الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لوكاس بيرفوس يحاكم أوروبا ويكشف دورها بمذابح رواندا في «مائة يوم»

لوكاس بيرفوس يحاكم أوروبا ويكشف دورها بمذابح رواندا في «مائة يوم»
23 يناير 2010 22:22
يدور مغزى رواية «مائة يوم» للمؤلف المسرحي لوكاس بيرفوس حول الحسابات الخاطئة للناس «الخيّرين» وصعوبات تخمين ومعرفة الغرباء بشكل صحيح، والبعد الأخلاقي للسياسة بشكل عام، إلا أن الكاتب بيرفوس لا يريد من خلال روايته أن يعطينا درساً في الأخلاق بل يريد أن يكون مراقبا محايدا، فهو لا يقوم بإدانة أي شيء ولا يعرف ما هو الأفضل. تعتبر رواية «مائة يوم» أول رواية للمؤلف المسرحي لوكاس بيرفوس تتحدث عن حروب الإبادة الجماعية في رواندا في الفترة من أبريل حتى يوليو من عام 1994، والتي خلفت أكثر من 800 ألف قتيل في واحدة من أكبر مآسي القرن العشرين. وفيها يوضح بيرفوس تناقضات ما يسمى بالتعامل الأخلاقي الصحيح، حيث يمكن اعتبار رواية «مائة يوم» من وجهة نظر إيجابية على إنها رواية سياسية تستطيع الإقناع عبر التصوير المتباين واستخدام اللغة السلسة والصور المعبرة. شاب مثالي تدور الرواية حول دافيد هول، وهو شاب مثالي أتى إلى العاصمة الرواندية كيجالي ليعمل في إطار برنامج المساعدات التنموية السويسرية، وهناك يقع في غرام جاتي وهي فتاة من قبائل الهوتو تتميز بالأناقة والإثارة، إضافة إلى إنها فتاة غامضة لا يمكن سبر أغوارها، فيبدأ دافيد معها علاقة حب مستعرة، وعند تأزم الوضع السياسي في البلاد لم يغادر دافيد مع الطائرة الأخيرة التي قامت بإجلاء بقية الأجانب، بل قام بالاختباء في منزله لمدة مائة يوم قام خلالها البستاني بإمداده بالطعام وبأخبار حبيبته أجاتي. ومن خلال أحداث الرواية يحاكم بيرفوس على لسان بطله دافيد الضمير الأوروبي ويحمله وزر المائة يوم التي دارت أحداثها في العاصمة كيجالي ويصل إلى قناعة بأن الذين قاموا بكل تلك الفظائع وقتلوا وأحرقوا من منطلق عنصري كانوا مجرد منفذين لمعارف ومستخدمين لأموات كلها قادمة من الطرف الأوروبي ذي الضمير المرتاح، لأنه يقدم أكبر المساعدات لهذا الجزء الغافي في حضن أفريقيا المسمى رواندا. ويعزز الكاتب هذه الإدانة من خلال جعل دافيد هو السبب الذي أودى بحياة أجاتي، فلولا دعوته لها المغلفة بالحب والوله ومحاولات الإغواء، لكانت غادرت كيجالي إلى بروكسل ونجت من الموت. عينان رماديتان يصف الكاتب اللحظات التي رأى فيها دافيد أجاتي لأول مرة في مطار بروكسل حين سفره إلى رواندا لتسلم مهام عمله في هيئة سويسرية للتعاون التنموي والمساعدات الإنسانية، وهناك وجد أجاتي تواجه بعض المتاعب من المراجعين البلجيكيين المسؤولين عن تفتيش جوازات السفر، كونها مواطنة من بلد كان سابقاً مستعمرة لمملكة بلجيكا. يقول دافيد عن أجاتي: «هناك رأيتها، سيدة أفريقية بزي أوروبي، ترتدي سروال كابري يتيح رؤية كعبي قدميها النحيفتين، وتلبس حذاءً كاشفاً لهما، ما يمكن الناظر من مشاهدة أظافر أصابعهما المصبوغة باللون الأحمر، وهذا ما لم أكن قد شاهدته كثيراً في السابق، وكان لها أنف مرصع بنمش الصيف، وعينان رماديتان فاتحتا اللون، وفوقهما حاجبان معقوقان مثل مفتاحي الكمان». ممارسات الظلم يستفيض دافيد في الحديث عن أجاتي وانبهاره بها قائلاً: «بسببها مكثت في مدينة معادية لتوجهاتي وذات مساكن متآكلة تفوح منها رائحة المقالي، وأقمت في غرفة فندق موبوءة بالقمل، وكان حوض حمامها قصيراً وذا بقع جيرية، غير أني واسيت نفسي زاعماً بأن هذه السيدة ليست أفريقية أساساً، وقلت إن مهندسين معماريين تبنياها بالتأكيد، وكأنما أرادا من خلالها عرض طفل بني بلون الشوكولاته في حيز فني داخلي. يعمد دافيد في بداية الكتاب إلى منهجه في الحياة والذي حدا به إلى السفر إلى رواندا ومشاركته مواطنيها مأساتهم من خلال عمله في إحدى منظمات الإغاثة فيقول: «من خلال الدروس المستوعبة في حياتي أدركت سبب وجوب الوقوف ضد ممارسات الظلم منذ بدايتها، وعدم تأجيلي التحلي بالشجاعة الأدبية إلى وقت لاحق مناسب، فالشجاعة الأدبية مطلوبة على الفور لحظة وقوع الظلم، إن جبن الأفراد المنعزلين عن بعضهم بعضاً هو العامل الوحيد الذي جعل هذا العالم، في بقاع واسعة منه، مجرد أوعية تقتات منها الخنازير، هكذا اعتقدت من صميم قلبي». إنكار الذات يتحدث دافيد عن أيامه الأولى في كيجالي، قائلا:«كان الزمن لا يعمل لصالحنا ويقربنا كل يوم من الكارثة ولكن أموري كانت تتحسن يوماً بعد يوم، لقد أقمت في نزل الطائفة البروتستانية فترة أطول مما كان مقرراً حسب الخطة، وقيل في سياق شرح المبررات إن من المنتظر وصول دهان المنزل المقرر انتقالي إليه، ولكنني رأيت أن سبب تأخير انتقالي كان يعود إلى الرغبة في انتمائي لمعرفة مدى قدرتي على تحمل اليأس والإحباط، حيث إن الإدارة كانت تستخدم مصطلح تحمل القدرة هذا للدلالة على صفة جوهرية من صفات التعاون الثابت الذي ينبغي التحلي به كعضو في إحدى هيئات الإغاثة الدولية». ويلفت دافيد إلى علاقة الصداقة التي نشأت مع ميسلاند وهو أوروبي أبيض كان يعمل سابقاً في ذات المنظمة الإنسانية التي يعمل بها دافيد، ومن خلال الحوار معه يتبين له حجم المأساة التي يعيشها مواطنو رواندا والتي لم يكن يعلم مقدارها الحقيقي حتى تلك اللحظة، فيذكر التساؤلات التي طرحها ميسلاند وعبر فيها عن خواطره قائلاً: «لماذا تعمل في هذا البلد مئتا منظمة مختلفة؟ لماذا لا يوجد أي تل بدون مشروع للتنمية؟ إذا كان هؤلاء المساعدون المتسمون بإنكار الذات مهتمين فعلاً بالمصلحة الإنسانية، فلماذا لا يحزمون أمتعتهم ويذهبون إلى كاتانجا؟». مكان البؤس يجيب ميسلاند:»هناك وأستطيع أن أقول لك إنها كانت جهنم الحمراء؛ كان الأطفال يهلكون في الشوارع، يموتون من الإسهال والملاريا، وبعضهم كان يموت لمجرد تعرضه للإصابة برشح عادي، إنك تجد الموت هناك في كل ركن وكان المرض ينتشر في كل زاوية، والهلاك واليأس يرتسمان على كل وجه، غير أن مساعدي التنمية (المنظمة التي يعمل بها دافيد) ليسوا موجودين هناك، ولا ترى في كاتانجا سوى مجموعة من الراهبات الممرضات وصلن سن الشيخوخة منذ ردح من الزمن، إنهن يتشاغلن هناك في حالة من السرور والرضا النفسي، بغسل أرجل المشارفين على الموت والمصابين بالجذام، لماذا لم يحزم البعض حقائبه للسفر إلى مكان البؤس بدلاً من الزاحم هنا». ويقصد بذلك مدينة كيجالي. ويجيب ميسلاند:«لا أحد ولا حتى أكبر صديق للإنسانية يقبل بمحض إرادته استبدال الجحيم بالجنة». ويقول دافيد: «كان ميسلاند محقاً في قوله، فهنا لا يوجد بعوض ولا ينتشر وباء الملاريا، ولا يتسم الجو في هذا البلد قطعياً بالبرد القارس أو الحرارة الشديدة، بل إنه بلد الربيع الدائم كما يصفه الناس هنا». علاقة الحب من الحديث عن الجحيم الذي يلاقيه الروانديون، يعود دافيد ليتحدث عن لحظات التقائه مرة أخرى بمعشوقته أجاتي، حين أصيب حالما دفعته الجماهير المحتشدة لرؤية البابا، الذي كان يقوم بزيارة لرواندا لتفقد الأوضاع هناك. وعندما أفاق دافيد من غيبوبته جراء الإصابة وجد نفسه أمام أجاتي التي كانت تعمل بالتحريض في أحد المستشفيات وتقوم على العناية بالمرض وكان واحداً منهم، فصارت هناك فرصة لرؤية أجاتي عن قرب مرة أخرى. يقول عنها: «لم أر أفضل من مستوى ما قامت به من الرعاية، ولم ألحظ ألطف من بسماتها ولا أعمق من تواضعها. بدت وكأنها ذابت في عملها تماماً، تبدل ضمادات الجرحى وتعبر عن مواساتها لهم». وكان وجوده إلى جوار أجاتي في المستشفى سبيلاً لخلق فرص للتحاور بينهم ومن ثم نشأت علاقة الحب بينهما شيئاً فشيئاً كما يتبين من أحداث الرواية. ضرب العبيد في موضع آخر من الكتاب يرصد بيرفوس من خلال دافيد الاضطرابات التي سببها أفراد الوحدة البلجيكية العاملين ضمن قوات الأمم المتحدة في رواندا، فيقول:»عندما لا يكونون منشغلين بقلب بهو حانة رأساً على عقب أو بضرب أحد الساسة من الحزب الذي تنتمي إليه محبوبته أجاتي، وتهديده بالموت إذا قامت صحيفته بالتجرؤ على إهانة بلجيكا والجنود البلجيكيين، لأنهم أقدموا أحياناً على مضاجعة بعض نساء قبيلة التوتسي في سيارات البيدفورد التابعة لهم، فإنهم كانوا يتناولون المشروبات الكحولية في الكباريهات حتى يتم إخراجهم منها محمولين من السكر، وهم يتبجحون بقتلهم مئات المدنيين الصوماليين، ويؤكدون أنهم يعرفون كيف يضربون هؤلاء العبيد». ويضيف دافيد:«كانت أجاتي تكرههم، وتعدهم جزء من المؤامرة ضد شعبها، أما نحن في الإدارة فكنا نهز رؤوسنا مشدوهين، مستغربين من اختيار الأمم المتحدة جنوداً تابعين لسلطة دولة استعمارية مكروهة، كي يساهموا بأنشطة حفظ السلام». ويستطرد:»على الرغم من ذلك، كنا في قرارة أنفسنا مسرورين لوجودهم، حتى ولو كانوا سيئي السلوك، لا يتورعون، عن التلفظ بعبارات غير لائقة؛ فالناس هنا كانوا بحاجة إلى يد قوية وكنا مقتنعين بذلك». سوء الفهم عبر تصفح باقي صفحات الرواية، ومتابعة العلاقة بين دافيد وأجاتي في وسط أجواء الحرب الأهلية التي كانت دائرة في رواندا في نهاية الألفية الثانية، يتبين لنا أن تلك العلاقة تصبح كشفاً للعلاقة بين عالمين، وحين يتصور عالم دافيد أنه يسيطر على الوضع ويفهم كل خباياه، تكشف أجاتي بصفتها ممثلة لعالمها أن سوء الفهم قائم منذ البداية حتى النهاية، ولا يفهم العالم الذي قدم منه دافيد الخديعة التي مررها ضد وعيه وغالط بها قناعاته، إلا متأخراً، ومتأخراً جداً، بعد أن تكون حمامات الدم قد انهمرت وغطت الشوارع، ولم تكن المائة يوم إلا إعلاناً متأخراً لحقائق لم يكشفها دافيد وعالمه سوى بعد عقود من تربية اليقين الزائف. مشاهد من المأساة -1 سكان البلد جميعهم كانوا يشدون الرحال، مدفوعين بجنون الارتياب، الذي حقنوا به خلال أربعة أعوام مضت. مئات الآلاف غادروا مساكنهم على التلال، وتركوا فيها من الأمتعة ما لا يستطيع الإنسان حمله. وكانت الشوارع محاطة بما تراكم من الكراسي، وأواني الطبخ المجلفنة بالخارصين، وكل الأدوات المنزلية، التي صارت ثقيلة على حامليها، فتركوها لهذا السبب ملقاة على قارعة الطريق. أثناء السفر كانت الجثث تشاهد دائماً؛ جثامين أناس لم يتحملوا مشاق السفر، فقضوا نحبهم في الطريق، أو نفذت بحقهم جرائم قتل متعمد. ولم تكن تلك الجثث بعيدة عن الشارع، إلا بمسافة قصيرة. -2 في أحد المخيمات، ومن مكان غير بعيد، تحت السقف الأمامي لمرفق التزويد بالماء، استلقت امرأة وهي تتنفس بصعوبة، وتطلق من صدرها بين الفينة والأخرى صرخات ألم مكتومة، بينما كانت يداها تتشبثان بالأرض. كلا، لم يكن السلام هو السائد هناك، ولكنه كان عالماً من البشر المتعبين، الذين اضطجعوا للنوم في انتظار يوم جديد. وقد هزني استسلامهم لحالتهم هذه، على الرغم من البؤس الشديد الذي يغلب عليها.
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©