود مع الأسف إلى التقوقع في هذا الميدان، وبالتالي إلى إفقار في المعارف. نعتقد اليوم أن المعرفة الوحيدة «القيّمة» هي تلك المرتبطة بميداننا، وأن مفهوم «التعقيد»، المرادف لـ«التفاعل»، ليس سوى ثرثرة. لا عجب إذاً في الوضع الإنساني والحضاري المأساوي لعالمنا. العولمة والخصوصية * بين إيجابيات العولمة، كسهولة التواصل عبر الشبكات الاجتماعية والتكنولوجيات الحديثة، وسلبياتها، كتفاوت الدخل وعدم المساواة وامّحاء عدد من المعالم الهوياتية، نلاحظ في كل مكان توقاً إلى العودة إلى محيط جغرافي أو قومي أو ديني أو ثقافي محدَّد وواضح، وإلى مجتمع متجانس، وبالتالي ميلاً إلى الانطواء على الذات. هل فتحنا أبواب العالم بطريقة متسرّعة وعشوائية؟ ** منذ مطلع التسعينات، تمّ توحيد العالم تكنولوجياً واقتصادياً. وبخلاف ما يعتقد بعضنا، أدّت هذه الظاهرة إلى الانغلاق مجدداً على الذات وإلى تصدّع عقائدي وديني وسياسي وثقافي في أماكن مختلفة من العالم. ليس صدفةً أن هذه العولمة متعدّدة الأشكال ترافقت مع تفكّك الاتحاد السوفياتي وتمزّق يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وظهور استراتيجيات فصل في كل قارة تقريباً. الخطأ الذي ارتكبناه يكمن في عدم سعينا إلى توحيد واجبَين معاكسين: العولمة والخصوصية. العولمة من أجل تشجيع التواصل بمختلف أنواعه بين الشعوب، ما يساهم في فهم الآخر وانتشار الرخاء والرفاهية، والخصوصية من أجل المحافظة على فضاءات وقوميات وهويات ضرورية كي يشعر كل فرد أو مجموعة بطمأنينة داخل معالِم مألوفة. مرةً أخرى، أقول بضرورة المقاربة العلمية والفكرية المعقّدة لحل مشكلة عالمنا اليوم. ضبط التقدّم العلمي * هل ما تعرفه عن طبيعة الإنسان وقدرته على المقاومة أو الرضوخ، على التمرّد أو تقبّل العبودية، يمنحك الأمل في أي ينجح في فرض إصلاح بيئوي وتجدّد روحي مقابل التوجّه المادّي والاستهلاكي السائد؟ ** فقط حين نقف على حافة الهاوية نكتشف ارتكاستنا المنقِذة. لسنا على هذه الحافة بعد، وربما لن نكتشف هذه الارتكاسات، لكن ما زال الأمل منطقياً، أولاً لأن ثمة هامش شكّ في التوقّعات بشأن وضع كوكبنا خلال قرنٍ من الزمن. هل أن الخطر سيكون مدمّراً أم محتملاً؟ هل سيحلّ بسرعة أم ببطء؟ لا نعرف، الأمر الذي يترك أمامنا الوقت لإجراء التغيير الحقيقي والوحيد القادر على إنقاذنا: تغيير العقليات. أن نكافح ضد استخدام الطاقة الملوّثة أمرٌ جيد لكن غير كافٍ. وحده إدراك ما نحن عليه وما نريد أن نكونه يمكّننا من تغيير حضارتنا. ولأننا نفتقر للروحانية والتأمّل والتفكير الجاد والمعقّد، ما زلنا نفشل في تثوير وعينا. * في النهاية، ضرورة تثوير طريقة تفكيرنا تدفعنا حتماً إلى مصالحة شكلين من التقدّم غالباً ما يبدوان اليوم متناقضين: التقدّم التكنولوجي، الذي لم يبلغ أبداً هذا المستوى في الماضي، والتقدّم الإنساني الذي ما زال يسير ببطءٍ تعكسه حالة البشرية... ** ما يمهّد إلى هذه المصالحة هو تنظيم وضبط التقدّم العلمي والتكنولوجي. فمن النووي إلى التلاعُب بالجينات، يشرّع غياب التنظيم والضبط الباب للمخاطر الكبرى. تتعذّر مناغمة التقدّم التكنولوجي والتقدّم البشري طالما أن ديناميكية كلّ منهما مفصولة عن ديناميكية الآخر. فبينما تشهد العلوم والتكنولوجيات والاقتصاد نموّاً مدهشاً بقدر ما هو غير مضبوط، تبدو الأخلاق في حالة بربرية متصاعدة. والقادم أسوأ لأن التطوّر العلمي يُنبئ بإطالة الحياة البشرية، بينما يُنبئ الحلول المتصاعد للآلة مكان الإنسان بتراجع حال العلاقات بين البشر، وبالتالي ببربرية لا سابق لها. هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه البشرية. المشكلة البيئوية الكبرى باعتبار أن البيئة الطبيعية هي واحدة من أبرز اهتمامات إدغار موران، سألناه ما رأيه في الاتفاق الذي وقّعته 21 دولة في «مؤتمر باريس للمناخ» عام 2015؟ وهل أن تغيير علاقتنا بالطبيعة اليوم ووعينا ضرورة المحافظة على ثروات كوكبنا، عبر مراجعة طُرُق عيشنا، يمكن أن يشكّلا فرصة لتشييد مشروعٍ مشترَك وتقاسُم الثقة والأمل بمستقبلٍ أفضل؟ فأجاب: الاتفاق الذي تذكره حدثٌ مهم جداً، ومع أنه يفتقد لبندٍ إكراهي أو مُلزِم، لكن نصّه وُقِّع من قبل دول كبرى ذات مصالح متباينة، وأحياناً متناقضة. وبالتالي، حصل تقدّم كبير فيه مقارنةً بالمؤتمرات السابقة. آسف فقط لحصره بموضوع التغيّر المناخي. طبعاً، هذا الموضوع هو أحد الأسباب الرئيسية للمشكلة البيئوية الكبرى، لكن لا يمكن فصله عن مواضيع الطاقة والتنوّع الحيوي أو البيولوجي وإزالة الغابات والزراعة الصناعية وتجفيف الأراضي الخصبة والمجاعة. تشكّل جميع هذه المواضيع كلّاً لا يتجزّأ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©