الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن التداخل بين الثقافات في الكتابة للطفل

عن التداخل بين الثقافات في الكتابة للطفل
13 نوفمبر 2008 02:48
إن التعامل مع الموروث يقتضي أن نفرق بين ما هو نقلي وما هو عقلي، وخصوصا إذا كان هذا التعاملُ يَمَسُّ الإصداراتِ الْمُوجّهةَ للطفل، ومَجَلاتِهِ بالذّات· فالأول، وهو السائد في الساحة الثقافية حاليا، سُكونِيٌّ لا يتطور، يُلَقَّنُ للطفل بلغته العَتيقة، وبعالَمِه الْمَعرفي الْمُتجاوز، أي كما أنتجه القدماء، دون أدنى تصرف أوِ اجتهاد، يُراعيان سَيْرورةَ التطور الْفِكري والْمَعرفي والأدبي عَبْرَ الْعُصور، ولَنا خَيْرُ مِثالٍ على ذلك ما يُنْشَر في كَثيرٍ من مَواقِع الشَّبَكة الْعَنْكَبوتية· وأمّا الثاني، فيتميزُ بقابِلِيّةِ التّفاعلِ مع الْحاضر والْمستقبل، والتأثيرِ فيه إيجابا، والتأثُّرِ بالثَّوْرة الْعِلمية والْمَعْرفية الهائلة، الْمُتَواتِرَةِ بسرعة فائقة؛ إذْ يدَّخِر مَخزونا ثقافيا وعلميا وأدبيا ولغويا غنيا، فضلا عن طاقةٍ مُتَمَيِّزة من الخيال· العربي بنجلون إنَّ استغلالَ الْمَوروث (العقلي) في صياغةٍ (حديثةٍ) لِنُصوصٍ قِصَصِيةٍ وروائيةٍ ومسرحيةٍ وشعريةٍ، ولألعابٍ وألغازٍ، وسِواها من الْمَوادِّ الْمُكَوِّنةِ لِمَجلةِ الأطفال، يسعى إلى: أوّلاً، تَقويةُ شخصيةِ الطفل، وتعزيزُ الثقةِ بنفسه، ومُحيطِهِ الاجتماعي، باعتبار أنَّ الْموروثَ، سواءً كان رسْمِيا أو شعبيا، لم يأتِ من فراغ، وإنَّما هو تراكم كَمي وكَيفي لتجاربَ حياتيةٍ وفكريةٍ حيةٍ، لأُمَمٍ وشعوب متعاقبة، مهما تباعدت أو تقاربتِ الْمَسافاتُ الزمنية والمكانية بينها· ثانيا، صِيانة هُوِّيَّتِهِ من الاندثـار في زمن العَولَمة، ومُقَوِّماتِـهِ الذاتيةِ من التلاشي أمام التَّيارات التغريبية، دون انكفاء أو تَقَوْقُع، يَعْزِلانه عن العالم، ويَشُلاّنِهِ عن مواكبة العصر· ثالثا، خَلْقُ روحِ الْمُواطنةِ الْحَقة لدى الطفل، وغَرْسُ حُبِّ الوطن والأرض ورجالاتِهِما، منذ نُعومة أظفاره، حتى ينشأ في بيئة سليمة، يشْمَلُها الْوُدُّ والتآلفُ والتَّساكُنُ والتعايش· رابعا، ترسيخُ العناصرِ الإنسانيةِ الإيجابيةِ، التي يَزْخَر بِها هذا الْمَوروث، وما خَلَّفَتْهُ من عُمران، وحضارات وإنجازات علمية، وسلوكات نبيلة· خامسا، إبرازُ الصُّوَرِ التراثية الْمُشْرقةِ في كافَّةِ المجالات (لا ينبغي أن تَقْتَصِرَ على الأخْلاقية فقط) لِتَحْتَذِيَها ناشِئَتُنا، وتَتَمَثَّلَها في حَياتِها وعَلاقاتِها مع الآخرين· سادسا، إنَّ بناءَ ثقافةِ الْمُواطنةِ الْحَقيقيةِ يعتمد على الذَّكَرِ والأُنْثى معا، وأحيانا يكون الذَّكَرُ في الْمَوروث بَطَلا، يذودُ عن الوطن، ويخوض معاركَ الحياةِ الْحاسِمَةَ، ولا تأتي الأُنثى إلاّضحيةً، أو أُماًّ حَنونا تُؤَدِّي دَوْرا هامِشيا، أو زوجةً ثانية، تُدَبِّرُ الْحِيَلَ والْمَكائدَ لأبناءِ زوجِها، أو فتاةً جميلةً يتيمةً، تنتظِر شابا غنيا، يُنْقِذُها من الفقر، بَدَلَ أنْ تعملَ وتَجِدَّ مِثْلَهُ· وبِهذه الطريقة، نُكَرِّسُ في الذِّهْنِيَّةِ الطِّفْلِيَّةِ نَموذَجا أُنْثَوِياَّ هَشاًّ، أي نَنْتَقِصُ من شخصية الأُنثى، الَّتي أصبحتْ في عصرنا الحاضر شريكةَ الذَّكَرِ في التفكيرِ والتدبيرِ والتسييرِ، ومساهِمةَ فاعلةً في شُؤونِ الْمُجتمع، لا (ذَيْلِيَّةً) تابعةً له· سابعا، إغناءُ الْموروث بالتِّقْنِياتِ الْحَديثةِ لثقافة الطفل، بِما لا يتعارَض ويتناقَض مع عَقيدتِنا السَّمْحاء، وقِيَمِنا الرّوحِيةِ الرَّفيعَةِ، وثَوابِتِنا ورُموزِنا الْوَطنيةِ، الَّتي أصْبَحَ الْعالَمُ الْعَرَبِيُّ - وحَتّى الْغَرْبِيُّ - يُعاني بِفُقْدانِها كُلَّ الْمَظاهِرِ الْعَنيفَةِ· ثامنا، إنَّ الموروث العربيَّ أوِ الغربيَّ، ليس خُصوصيا أو إقليميا ضيِّقا، يقتصر علينا دون الآخَر، أو ينحصِر في الْغَيْر دونَنا، لأن الإرثَ الثقافيَّ والحضاريَّ هو بِمَثابة نَهْرٍ مشترك، يستقي منه البشرُ جَميعُهُم· فحينما نُمْعِنُ النَّظَرَ ـ على سبيل المثال ـ في كتاب ''الحيوان'' لأبي عُثمانَ الجاحظِ، نجد غالبيةَ نصوصِهِ مُقْتَبَسَةً من كتاب ''الحيوان'' لأرِسْطو· وهذا ينطبق على ''الكوميديا الإلهية'' لدانْتي، الْمُقتبسةِ من ''رسالة الغُفران'' لأبي العَلاء الْمَعَري· و''ألف ليلة وليلة'' كانت ( كما يقول مارسيلْ بْروسْتْ نفسُه ـ النُّطفةَ التي لولاها ما كانت روايته الرائعة ''البحث عن الزمن المفقود'' و''رسالةُ حَيٍّ بْنِ يَقظانَ'' للفَيْلَسوفِ الأنْدَلُسي ابْنِ طُفَيْلٍ، أوْحَتْ للكاتبِ (دانْييلْ ديفو) برحلة ''روبْنْسونْ كْروزو ومغامراتُهُ الْمُدهشةُ'' التي لَخَّصَها للفِتْيانِ الْكاتِبُ العربي الكبير كامل كيلاني في سلسلة ''أشْهَر القصص'' كما ترجمها الكاتب مختار السويفي في سلسلة ''روائع الأدب العالمي للناشئين'' التي يصدرها مهرجان القراءة للجميع بمِصْرَ··· وهذا يدل على تفاعُلٍ دائريٍّ، وتطوُّرٍ جَدَلِيٍّ بين الثقافات والحضارات الإنسانية جَمْعاءَ· تاسعا، العناية بالموروث الشَّفَهِي، كعامل فاعل في تربية الطفل وتنشئته· ويتجلّى في الأهازيج الشعبية والأمثال والحكايات والنوادر والأحاجي، وفي العادات الْمُتَوارَثَةِ، والتقاليد الْمُتَداوَلَة، والأنْماط التعبيرية والتشكيلية، التي ترمي جميعُها إلى التَّحَلّي بالقيم الاجتماعية، من تعاون وتضامن وتساكن، وإلى الشعور بالأصالة والانتماء، والإحساس بالذات، وإعمال العقل· عاشرا، توظيف اللغة العربية بما يلائم الفِئةَ العُمريةَ الْمُستهدَفة، دون تقْعير أو إغراق في الغموض، كي لا نُنَفِّرَ الطفلَ من المطالعة، ونُكَرِّهَه في موروثة· أحَدَ عَشَرَ، التّركيزُ على عُنصر (الخيال) الذي يُشَكِّل الْعَمودَ الْفِقَرِيَّ للعديد من الأعمال التراثية، مثل ''ألف ليلة وليلة'' و''كليلة ودمنة'' و''تَداعي الحيوان على الإنسان'' لإخوانِ الصَّفا، و''آراءُ أهْلِ المدينة الفاضلة'' للفيلسوف أبي نَصْرٍ مُحَمَّدٍ الفارابي، وقصصُ عَنترةَ، وأبي زيْدٍ الهلالي، وسَيْفٍ بْنِ ذي يَزَن، و''قصص العرب'' وسواها كثير·· فَلَطالَما نتج عن عملية التَّخَيُّل، مُخْتَرَعاتٌ ومكتشفاتٌ وإبداعات إنسانية في كل الحقول· ولولا الْخيال، لما حققتِ الإنسانية هذا التقدمَ الْمُذهلَ، ولما تَخلّصتْ من شَرْنقة التخلف·· ولعل سِرَّ التطور العلمي والتكنولوجي لأمريكا وأوربا واليابان والصين، يكْمُنُ في استغلال عنصر الخيال، الذي يَسْري في موروثها سَرَيانَ الدَّمِ في عروق الجسم، وإلا لماذا هذا الاحتفاء الكبير بسلسلة ''هاري بوتر'' في أنحاء العالم الأوروبي والأمريكي؟!··أليس لأنه يُحَلِّق بالطفل في سماء الخيال، ويُقْحِمه في مواقفَ فَنْتازيةٍ، تَشْحَذُ ذِهنه وذَكاءه، وتُحَفِّز عقلَه على التفكير والتخييل؟!·· وبالتالي، فإنه يُيَسِّر له العمليةَ التَّعَلُّميةَ؛ حيث يستوعب بسهولة الموادَّ العلمية، التي يشكو أبناؤنا من صعوبة فهمِها· فانعدامُ أوِ انْحِسارُ الخيال عند أطفالنا المتمدرسين، الذين لا يُبالون بالموروث، هو من العوامل القوية في تخلف التعليم بالعالم العربي· وأذكر يوما دَعَتْني فيه مدرسةُ (جورْج بيزي) الخاصةُ بأبناء الجالية الفرنسية لزِيارتِها، فوجدتُ تلاميذَها، وأنا أنتقل من فصل إلى آخَرَ، يطالعون قصةَ ''حذاء الطُّنبوري'' و''السندباد البحري والبري'' و''عباسٍ بنِ فرناس'' باللغة العربية· بل إن عناوينَ بعض الكتب لم تَعُدْ مُستساغةً عندنا، من مثل ''جولة الشباب في رحاب الآداب'' ولما سألت مُرافقي عن سِرِّ هذا (الحب الكبير) للموروث العربي، وتراكيبه اللغوية القديمة، أجابني بأننا نتوفر على ثروات، أهمَّ من النِّفط، ولا نستغلها، أو نَعْلَمُ بِها حَتّى، وهي ما يَزْخَرُ به موروثنا من خَيال جامِح، وسلوكيات ذكية، ومَهارات دقيقة، وقيم إنسانية رفيعة، مُكَوِّنةٍ لشخصية الإنسان· وإذا كان التعليم الناجح يقوم على دعائمَ أساسيةٍ، من بينها (المدرس الكُفْء) فإن الكتابةَ للطفل، وبالأخص، التي تَنْهَلُ من الْموروث، تفرِض أن يكون صاحبها متمكنا من الأدوات الفنية لصياغته؛ لا أن يكون مثل (حَطّابِ الليل) ينقل للقارئ الصغير كلَّ ما يَعْثُرُ عليه من أعمال في كتب التراث، ويُلَقِّمُهُ إيّاهُ، بلا صياغةٍ مناسبةٍ لسِنِّهِ، وخصائصه الفكرية واللغوية· وهنا نستشهد بقولة الجاحظ إن الْمعانِيَ مطروحةٌ في الأسواق، وعلى قارعة الطريق أمام الغادي والرائح، في وُسْعِ أيِّ كاتبٍ أن يلتقِطَها، ويختارَ منها الْجَيِّدَ إنْ أرادَ·لكنْ، ما يُمَيِّز كاتبا عن آخَرَ- وأعني كاتبَ الصغار بالذات والصفات، الذي يهُمُّنا - هو إلْمامُهُ بتضاريس شخصية الطفل في مراحلها المتداخلة والمتماسكة، والْمُتَدَرِّجَةِ من مرحلة الطفولة الْمُبَكِّرة، إلى المرحلة المتوسطة أوِ الخيال الْحُرِّ، فالطفولةِ المتأخرةِ أوِ الواقعيةِ الثانية، ثم مرحلةِ اليقظة أوِ المغامرة والمخاطرة، وأخيرا مرحلة المراهقة· ولكلٍّ من هذه المراحل خصائصُ تُمَيِّزُها من نواحي النمو المختلفة (جسمية، عقلية، انفعالية، اجتماعية··) فما يقدمه الكاتب للطفل في هذه المرحلة، لا يصلح لآخرَ في المرحلة التي تليها، وهكذا··إذن-يؤكد الأستاذ بنجلون -من الضروري أن يُدركَ الكاتبُ هذه الأطوارَ العمرية ومكوناتِها، ولابد له من غَرْبَلَةٍ دقيقة لِما يوظفه من موروثات· فالكثير منها يتضمّن أفكارا خاطئة، تُضِرُّ بسلوكِ الطفل· مثلا، هناك من حَوّلَ مَقاماتِ بديع الزَّمانِ الْهَمذاني إلى قصص ومسرحيات للأطفال، لكنه ترك نِهاياتِها كما هي: يحتالُ البطلُ على البسطاء من الناس، ويستغل طَيْبوبَتِهِمْ وعَرَقَهُمْ، وفي النهاية، يَفْلِتُ من العِقاب!! والطفل بالمناسبة (كائنٌ إسْفَنْجِيٌّ) يلتقط ما يراه ويسمعه ويقرأه، دون فَحْصٍ أو تَمْحيصٍ، بل يحاول أن يُجَرِّبَهُ ويتمَثّلَه، لأنه ينظر إلى الكاتب بـ(عينٍ مِلؤها الرِّضى والثقة) ويعتبر ما يكتبه (صحيحا نافعا) وأحيانا لا يفرق بين الرمز والحقيقة· بينما نجد في رحلة ابن بطوطة، كمثال، مجموعةً من القصص الواقعية، أبطالها أطفال، وتحمل مبادئَ وقيما تربوية واجتماعية عالية، استعان بِها علماء الاجتماع، ورجال القانون والحقوقيون والمشرِّعون الغربيون في صياغة حقوق الطفل العالمية، لكن، ويا لَلأسَفِ الشديد، لم نستغلَّها، نحن العربَ، لِحَدِّ الآن''· الكاتب الحقيقي هو مَنْ يغْرِس في طفلنا شجرةَ الأمل والتفاؤل والخير والتسامح، والتفكير الجيد في تَحسين شُروط الحياة، لا مَنْ يُنْشِئُ جيلا مرعوبا، لا يَسْتَطيعُ العيشَ، والتَّأَقْلُمَ مع الآخرين· عِلْما بأن دولا متقدمة مِمَّن تُعنى بموروثها، وبثقافة الطفل عامة، ألْغَتْ كُلَّ الألفاظ والعبارات والْجُمَل، فضْلاً عنِ الْموضوعات والقضايا والْمَشاهد، الدّالَّةِ على الخوف والرّعب، والموت كذلك، ولو كان طبيعيا، لأنه يَهُزُّ ثقةَ الطفل في أسرته ومحيطه الاجتماعي، اللذين يحتمي بِهِما· كما حَذَفَتْ من قاموسها المفرداتِ القاسيةَ، لِما تَحْمِلُهُ من شُحْنات انفعالية، مثل: القتل والبطش والفتك والضرب والقذف والاعتداء، وماشاكلها·· فنفسية الصغير هَشّة، تتأثر سَلْبا بِها، ولا تتحمّلُ قراءةَ كتب أو مجلات الخوف والرعب، التي تُغَذِّي الْمُيولَ الْعُدوانية، دون أن ننسى أن الطفل الذي تربى على ثقافة العنف والتعصّب، سيجْنَحُ نحوَ الْمَواقف الْمُتَطرفة، ونَحْتَفِظ بعَشراتِ الأمثلةِ من الواقع على ذلك· وإذا كانت المجلة تكتسي صبغةً خاصة، لا تتوفر في الكتاب؛ أي أن هذا الأخيرَ يضُمُّ موضوعا واحدا، وجِنسا أدبيا مُعَيَّنا، كالقصة أوِ المسرحية أوِ الشعر·· فالمجلة تحتضِن كلَّ هذه الأجناس، بالإضافة إلى الْمَقالة والْمُسابقة والأنشطة الْمُتنوعة· كما أنّها تصبح (خيرَ جليس) للطفل، ولصيقةً به، سواء في المنزل أو المدرسة أو السفر· ويقتنيها كلَّ شهر، ويتتبع حلقاتِ قِصَصِها الْمَرسومةِ بشوق وشَغَفٍ كبيرين، ويساهم في إعدادها باقتراحاته وكتاباته·أيْ، باخْتِصارٍ، لَيْسَتْ مَنْتوجاً عابِراً·من ثَمَّةَ، تتحمّلُ الْمجلةُ مسؤوليةً جسيمةً في بناء شخصية الطفل روحيا وثقافيا ووطنيا، حتى يصبحَ عنصرا فاعلا في مُجتمعه· كاتب مغربي النص ورقة قدمها الكاتب لندوة حول ثقافة الطفل نظمتها وزارة التربية والتعليم بسلطنة عمان، وحملت عنوان ''توظيف الموروث في إصدارات الأطفال''
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©