الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أبوظبي·· مشاهد غافية في سديم أبيض

أبوظبي·· مشاهد غافية في سديم أبيض
13 نوفمبر 2008 02:41
مشهد (1) الله أكبر ··· الله أكبر ينطلق صوت المؤذن معطراً أجواء المدينة بنسمات الطمأنينة . تدخل الروح في محرابها··· تصلي ما تيسّر لها ، وتغسل ذنوبها بالدعاء. الله أكبر ··· الله أكبر يتردد النداء منذ الأزل بين السماء والأرض وبه تدخل أبوظبي في وضوح التجربة· أما أنت، فإذا أردت أن تدخل نهارك مورقاً وخضلاً مثل عصفور ''بلله العشق''، ما عليك إلا أن تدخل في طقس الصحو الفجري· وبعد أن تسأل الله أن يغسلك من الخطايا وأن ينقيك منها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، افتح نافذة القلب ونافذة البيت· تأمل في المشهد الممتد أمامك، وفي ما حولك؛ البيوت مغلقة على أسرارها· الشوارع خالية إلا من دبيب خطوات تغذ السير إلى بيوت الله· الأضواء شاحبة ترمي ظلالها على الطرقات . هكذا قبل أن تخلع المدينة ليلها وتدخل في الوضوح، يمكنك أن تقرأها على نحو استثنائي ونادر· ستشعر حينها بطمأنينة غامرة، وسكينة يستحيل أن تحصل عليها في الضجيج النهاري، والزحمة الفائضة· إلى البحر يمم وجهك، ستجد في المدينة جمالاً بكراً لم يطلع عليه أحد· ستعبق في روحك رائحة عذبة لا يدرك كنهها إلا عشاق أصيلون· اخلع نعليك وخُضْ في الأزرق المالح· ستداعبك موجات خفيفة لا تزال في ثياب النوم، وتنثر عليك نخلة مجاورة كل صبابتها· تجرأ على الملح واغسل بالماء وجهك· تذوَّق حلاوة الطبيعة في براءتها الأولى· لا تخف إذا داعب رأسك دوار خفيف، فهذه أعراض تصيب من يذهبون في مهاجع البهجة النائمة في قلب المدن، ويحبونها في صمتها المبكر· حميمة تبدو أبوظبي في غلالتها السديمية، كأنها أخرى غير تلك التي ستصحو بعد قليل وتملأ رأسك، فيما أنت تمضي في الضجيج لا بأس بك ولا بأس عليك· لكن··· إياك ثم إياك أن تعدَّ الموج أملاً في معرفة طوبوغرافيا المدينة، تلك حماقة ''سيزيفية'' لن تخرج منها إلا خاسراً· ستمارسها الى الأبد لأن الموج لا يكف أبداً عن الحدوث، ولأن العدد لا يعرف النهاية لـ ··· يتوقف!· مشهد (2) اليقظة ما تزال نائمة· الكائنات في أعشاشها· الأفراح في مخادعها· وحدها الحشائش تشرئب لرذاذ ينهمر من خراطيم المياه لتروي عطشها القديم، فيما الشوارع تستعد لاستقبال ضجيج لم يسفر عن وجهه بعد، وحياة تتمطى في الأسرَّة قبل أن ترتدي ملابسها وتذهب إلى العمل· أبوظبي نادرة في شفافيتها في الصبح، نقية، بيضاء القلب والنوايا· على وجهها مسحة من حنان عتيق· الندى ينام على أكمام الزهر فيها، وقليل من الضباب يغفو على المفارق· تفتح المدينة كتابها من أوله· تقول الحكاية إن أبوظبي نبتت من حلم· حلم داعب مخيلة القائد الفذ المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ''رحمه الله وطيَّب ثراه''، بيد أن كل شيء البحر والرمل والحجر والشجر والتجربة التنموية الشاملة، تؤكد أن ''زايد'' لم يتقن الأحلام فقط، بل أتقن تحويلها إلى حقيقة· قال الخبراء والمختصون بالزراعة حين أعرب ''زايد'' عن رغبته في زراعة البلاد: الأخضر لا ينبت في الصحراء القاحلة· هذه أرض من الرمل، والرمل لا يُنبت الأخضر ولا يتوحد مع المياه الحلوة· قال الشيخ الحكيم العارف بالأرض والعاشق الذي خبر أسرارها: بلى، سينبت الأخضر هنا· ستكون حدائق· وتكون أشجاراً باسقة، ويكون ماء· ستكون بيوتا ومدارس ومصانع و··· تكون حياة· وكان للشيخ الحكيم ما أراد، اخضرَّت الأرض وتلونت بشتى الأزهار· وها هي تعيش بعد الاخضرار البيئي ''اخضراراً ثقافيا'' جعلها قبلة الشعراء والفنانين والمثقفين والمفكرين· كانت تلك واحدة من المرات القليلة التي ينتصر فيها الحلم على العلم، بل ويطوَّع العلم وحيثياته ليصنع الحلم· مشهد (3) حط عصفور على كتفي وقال: فيم تحدقين؟ قلت: أتقرّى وجه المدينة، فأنا أحبها في الصبح أكثر، وهي تشرف على الوضوح إلا قليلا· قال: أوه··· كلام قديم، ويتكرر!· قلت: لا يا صديقي· لا تخطئ· القديم لا يبلى على كثرة الرد حين يكون استثنائياً لأنه يحمل في كل مرة يُروى فيها حكمة جديدة، وعبرة طازجة· والحديث لا يحدث إلا متكئاً على القديم ومتجذراً فيه· فمن الجَوارِي الماخرات عباب البحر في شهور ''العذاب العتيقة'' الحاملات ''نهمات'' البحارة جاءت لآلئ الحكمة· ومن ''ذهب المروءة والصبر'' في الزمان القديم، جاء الخير على أكتاف ''الذهب الأسود''· أبوظبي يا صديقي ملفوفة في حرير الزمان· تنهض من الظلمة ضاجة بالحياة، بينما تمضي ''عصافيرها الصغيرة'' إلى ''وعيها النموذجي'' لتجلس في صف البراءة الأول، وتتهجى أول حرف في سيرة الوطن ونهضته· تململ العصفور وقلب بعض الأوراق بجناحيه ثم قال: اقرأي هنا· على حواف الصحراء بدأت سيرة المدينة· وحكى الباحث محمد حسن العيدروس: ''إن زوال النفوذ البرتغالي كان له أبعد الأثر في هجرة العديد من القبائل العربية إلى سواحل الخليج العربي الغربية والشرقية، ومنها ''بنو ياس'' الذين قدموا من منطقة ''ليوا'' إلى جزيرة أبوظبي على شاطئ الخليج العربي عام ·''1761 أما كيف حدث ذلك، فالشائع روايتان يوردهما كلود موريس في كتابه صقر الصحراء: ''الرواية الأولى تقول إنه عندما كان شيخ القبيلة يقوم بالصيد، وصل إلى جزيرة في الشاطئ تغطيها طبقة رمادية من سديم الفجر، ولما زال هذا السديم رأى ظبياً، واكتشف في مكانه نبع ماء عذب، فرجع إلى قومه في الداخل، وقال لهم: الجزيرة هي جزيرة أبوظبي ويمكن الوصول إليها إبان ''الجَزْر'' أي (عندما ينحسر ماء البحر أثناء عملية المد والجزر)، ويمكن الدفاع عنها من الغزاة دفاعاً حسناً· والرواية الثانية تقول: إن صياداً طارد ظبياً في الجزيرة، فلما أدركه وأمسك به كان الصياد والظبي قد تعبا وعطشا، فذهب الصياد بالظبي إلى بئر ماء فوجدها جافة فهلك الاثنان عند البئر، فسميت الجزيرة بأم ظبي ثم أبوظبي''· وسواء كانت الأولى أو الثانية، فالنتيجة أننا الآن أمام مدينة فريدة في تجربتها التنموية والإنسانية· مدينة تحب الجميع، وتقدم نموذجاً رائعاً في التعايش بين الناس، بل وتخلق بعفوية، من غير تنظير ولا إيغال في ''الكيشيهات'' المكرورة، نوعاً من الحوار الثقافي والإنساني في قالب من العيش المشترك، وتحت قوس واسع من التعددية والتنوع والتسامح والانفتاح على الآخر· وكلها عوامل تضفي على التجربة طابعاً عالمياً وإنسانياً وفاعلية خلاقة· مشهد (4) تفرش أبوظبي للجميع شالها المطرز بالندى واللؤلؤ وتوسدهم حضنها الآمن وهي تقول: أنا مدينة المحبة· قلبي واسع وظلي عميم· كلُّ من أحبني أضعه في قلبي· أرضعه من خيراتي، أفتح له جناني ليحيا في كنفي· عانيت فيما مضى الكثير من الآلام وشظف العيش· عرفت الصعوبات على أنواعها· ذاق أبنائي شتى المرارات لكنهم صبروا وكافحوا وصارعوا الأهوال في البر والبحر، ثم أراد الله أن يكافئهم على الصبر بالخير الوفير· وعن معاناتي في الماضي القريب يقول رجل الأعمال محمد عبد الجليل الفهيم الذي روى قصتي في كتابه ''من المحل إلى الغنى'': ''كان معظم الناس يعيشون في بيوت ''عرش'' أي الأكواخ المصنوعة من خشب وسعف النخيل· وكان الناس يستخدمون الحطب الذي يجلبه البدو على ظهور الجمال وقوداً لطهي الطعام· وكانت المياه العذبة وفيرة في العين وليوا· أما في أبوظبي فقد كان الماء المائل إلى الملوحة المستخدم للشرب والطهي والاستحمام يسحب إما من آبار ضحلة تحفر داخل المنزل أو ضمن السياج حول المنزل· وكان الماء رغم أنه قد ترشح من خلال الرمل وأقل ملوحة من مياه البحر إلا أنه كان في حقيقة أمره ماء بحر ولم يكن عذباً أو نقياً كما هي مياه الشرب اليوم (···)، وكان معظم الناس أفقر من ان يحموا أنفسهم كما يجب من سطوة عناصر الطبيعة· وكان للرجال إزار بسيط يلفونه حول وسطهم ويبقون عراة الصدور وعرضة لتقلبات الجو· ولم تكن الأحذية أو أغطية الرأس موجودة لديهم''· أما معاناة الغواصين الذين كانوا يغيبون عن الأهل من 3 إلى 4 شهور فكانت معاناة ''جحيمية'' بكل معنى الكلمة، فهم يذهبون إلى الأعماق المجهولة عرايا من أي أسلحة سوى كيس يجمعون فيه الأصداف وملقط يغلقون به أنوفهم، وفي عمق البحر ينتظرهم أكثر من موت· ويصف الفهيم ملامح من هذه المعاناة بقوله: ''كانت أيام صيد اللؤلؤ طويلة ومرهقة· كان الغواصون ينزلون إلى الماء بعد الفجر وغالباً ما يستمر الغوص اثنتي عشرة ساعة· وكانوا يغوصون باستمرار طوال النهار ولا يتوقفون إلا لالتقاط أنفاسهم الواهنة· وكانت كل عملية غوص تستغرق حوالي دقيقتين أي ما يكفي لالتقاط حوالي اثنتي عشرة صدفة من القاع الرملي على عمق حوالي 20 متراً· وكان الغواص يرتاح لمدة دقيقة واحدة بين كل عمليتي غوص ويرتاح مدة أطول بعد كل عشر غطسات إلى القاع''· ولو أن الأمر ـ يا صديقتي ـ وقف عند هذا الحد لهان وسهل احتماله، لكن عمليات الغوص إلى الأعماق المالحة ''كانت تسبب الوهن وتشنجاً خطيرا في العضلات وتشققا في الجلد وأمراضاً أخرى في العين· وكان العلاج الوحيد المتوفر لها هو الأدوية العشبية· وإذا طفا الغواص إلى السطح بسرعة فإن ذلك يعرض أذنيه أو دماغه للتلف· وإن طفا ببطء أكثر مما يجب فقد كان يتعرض لخطر الغرق· وبالإضافة إلى ذلك كان هناك خطر الأسماك المفترسة بما فيها أسماك القرش· وكان الغواصون يأكلون عادة في المساء فقط لأنه كان من المستحيل الغوص والمعدة ممتلئة· وكان الكثير من الرجال يفقدون معظم أسنانهم بسبب سوء التغذية فقد كانوا يعيشون اساساً على كميات ضئيلة من التمر والأرز والسمك طوال موسم الغوص''· قلت: يا الله··· كم يبدو الغوص العصري المدجج بكل تقنيات الحماية عند مقارنته بما كان يلقاه الغواص من الأهوال والأخطار في قاع البحر نوعاً من الترف، فهذا الغوص اقرب إلى الأسطورة بل وهو واقع أسطوري بكل ما في الكلمة من معنى· انه الإنسان في قوته وجبروته وتصميمه على تطويع الطبيعة وتحدي أهوالها، يتجه إلى قدره عاريا إلا من الإيمان والأمل في العودة سالماً· هؤلاء الغواصون، أجدادنا القدامى الذين روَّضوا البحر، ركبوا المخاطر وتعلقوا بحبال وأشرعة، ناداهم الأزرق العميق مذ كانوا صغارا يلهون على رمل الشاطئ، تخللت ملوحته أجسادهم وحفرت فيها رغبة التحدي العارم للعتمة والقسوة والريح التي قد تخون أحياناً فتنقلب إلى وحش كاسر تتطاير بين شدقيه أرواحهم مثل ريشة، أو للأمواج التي قد تصخب وترتفع لتبتلع أحلامهم وآمالهم وتمزق أشرعتهم الذاهبة إلى البحث عن الحياة في عقر الموت· مشهد (5) الشمس تستعد للخروج من خدرها، شعاعاتها البرتقالية تتسلل على مهل لتعلن حضورها، فيما تتسلل أيضاً موسيقى المبدع الروماني ''جورج زامفير'' لتكمل لوحة الجمال الصباحي، فتجعل المدينة أشبه بقصيدة· زامفير بالمناسبة زار أبوظبي في عام 1998 وقال حين سألته ''ذات حوار'' عن رأيه في تجربتها: ''حين شاهدت المدينة للوهلة الأولى حدث لي ما يشبه الصدمة· كانت دهشتي كبيرة لأن ما رأيته مختلفاً تماماً عما أعرفه عن الصحراء· وخلافاً لما كنت أعتقد وجدت الأشجار والعمارات وكل ما حولي عصريا ومذهلا· حتى في المطار كان الجميع يعملون كفريق واحد، كنت أظن أن الناس هنا منغلقين على أنفسهم لكنني وجدتهم مرحين وطيبين وكرماء جداً· فوجئت بترحيب غير عادي وبأنهم يعرفونني ويسمعون الموسيقى التي أعزفها، وحين سمعت العازف المنزوي في الركن يعزف تلك المقطوعة الجميلة من الموسيقى العربية قلت لنفسي: أيها الطفل جورج أنت الآن في مكان آخر غير الذي تعرف· الصدمة الثانية كانت عندما رأيت خريطة قديمة لدولة الإمارات لم يكن فيها أي مبانٍ تقريباً، ثم شاهدت مدينة أبوظبي كما هي الآن· لقد تعلمت درساً جميلاً ومهماً من هذا هو: إن الإنسان يستطيع أن يصنع المعجزات حقاً، وأن يخلق أشياء رائعة، وأن يستثمر المال في صنع الحضارة· أبوظبي بلاد تشبه الحلم، إنها معجزة''· حقاً، لا يعرف ما تعنيه تجربة أبوظبي إلا من عايشها، ورآها وهي تكبر على مدارج التقدم الحضاري، وترتقي سلم النهوض في شتى المجالات· فقد نهضت هذه المدينة من الصفر، وحققت في فترة قياسية لا تكاد تحسب في عمر الشعوب نهضة استثنائية لا تزال تدهش كل من يقرأ أو يسمع عنها، وتخلب لب كل من يشاهدها ويعيش في أفيائها· مشهد (6) كتبت الطفلة ذات الغمازتين الضاحكتين على دفتر الشفق: ''أحبك يا بلادي''· كتب الطفل ذو العينين الحالمتين على دفتر الغسق: ''أحبك يا وطن''· أما المدينة فمسحت عن جفونها أثر النعاس، وقالت: يا سيدتي لا تفتح المدينة عتمتها الا لعشاق مخلصين، ولا تمنح معناها إلا للمريدين، فادخلي في معناي واقرأي كتابي· أنا بنت الماء والرمل· جارة البحر· سيدة النوارس والمدى· في أعماقي تنام الحضارات، ومني يبدأ تاريخ يمتد إلى آلاف السنين، وحجارتي كتاب العصور، وقد ''كشفت أحدث الحفريات التي قام بها فريق من هيئة أبوظبي للثقافة والتراث في المنطقة الغربية عن وجود آثار ترجع إلى العصر الحجري القديم الأوسط· أي أن عمرها يقدر ما بين 35000 و 150000 عام· أما مدلول هذا الاكتشاف، كما يذكر الدكتور وليد ياسين مدير قسم الآثار في إدارة البيئة التاريخية بالهيئة، فهو ''إضافة جديدة في عمق النشاط الإنساني على أرض أبوظبي، والذي تبين أن جذوره الأولى ترجع إلى العصر الحجري القديم وليس إلى العصر الحجري الحديث قبل 7500 عام كما كان يعتقد''· وإن شئتِ المزيد فإن في طبقاتي أحافير لعظام حيوانات ثديية وآثار نهر قديم وكلها ترجع إلى العصر المايوسيني الحديث (قبل 6 إلى 8 ملايين سنة)· أنا سليلة الحضارات يا ابنتي، عمري قديم وأغواري سحيقة· التاريخ مرَّ بي وأقام في أفيائي· وكلما بحث العارفون عني أخرجت لهم كنوزي· لقد صمتُّ طويلاً على ما تحويه بطني حتى جاء ''زايد'' فأنطقني وأخرجني عن صمتي· مشهد (7) في طقس وجداني وصباح ظبياني، يحلو للروح أن تقيم فيه، تأخذك المدينة في حضنها بحنوٍّ يشبه حنان الأمهات، وقد تشدك إلى قلبها وتربّت على جرحك· دع عنك التحولات المفصلية، والكلام الكبير، وتملّى وجهها ببساطة بليغة، ستسمع حوافر الخيل الآتية من ''ليوا''، وترى حوريات يغتسلن في أديم البحر ليطالك بعض الرذاذ· وربما تداعب روحك ''نهمة'' لبحار قديم مضى باحثاً عن اللؤلؤة الدفينة في القاع البعيد· ومهما كان حجم حزنك، ستجد في هذه المدينة شيئاً ما يشبه مدينتك، المدينة التي ''سقط فيها رأسك''، أو المدينة التي تحلم أن تكون· وستحصل على جرعة من الأمل والفرح تكفيك لافتتاح يوم جديد· الصباح يملأ المكان· أبوظبي ترتدي زينتها وتخرج في بهائها الباذخ· تخالف هذه المدينة الجميلة قوانين النمو، فالسنون تمر علينا لتدخلنا في الشيخوخة، فيما هي تزداد مع مرور السنون شباباً وجمالاً وتألقاً ووعياً وثقافة· ''الألف'' تنتصب على ماء البحر سفينة تركض في الأزرق المجهول، تحضر ما لذَّ وطاب من المعارف إلى عيون يسكنها الشغف· وعلى الباء تنتشر أشرعة بيضاء تغني للذاهبين إلى البعيد، وعلى ''الواو'' تتدفق عطايا البحر إلى الميناء، مباهجه مرمية في سلال الفضة، كأن البحر الذي ''سرق'' في الأيام الخوالي أجمل أبناء هذه الأرض الطيبة، قرر أن يعوضها ويمنحها خيراته بلا حد· أصوات الباعة تسري في شرايين الباء، تنادي على ما لذَّ وطاب من كائنات البحر، بينما تصطف الظباء على ''الظاء'' متوسدة حضارات موغلة في الزمن· تتنفس المدينة في ''الياء''، وتشهق شهقة الصحو الكاملة، تحمل الصباح بيديها وتدخل في العلن· أبوظبي و الموناليزا ربما تكون مصادفة تاريخية مثيرة أن تكون ولادة أبوظبي في الشرق 1761 قريبة جداً من ولادة اللوفر في الغرب، ففي حين أسست قبيلة ''بني ياس'' العربية الهلالية امارة أبوظبي، كانت باريس تحتفل عام 1793 بافتتاح متحف اللوفر· لكن قرار تحويل جزيرة السعديات إلى منارة عالمية للحضارة لم يكن صدفة أبداً، بل جاء عن وعي وقصدية رأى القائمون عليها أنها تحقق طموحهم في أن تكون أبوظبي عاصمة القرن الحادي والعشرين الثقافية، واتبعوا لذلك سلسلة من المبادرات التي تصوغ وجه المدينة الثقافي في السنوات الأخيرة· فلا تذكر أبوظبي ثقافياً إلا وتذكر معها ''حدائق الأحلام'' و''مدينة المتاحف'' التي تلتقي على أرضها عبقريات 4 مهندسين عالميين يتقاطعون أوركسترالياً لتشييد أحدث المتاحف العالمية· لكن الوجه الأبرز في كل هذا هو وجه الموناليزا التي لن تكون - في غضون سنوات قليلة - نجمة باريس فقط، بل ستطل على الصحراء العربية من خلال ''لوفر أبوظبي'' الذي سيشيد في العاصمة، وفي سيمفونية معمارية فذة تمزج بين عبقرية المكان، وديناميات الحداثة· منذ 10 سنوات مضت، كتبت عن أبوظبي في لحظة انبلاج فجرها الندي، لم يكن يومها في المكان الكثير من المفردات التي تفرض حضورها اليوم على هذه ''الصورة القلمية'' لملامح المدينة، لم يكن في المدينة في ذلك الصباح العتيق ''لوفر'' ولا ''موناليزا'' ولا ''جوجنهايم''··· ومن يدري ربما سيكتب آخرون بعد سنوات من الآن، وهم يتجولون بين روائع الفن العالمي مغادرين ''قراءة الخيال'' إلى ''قراءة واقعية''، أنهم رأوا الموناليزا ''بشحمها ودمها'' تنام على ضفاف البحر في ''السعديات'' التي تقع على مرمى نظرة بلغة أهل العشق، وعلى بعد 500 متر، بلغة الجغرافيا، من العاصمة، وتنام على ''كنز ثقافي'' ووعد جمالي يجري الاعتناء به جيداً، ليكون جاهزاً في العام 2018 لاستقبال روادها القادمين من شتى أنحاء العالم· لا تتعجبوا من هذا الكلام، فهذه المدينة ولدت من حلم، وأتقنت تحويل الأحلام إلى واقع·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©