الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بوشكين شاعر روسيا الأكبر

بوشكين شاعر روسيا الأكبر
20 يونيو 2018 19:45
في الوقت الذي تستقطب فيه روسيا أنظار الكرة الأرضية بسبب (المونديال) أو كأس العالم دعونا نتساءل: من هو بوشكين؟ هل هو متنبي روسيا؟ من دون شك. إنه يشكل أحد مفاخرها الأدبية ومجدها. الكسندر بوشكين لم تكن حياته تقل مأساوية وإثارة عن أدبه وأشعاره. فقد عاش الحياة شعراً ومات شعراً بشكل فاجع، بل وبشكل أقوى ما يكون الشعر. ولد بوشكين في موسكو عام 1799 في عائلة أرستقراطية كبيرة، وكان عمه مثقفاً كبيراً وشاعراً معروفاً، وهو الذي زرع في نفسه حب الأدب الكلاسيكي الفرنسي الذي تعرف عليه منذ الطفولة، وأصبح مولعاً به. وقد درس في ثانوية شهيرة مخصصة لأولاد النبلاء، وتربى على أفكار الحرية وحب الوطن، ونظم الشعر. ثم نبغ بسرعة وفرض نفسه على أقرانه، وراح يعيش حياة اللهو والاستمتاع لفترة من الزمن في مدينة سان بطرسبورغ الرائعة. ويبدو أن توجهاته الأدبية الأولى كانت ثورية ومضادة لأفكار الطبقة الأرستقراطية العالية التي ينتمي إليها. لقد كانت توجهاته ليبرالية، أي متأثرة بأوروبا الغربية وعصر التنوير والثورة الفرنسية. ولهذا السبب غضبت عليه السلطة الرجعية الأصولية القيصرية ونفته إلى جنوب روسيا، حيث بقي بين عامي 1820 -1824. ثم تسلمته عائلته وأجبرته على البقاء في المنزل أثناء اندلاع الثورة ضد القيصر، وكانت تعرف أنه يرغب في المشاركة فيها. ثم تغيرت الأمور بعدئذ وانفتحت السلطة عليه. وعندئذ استدعاه القيصر إلى العاصمة لكي يشتغل لديه كمؤرخ رسمي للبلاط، وهكذا انتقل من النقيض إلى النقيض بعد فشل الثورة الليبرالية. في عام 1831، تزوج بوشكين من فتاة رائعة الجمال، تدعى ناتالي غونتشاروفا، وعلى يدها سيكون مقتله. ألم ننصحكم أكثر من مرة بألا تعشقوا الجميلات الفاتنات فلم تتعظوا؟ وراح يعيش معها حياة القصور والصالونات الأرستقراطية في موسكو، حياة الرقص واللهو والمجون. ويبدو أن البلاط راح يحيك بعض المؤامرات ضده من أجل الإيقاع به. وقد أدت مؤامراتهم في نهاية المطاف إلى حصول تلك المبارزة الشهيرة التي أدت إلى مقتله عام 1837 وهو في الثامنة والثلاثين فقط. على هذا النحو انتهت حياة الكسندر بوشكين، مؤسس الشعر الروسي الحديث. وهي نهاية فاجعة في عز الشباب. ولا تزال تثير الألم في نفوس الروس حتى الآن. ولكن كيف حصلت هذه النهاية؟ يقال بأن أحد النبلاء الفرنسيين المقيمين في موسكو أغرم بزوجته وحاول مغازلتها. واعتبر بوشكين هذا العمل إهانة له أو تعدياً على شرفه وحرمه المصون. فتحداه وطلبه للمبارزة، وكانت تلك هي العادة السائدة آنذاك. وقد تمت المبارزة بالمسدسات لا بالسيوف كما كان يحصل في القرون الوسطى. وهنا يكمن الطابع الوحشي لهذه العادة السخيفة التي انتهت من أوروبا الآن لحسن الحظ. فمن يطلق بشكل أسرع ويصوب بشكل أدق، يفوز. نحن في عصر الكاوبوي وأفلام كلينت ايستوود الرائعة. وللأسف الشديد، فإن بوشكين أخطأ غريمه الذي ينافسه على زوجته، في حين أن هذا الأخير لم يخطئه فأصاب منه مقتلاً. ولكنه لم يمت إلا بعد ثلاثة أيام من العذاب والصرخات التي تشق عنان السماء. الطريق الصعب ينبغي العلم بأن بوشكين كان أول كاتب روسي يعيش من قلمه ولو جزئياً. وكان قد بذل كل جهده لتنشيط الحياة الثقافية في روسيا بعد عودته من المنفى. فقد رفع مستواها عن طريق كتابة العديد من المقالات النقدية في الجرائد الكبرى. والواقع أنه أدهش عائلته منذ الطفولة بمقدرته على حفظ أكبر قدر ممكن من القصائد وترديدها عن ظهر قلب. كما وأدهشهم بمدى سعة اطلاعه على الأدب الفرنسي، خاصة مؤلفات موليير، وفولتير، وسواهما. ويبدو أنه كان نهماً للقراءة والمطالعة ولا يشبع من الروائع. ومن المؤكد أنه اطلع على قصائد اللورد بايرون، وكذلك على أدب شكسبير. وقد تفتحت موهبته الشعرية بشكل مبكر جداً. فمنذ سن الخامسة عشرة نشرت له مجلة «رسول أوروبا» أولى قصائده. ومعلوم أنه دخل إلى وزارة الشؤون الخارجية كموظف عام 1816، ولكن القيصر غضب عليه وفصله من الوظيفة ونفاه إلى جنوب البلاد لبضع سنوات بسبب نشره قصائد ثورية مضادة للسلطة. وهذا دليل على أنه كان يتميز بطبع متمرد يرفض الخضوع للاستبداد ويعيش الحرية. فقد كان بإمكانه أن يعيش مترفاً مدللاً من دون أية هموم أو متاعب لأنه ينتمي إلى أعلى الطبقات الاجتماعية، ولأن السلطة كانت مستعدة لفتح كل الأبواب أمامه. ثم لأنه كان غنياً لا ينقصه شيء. ولكنه رفض كل هذه الإغراءات والتسهيلات واختار الطريق الصعب: طريق الشرف، والأدب، والدفاع عن المظلومين والمضطهدين. وهنا تكمن عظمته وسرّ المكانة الكبيرة التي يحتلها داخل الآداب الروسية. ونلاحظ أن تأثير اللورد بايرون ينعكس على كتابه: سجين القوقاز (1821). وهو يصف فيه التقاليد العريقة للشعب الشركسي الذي يسكن تلك الجبال الوعرة، جبال القوقاز. وفي دواوينه الأخرى، يتحدث عن أجواء الحريم الإسلامية في منطقة «كريميا» التي نفي إليها لبضع سنوات. كما ويظهر تأثره بالقرآن الكريم في بعض نصوصه الجميلة والأساسية. وفي قصائد أخرى، يتحدث بوشكين عن شعب الغجر الذي خالطه وتعرف عليه وأعجب به. وبالتالي فقد كان منفتحاً على التأثيرات الأدبية والفكرية والروحية كافة. ولكنه، وتحت تأثير الأدب الفرنسي لفولتير، نشر قصائد مضادة للدين المسيحي، وهذا ما أثار عليه غضب القيصر والكنيسة الأرثوذكسية. فقد كان هذا العمل يعتبر من المحرمات آنذاك. هذا، ويجمع النقاد على أن بوشكين هو الذي أسس الأدب الروسي الجديد عن طريق تحريره من التبعية للآداب الأجنبية على الرغم من تأثره بها كلها، وبفضل هذا التأثر بالذات، فقد كان يعرف كيف يتخلص من التأثر بالآخرين بعد أن يصهرهم في داخله لكي يبدع أسلوبه أو أدبه الخاص. وكل الكتاب الكبار الذين جاؤوا بعده، كانوا من تلامذته، نذكر من بينهم غوغول، وديستويفسكي، وتولستوي.. أي كل عظماء روسيا. ومعلوم أن ديستويفسكي ألقى خطاباً شهيراً بمناسبة الاحتفال بذكراه وإقامة نصب تذكاري له في وسط موسكو. وقال بما معناه: «لقد كان بوشكين كاتباً كونياً لأنه كان روسياً حقيقياً، وكان روسياً حقيقياً لأنه كان كاتباً كونياً منفتحاً على جميع الثقافات والحضارات. فالكونية ليست ضد الخصوصية على عكس ما يتوهم ضيّقو العقول وإنما هي توسيع لها أو تكميل أو تعميق. فبوشكين لم يستطع أن يتوصل إلى الكونية إلا بعد أن هضم تراثات الآداب الأخرى كالأدب الفرنسي، والأدب الإنجليزي، والأدب العربي، إلخ وصهرها كلها في بوتقة الأدب الروسي والشخصية الروسية». هذا ما قاله دوستيوفسكي العظيم عنه. لقد لخصه تلخيصاً ببضع عبارات فقط. حالة فريدة والواقع أن بوشكين كان حالة فريدة من نوعها في تاريخ الآداب الكونية. فبإمكاننا أن ندرس الآداب الفرنسية، والإنجليزية، والألمانية، والإيطالية، والإسبانية، من دون أن نشير إلى كاتب واحد يكون قد أثر على كل من لحقوا به. أما بالنسبة للأدب الروسي فلا نستطيع. فكل من جاء بعد بوشكين مدين له بشيء ما. ومن المستحيل أن نتحدث عن كبار الأدباء الروس الذين جاؤوا بعده من دون أن نذكره. لا ريب في أنه كان يوجد أدب روسي قبل بوشكين، ولكن الأدب الروسي الحديث ولد معه. هذه حقيقة لا جدال فيها. لقد كان بوشكين أنقى وأصفى شاعر روسي في زمنه، وهو الذي أسس المسرح الروسي الذي كان بدائياً أو فقيراً جداً قبل ظهوره. كما أنه هو الذي دشّن الرواية التاريخية في روسيا عندما كتب قصة «بنت القبطان». وكذلك كان أول من كتب الرواية الخيالية والشعر الشعبي الذي يسرد الحكايات العامية المنتشرة في تلك البلاد. كان ديستويفسكي يقول: كلنا خرجنا من معطف غوغول.. ولكن ألم يكن معطف غوغول منسوجاً من قميص بوشكين؟ ألم يكن بوشكين هو الذي ألهم زميله الأصغر منه مواضيع كتاباته، خاصة روايته الشهيرة: «الأرواح الميتة»؟ وحتى تورغنييف تأثر به في العديد من كتاباته. نقول ذلك على الرغم من أنه عاش معظم حياته في الغرب. ولم يكن يتردد على روسيا إلا من حين لحين. ويمكن القول بأن واقعية ديستويفسكي الهوسية الجنونية متأثرة به أيضاً.. ورواية تولستوي الشهيرة «الحرب والسلام» استمدت أفكارها من قصة بوشكين «بنت القبطان».. وبالتالي فأهمية بوشكين ليست بحاجة إلى برهان أو دليل. إنها واضحة كالشمس الساطعة. والواقع أن هذا الرجل الذي كان لاهثاً وراء الكتابة، كان لاهثاً أيضاً وراء الحياة. فقد كان ينتقل من محبوبة إلى أخرى، وكان مولعاً بلعب القمار، وثائراً ضد السلطة الإمبراطورية للقيصر. وهذا ما أدى إلى نفيه لبضع سنوات قبل أن يعود إلى موسكو بعد موت القيصر السابق وصعود نيقولا الثاني على العرش. ثم وقع بعدئذ في حب أجمل فتاة في موسكو، وهي التي ستقوده إلى حتفه كما ذكرنا. وفهمكم كفاية. وأخيراً، يمكن القول Nن سقوط بوشكين وهو في عزّ الشباب، ساهم في تشكيل أسطورته. فلو أنه عاش طويلاً لاضطر إلى تكرار نفسه من خلال كتابات عديدة، ولكان الناس قد ملّوا منه. أما وقد مات وهو في أوج الإبداع وأوج الشباب وقبل الأوان بكثير، فإنه ترك وراءه ذكرى عطرة لا تنسى. لقد حصل له ما حصل للشاعر الإنجليزي الكبير: اللورد بايرون. فهو الآخر سقط أيضاً في عزّ الشباب 36 سنة دفاعاً عن اليونان وحريتها واستقلالها.. وهكذا يموت الشعراء الكبار وهم في عمر الزهور. لسوء حظنا أننا لم نمت حتى الآن. ولكننا لسنا شعراء! وهذا ما كان يتأسف عليه الشاعر الفرنسي الكبير رينيه شار. كان يقول: الشاعر يموت شاباً. أنظروا إلى رامبو: 37 سنة فقط، ولوتريامون: 24 سنة! بل وحتى بودلير: 46 سنة، أما هو، أي رينيه شار، فقد تجاوز الثمانين. وهذا لا يجوز إطلاقاً. عيب وألف عيب! من أقوال بوشكين: «الحب بعد أن يموت لا يمكن أن ينبعث من رماده». و«بقدر ما تحب المرأة أقل بقدر ما يكون حظك كبيراً في الحصول عليها». كلام رائع. حكمة ما بعدها حكمة. من تجربتي الشخصية اكتشفت أنه يقول الحقيقة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©