الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بين الهاوية والمجد

بين الهاوية والمجد
20 يونيو 2018 19:35
عليكَ ألّا تتوقف عن دفعها للآخرين كما تفعلُ بكَ الأيام، أن تُحاول إيصال هدفك إلى قلوب النّاس بطريقة فنيّة كما تفعلُ تركتكَ من المُعاملة وتاريخ سيرتك من بعدكَ، يُمكنك تسجيل الهدف الأبديّ فقط إذا تركت أثره خارج لوحة التَّرقيم، إذا كنت فعلاً مبدعاً.. الألعاب عامة وكرة القدم خاصّة تنتمي إلى شيء من النَّباهة وشيء من الفنّ، هي المنطقة ما بين أن تكُون فيلسوفاً ورجل دين، تمثيلكَ للوجُود بالفردانيّة والجماعة وتمثيلك للعبادة بالأتباع والهوس، ومهما تصدّينا لمن يخرجها عن إطارها كلعبة ظلّت تلك الغريزة الانتقاميّة الأولى التّي ابتدأت بها موجودة، غريزة انتقام الحقّ من الباطل، انقسام العالم إلى أشرار وأخيار، إلى مُهاجمين ومُدافعين، إلى منهزمين وفائزين.. في الأخير هذه اللّعبة ما هي إلا اختصار لمقُولة سارتر: كرة القدم مجازٌ يعبّر عن الحياة كلّها، بينما يضبطُ الفيلسوف جوفيني العبارة بعكسها قائلاً: بل الحياة مجازٌ يُعبّر عن كرة القدم، وعلينا أن نتمرّن على فهم هذه المجازات التّي تختفِي بين ظهرانيها لعبة تحتكم للتركيز على التّسديد وفنون المراوغة، ومثلما يتجلّى فكر أحدهم على اليد التّي تركلُ القلم على مُستطيل الورقة يمكن للآخرين اعتبار الأقدام تجلّياً لإرادة العقل أيضاً في تدوين فكرته بأقدام تركل كرة على مستطيل عشبيّ، لكن هل هي لعبة السّيطرة أم أنّها الّلعبة المُسيطرة؟ ربّما هي دور حيادي إذا تعلّق الأمر بالتّصنيف. فرضيّات الهوس يميلُ الإنسان أحياناً إلى الانتقام عن طريق الفوضى، وبسنّ فرضيّات الهوس حينما يفشل مَن حوله على أخذه بعين الاعتبار، وتوجهه لمشاهدة مباراة لكرة القدم لا يختلف عن توجهكم لحضُور حفلٍ غنائيّ، السّينما، المسرح أو أمسية شعريّة، هو نفسه ذلكَ الوقت الذّي تستمتعُ فيه وأنتَ تقرأ رواية أعجبتك، أبطالُها غربٌ لكنّهم يُمثّلون تفاصيلكَ، أناسٌ يقولُون عنك ما تُريد سماعه، يعزفونَ لحناً تودّ عزفه أو يمثلون أدواراً خبأتها عنك، وهم أيضاً هؤلاء الّذّين يركضُون داخل إطار حياتكَ بأقدامٍ غير أقدامك. في هذه اللّعبة يجدُ الإنسان أين يتخلّصُ مجازاً من تعبه العنيف برميه على عاتقِ فريقٍ اختاره سلفاً أو في اللّحظة التّي تابع فيها تلك المُواجهة، ويتحوّل ذلك المستطيل فجأة إلى شريطٍ لمقاومة وجوديّة ما بين الهاوية والمجد، وحين ينزعجُ الكثيرون أو يُسعدون في أماكن مُختلفة يصرخُ هؤلاء داخل الملاعب غضبا وبهجة، لأنّها اللّعبة التّي علّقت عليها من جديد الشّعوب آمالها، إنّها الأحزاب الرياضيّة التّي انتصرت لها حينما خذلتها الأحزاب السياسيّة، ويختصر محمود درويش ذلك التّعويض بما كتبه عن مارادونا: مارادونا يتقّدم بالكرة من حيث تراجعت السّلطة، مارادونا يُعيد الجزيرة إلى الأرجنتين وينبّه الإمبراطورية البريطانيّة إلى أنّها تحيا في أفراح الماضي البعيد». فهل ظلَّت اللّعبة وريثة جريمة اللّعب بالرُّؤوس حتى وإن لم يتمّ قطعها بالسّكين بل بالملهاة؟ هل يغيبُ الفكر إن أحببت اللُّعبة؟ هل سنظلُّ نُعاتب إنجلترا على أنَّها من أفدح جرائمها كما صرَّح الشاعر الأرجنتيني بورخيس؟ وهل يجبُ على المُثقَّف أن يُشهر عداءه للعبة من باب هيبة ثقافته حتّى وإن كان مغرمًا بها في داخله؟ هل يُهين حبّ هذه اللّعبة المعرفة؟ هل كرة القدم لعبة غبيّة؟ وماذا نفعل بعشق الجماهير الذّي فاقَ عدده عشق الآلهة من يحميه من التّسفيه؟ الفوضى والنظام أسئلة كثيرة ستتناسل إن صدّقنا أنّ مُيول العالم ينطلقُ كرأس قطار في الاتِّجاه نفسه وتعاسة لئيمة إن صدّقنا فرضيّة الاستغلال كحقيقة مُطلقة بعيدًا عن دراسة هذه الظّاهرة كوحدانيّة كونيّة، فإن لم تكن هذهِ اللّعبة سحراً فإنّها أشبه بالعِبادة، فالإنسان مُقتنع بالوقت الذّي يقضيه في مشاهدتِها أو لعبها ومُقتنع بأنّ العالم من دون هذه اللّعبة هو عالم الظّلمات، ومثلما اقتنع رجل الدّين بقدسيّة المسجد والكنيسة اقتنع كذلك اللاّعب بقداسة الملاعب، إنّه عالم يملؤه ذلكَ الشُّعور الفوضويّ البدائي للنّظام، والمعرفة ما هي إلا تفسير لهذا العالم الكرويّ الصّغير والذي في أصله يعتمدُ على الفوضى كتراجيديا من القلق والحيرة والخوف من المجهُول القادم داخل الزّمن المُحدّد بانتهاء المباراة، ولكن حينما يتوصّل الطرفان لتفسير ما يفعلانه داخل ذلكَ الزّمن تختفي الفوضى ضمن صفّارة الحكم، ومن هنا يتحوّل النظام سيدا على الإنسان فيتمرّن أكثر على الانضباط داخل ذلك المُستطيل في حين تظل بدائية الفوضى على المُدرجات في أوجها لأنّها تخوُض هذه الوجوديّة خارج قانون الصّافرة، فهنالك عالمان داخل العالم الكرويّ الأول يخضع لقانون اللّعبة في حين الثاني خاضع للّعبة ذاتها حتى بفوضويّتها لكنّهما في الأخير ينتهيان بأمر من الحَكم «الفوضى والنظام». ولقد رأينا العديد من المُفكّرين والأدباء الذّين تعلّقوا بهذا الشّغف، اللّعبة التّي تبنتها الشّعوب واحتضنتها الأحياء الفقِيرة قبل أن تُنقل إلى النّوادي الارستقراطيّة ويُستثمر فيها وتُصبح تجارة مربحة، فقد تحوّلت إلى إرادة شعبيّة ومن ثمّة معشوقةً للمضطهدين، فبينما كانت الطَّبقات الأرستقراطية تلعب على البيانو كانت الأحياء الفقيرة تضجّ بالصّراخ لملاحقة تلكَ الأهداف الكرويّة، وبالرغم من كلّ أولئك الذين يُجاهرون بسفاهة اللّعبة فإنّها أخضعت بالقوّة الواقع لإرادتها، وانضمّت إليها الشّعوب وانقسم العالم إلى أندية في كلّ الكرة الأرضيّة، واستطاع اللاعب طيلة مدّة اللعب أن يلخّص لنا مفهُوم الكِفاح لأجل الهيمنة، الهيمنة على الكرة وعلى الملعب، ثمّ إخضاع الطّرف الآخر لقوانين خُطّته، وفي هذا الصّراع للقوى تبرز أبعد نقاط تجليات فلسفة نيتشه عن الإرادة والقوة، إنّها تمثيل وجُودي لفلسفة الطّرف الآخر، العدوّ الرّمزي، الكائن الذّي لن يسطُع نجمه إلا إذا فتك بك، طرف يبني نجاحاته على إخفاقاتك، وعليك دائماً إيجاد الفراغات المُستحيلة وسط كل تلك الأقدام لتنجو بتمريرة صائبة. بين البرازيل والجزائر ومثلما تعوّد الناّس في البرازيل على استنشاق أصوات الأطفال تعوّدنا في الجزائر على ذلكَ أيضاً، إذ نستفيق في أياّم العطل على صياح الأطفال تحت النّوافذ، وعلى الشواطئ، والغابات، وحتَّى على أطراف الطُّرق الخطيرة، في كلّ مكان في البلد تُوجد أقدام تحوّل حتى الرقع الضَّيقة إلى ملعب، فمن منّا لم تعلق كرة يوماً على شرفته أو تكسر زجاج نافذة له؟ لقد تعودنا منذ الصّغر على اقتطاع الحشيش وتكويره ثم شدّه جيّدا فقط لأجل تعلّم كيفية المحافظة على هذه الكرة الخضراء من السُّقوط من على قدمكَ وأنتَ تقذفها مراراً نحو الفضاء في المسار ذاته لتكتشف أنّ التّركيز لا يعني أن تضع عينك في عين منافسكَ دون أن ترمش أولاً بل هذه المصادر الغريبة التّي تُنمي لديك حسّ الإمعان الذّي ستحتاجه لاحقاً لمُراقبة التّفاصيل التّي ستقُودك في النّهاية إلى التَّورط في الكتابة. يقُول ألبير كامو: كلُّ ما تعلمته تعلّمتهُ من كرة القدم، ويدين بكلّ ما يعرفُه من أخلاق لهذه اللُّعبة، اللُّعبة التّي لا يكرهها سوى الأغبياء كما وضّح، ويعترف لصديقه شارل بونسيه أنّ كرة القدم مثل المسرح تبقى بالنّسبة إليه جامعته الحقيقيّة، وأنّه لو قيض له الاختيار لاختار كرة القدم. ألبير كامو الذّي كان حارسًا للمرمى بفريق كرة القدم في جامعة الجزائر سنة 1930 لا يجدُ نفسه إلا مدافعاً كأديب عن ذلك المُستطيل الذّي تعلم فيه فلسفة المُدن الكبيرة، أنّ الكرة لا تأتي مطلقاً نحو أحدهم من الجهة التّي ينتظرها منها، اللّعبة التّي كان لا يملكُ فيها ترف الرّكض لأنها تستهلك حذاءه الفقير مرّة ومرّة أخرى حينما استهلكه مرض السّل. وحتّى الكاتب نجيب محفوظ كان مولعاً بهذه اللّعبة في أحياء العباسيّة، وقد أوردت «نيويورك تايمز» الأمر تحت عنوان «الأدباء أيضاً يمكنهم اللعب»، كذلك ماركيز الذي لعب في فريق أتلتيكو جونيور الكولمبي، لكن إصابته في بطنه حوّلتهُ إلى مشجع، وحين دخلَ الأدباء لتبادل الرّكلات الأدبيّة فيما بينهم معبّرين عن مواقفهم الفكريّة والفنيّة بالقبول أو الرّفض، كان للقُراء من بعدهم الحظّ في النّزول إلى الملاعب داخل الكُتب لأداء الأدوار التّي لم يتسّن لهم يوماً أن يقُوموا بها، أدوار المُتفرّجين الذّين تتحوّل قُلوبهم إلى أقدام يتبادلُون بها الرّكلات مع كلّ عمل يُقدّم كملعب في مُتناول القرّاء الرياضيّين ،وما بين أخذ وجذب يتجلّى ذلكَ الهوس للعيان كأنّما يجدُ الإنسان في تلك اللّعبة غايةً ما بعيدة عن التّسطيح، وأفرد غاليانو لأجلها عمله الرّائع «كرة القدم ما بين الظل والشمس»، وعنون رشيد بوجدرة روايته الجميلة بـ«ضربة جزاء»، العنوان نفسه الذّي شارك به الكاتب الجزائري أنور بن مالك قصّته في عمل أفريقي جماعيّ تناول من خلاله قصصاً عن كرة القدم وقد صدرت المجموعة القصصية «أطفال الكرة» عن دار «لاتيس» بفرنسا احتفاء بإقامة كأس العالم بجنوب أفريقيا سنة 2010. عندما التحق لاعبو الجزائر بالثورة نتساءل: هل للكرة مواقفٌ عادلة؟ في الجزائر حضرت كرةُ القدم لا للتّرفيه فقط بل عبّرت عن الرّفض الاستعماري، ففي سنة 1958 وتحضيراً لمشاركة فرنسا بكأس العالم بالسّويد هزّت حادثة هُروب تسع لاعبين جزائريّين من المُنتخب الفرنسي كانوا على اتصال بجبهة التَّحرير الوطني عن طريق الحدُود السويسريّة والإيطاليّة باتجاه تونس وفرنسا، مخلوفي وزيتوني وأصدقائهما رسموا انهزامًا وموقفاً ثورياً، وصرح مخلوفي قائلا: أنّه لم يترّدد للحظة واحدة في الالتحاق بالثّورة مضحياً بأمجاد الكرة وشهرتها التّي كانت في متناولهِ، كما فعل أيضاً زيتوني. ففي سنة 1958 أقيمت مباراة للمُنتخب الفرنسي ضدّ الإسباني وكان زيتوني نجمًا للدرجة التّي أبهرت رئيس ريال مدريد سانتياغو برنابيو، وعبّر عنه بعرضه قائلاً: لابد أن تلعب في أحسن فريق في العالم، إنّه ريال مدريد، هل نوقّع العقد؟ فردّ عليه اللاعب: أشكرك على العرض، ولكنّني سألعبُ قريباً في أحسن فريق في العالم. وكانت هذه آخر مباراته في فرنسا لينضم إلى مشروع تشكيل فريق جبهة التّحرير الوطني، وفي هذا السياق استضاف العراق فريق جبهة التّحرير الوطني سنة 1959 ورُفع العلم الجزائري والنَّشيد الوطني بعد أن دُعي السّفير الفرنسي للحضُور، لكنّه غادر قبل بداية المباراة احتجاجاً على وجُود فريق جبهة التّحرير الوطني، تلكَ المباراة كانت ضمنيًا تمريراً لرسالة الجزائر دولة لها سيادتها بعد أن قامت الفيفا بتهديد أيّ دولة تستقبل هذا الفريق الذّي ليس له سيادة كما صرّحت. أما في البرازيل فقد اعتبر اللاّعب سُقراط هذه اللّعبة معركة ضدّ العنصريّة والأعراق حين ضمّ المنتخب لاعبين مختلفين في الفريق ذاته. في الأخير هذه اللعبة ليست لعبة تماماً، هي ليست القبول كلّه كما أنّها لن تكون الرفض كلّه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©