الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جبران خليل جبران·· لم يقل ما كان لابد أن يقوله

جبران خليل جبران·· لم يقل ما كان لابد أن يقوله
13 نوفمبر 2008 02:42
''يا ميّ يا صديقتي''· عبارة تلفت الانتباه -حقاًـ جاءت في رسائل قديمة، صفراء معلقة على عارضات خشبية مغطاة بقماش أبيض، أوراق متلاصقة بجوار بعضها تقرأ فيها: ''يا ميّ يا صديقتي· ما أجمل هذه الصورة·· ما أجمل وما أحلى هذه الفتاة الناظرة إليّ من خلال الأعوام، ما أجمل وما أحلى هذه البنية، وما أوضح دلائل الذكاء في عينيها، أمارات الاختبار النفسي في معانيها لا، لم أر في حياتي وجه صغيرة مثل هذا الوجه، فلو تفرسته سنة 1904 لقلت مقرراً: وإن وراء هذه الجبهة قوة ''غريبة'' ستظهرها الأيام، ووراء هذا الثغر أغنية سترتلها الليالي· ما أجمل هذه الصورة يا ميّ، وما أسعدني بها، لماذا يا ترى لم أحصل عليها قبل اليوم، لماذا لم أحصل على غيرها من الصور؟ هل كان عدم حصولي على ما أحتاجه مظهراً من مظاهر القدرية، أو العدل الخفي أو ناموس النواميس؟·· إن في عينيّ جوعاً وعطشاً إلى أمثال هذه الصورة، فأي متى تشبع عينيّ وأي متى ترتوي؟''· ذلك هو جزء من رسالة جبران خليل جبران إلى الأديبة اللبنانية ميّ زيادة التي كانت مقيمة في مصر· جبران خليل جبران، الذي يعده الكثيرون من المشتغلين بالنقد الأدبي الأب الروحي لقصيدة النثر العربية الحديثة، يقودنا لنتساءل هنا هل هذا المقطع من رسالته -وهو في أميركا إلى ميّ زيادة وهي في مصر إبان مطلع العشرينات من القرن الماضي- قصيدة أم هو رسالة كتبت بأسلوب شعري؟·· نداء يعقبه تعجب من صورة بعثتها إليه ميّ زيادة، وتعجب يعقبه تعجب آخر وثالث ثم يبدأ في تنسيق زهوره من الكلمات· أي ناموس من الحروف يشد بعضها بعضاً، وأي درجة من الذكاء في أن يستخدم جبران ذلك الوجه الأنثوي ليبث خلجات روحه إلى ميّ زيادة بدون أن يقول لها: ''إنني أحبك'' وهي التي لم تلتق به وهو الذي لم يلتق بها· جبران خليل جبران (1883-1931) الذي ولد في قرية بشري، شمال لبنان في كنف أسرة متواضعة والذي هاجر وأمه ''كاملة رحمة'' وأخوه بطرس من أمه واختاه ماريانا وسلطانة إلى بوسطن في الولايات المتحدة الأميركية لتأمين حياة كريمة لهم، هو من قال في الحب: ''لماذا نحب الحب؟ لماذا نتعشق هذه الشعلة التي تتقد في صدورنا وتلتهم قوانا وتذيب عواطفنا وأميالنا؟ وماذا يا ترى يجعلنا نفتتن بتلك الأيدي الخفية الناعمة الخشنة؟'' جبران خليل جبران -الذي يعرف كيف يعرّف الحب وكيف ينسج حول الوهم حكاياته العذبة، صاحب القلم الرشيق، العبارة المنمقة، الساحر الهائم بالكلمات، العذب في النسج، البارع في التركيب- أيصدق أنه لم يستطع أن يقول لميّ زيادة ''إنني أحبك'' في كلمتين تختصران رسالة بـ6 صفحات، وأخرى بثلاث صفحات، وثالثة بـ3 صفحات أيضاً· وكأنه لم يقل شيئاً· هل أراد جبران أن يمتحن ذكاء ميّ زيادة؟ هل تصور نفسه ساذجاً حين يقول لها مباشرة ''إنني أحبك''؟ هل خجل من أن يطلق كلمة ''أحبك'' وهو الروائي الذي سطر ''عرائس المروج'' ،1906 و''الأرواح المتمردة'' ،1908 و''الأجنحة المتكسرة'' ،1912 و''دمعة وابتسامة'' ،1914 و''المواكب'' ،1919 و''العواصف'' ،1920 و''البدائع والطرائف'' ،1923 و''المجنون'' ،1918 و''عشرون رسماً'' ،1919 و''السابق'' ،1920 و''النبي'' ·1923 و''رمل وزبد'' ،1926 و''يسوع ابن الإنسان'' ،1928 و''آلهة الأرض'' ،1931 و''التائه''، و''حديقة النبي''، و''العازر وحبيبته''· قرأ جبران في أعماله العلاقة الكيانية بين الإنسان والإنسان وكيفية تشكلها الكوني وخاصة في ''النبي''، والنار الخالدة في النفس البشرية في ''عرائس المروج''، والرفض الفاضح في ''الأرواح المتمردة''، والفناء البطيء في ''الأجنحة المتكسرة''، وأسرار الحياة وضوء الابتسامة كرمز تمجيدي للآلهة في ''دمعة وابتسامة''، وكتب أطول قصائده الكلاسيكية الشكل عبر سبع عشرة فلذة شعرية تنتهي بنشيد الأبعاد الأثيرية الروحية في ''المواكب''، والروح الصوفية في ''البدائع والطرائف''·· فكيف له أن يقول لمي زيادة: ''إنني أحبك'' هكذا ليتساوى بها مع عوام الناس وهو الذي يعرف خبايا اللغة، يعرف ما وراء المعنى، بل لنقل معنى المعنى الذي افترض فهمه السريع حين تقرأ ميّ زيادة رسائله لها· في ''متحف جبران'' بأبوظبي عرضت مخطوطاته تلك ووثائق عن سيرته ولوحاته التشكيلية ورسائله وبطاقات ميّ زيادة البريدية اليه وكلها تستعيد ما يقرب من 100 عام على ماضي جبران· في رسالة ثانية يقول: ''يا ميّ يا صديقتي منذ ستة أسابيع وأنا أجلس كل يوم أمام هذه الورقة لأكتب إليك لكنني لم أستطع الكتابة، منذ ستة أسابيع وأنا أحدثك وأخاطبك''· ولم يستطع جبران أن يقول ''أحبك''·· ثم يستمر قائلاً: ''أطرح عليك السؤالات فأجيب سؤالاتك ولكنني لم أستطع الكتابة''· هي قصة الأمس تستعاد في وثائق عرضت في ''متحف جبران'' في أبوظبي، ومنها مخطوطاته ''الأجنحة المتكسرة''، و''البدائع والطرائف''، و5 لوحات رسمها جبران، وهي ''عائلة الفنان''، و''أم وطفلة''، و''شارلوت تلر'' صديقة أمين الريحاني، و''سلطانة'' شقيقة جبران التي توفيت عن عمر 14 عاماً· وبورتريه وجه غلاف كتابه ''النبي''· كما عرضت في المتحف لوحة ''وجه جبران خليل جبران'' ليوسف الحويك والتي صور فيها جبران من جانب واحد، وهي من أهم الأعمال الفنية التي اشتهرت كثيراً واستخدمت على صفحات الكثير من الدوريات العربية· أما مخططاته فعرض منها 15 مخططاً لوجوه وحالات ربما حاول جبران أن ينفذها فيما بعد -كما يبدوـ وأطلق عليها ''الحيرة الحزينة''، و''تساوق الإيقاع''، و''الحنان والطفل''، و''سعادة الطفولة والأمومة''، و''المرأة المشعة''، و''أمين الريحاني''· 80 معروضة في متحف جبران تلخص مفاهيمه في الموسيقى والأدب والشعر والقصة والوطن والبعد عنه في المهجر حيث أنتج أعماله الأدبية الرائعة وأسس الرابطة القلمية وانتخب عميداً للأدباء فيها· عاش 48 عاماً وكتب بالعربية أجمل قصائده وقصصه·· وبالإنجليزية رسائله وبالفرنسية وجدانياته·· مزج الفن الغربي بروح الشرق، كتب المقالات والنصوص التي دائماً ما كانت تتصدر الصحف والمجلات· أما كتابه ''النبي'' فقد ظل هاجس الإبداع اللامتناهي، بل صار نبعاً لقصيدة النثر العربية نهل الكثيرون من يراعها براعة الأسلوب وتنوعاً في العبارة وقوة في السبك حتى عدّ هذا الكتاب الخطير في ثقافتنا العربية الحديثة المصدر الإنشائي الأول للتعبير العميق· متحف جبران جزء من متحف كبير في قريته ''بشري'' والذي يضم ما يقرب من 440 لوحة أصلية من نتاجه الفني والوثائق والمخطوطات التي تستكمل رؤى جبران، بالإضافة إلى كتبه· قليلة هي اللوحات التي أرخها جبران وسماها ووقعها· أما عدم تسمية لوحاته إلا نادراً فيقول فيه: الرؤى لا تعنون· وجواباً على السؤال لماذا توقع لوحاتك؟ قال جبران إن لوحتي، أنّى وجدت ستعرف بأنها لي· استخدم الفحم والماء الملون والزيت على الجنفاص بلغة نزفت صفاء ريشته ووضوح رؤيته، لم يلتزم بمدرسة فنية بعينها أو مادة معينة، لقد كان يتكامل ليخلق عالمه فجاء كما قال عن نفسه: إنني خلاق أشكال· كان يتململ من الأساليب الأكاديمية فآثر المدرسة الرمزية مما جعله يعمق علاقته برودان ودي بوسي، قرأ ''هكذا تكلم زارادشت'' و''نيشته'' و''وليم بليك''· جبران خليل جبران كاسر تقاليد اللغة ومحتكر الإبداع ومكتشف الحب البعيد، كأنه آخر عشاق هذا العصر· عاشق اللغة العربية وميّ زيادة التي لم يرها ولم يحاورها مطلقاً·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©