السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كادح ووحيد ومليء بالشجن

كادح ووحيد ومليء بالشجن
13 نوفمبر 2008 03:03
يستيقظ الساعة الخامسة والنصف ليستعد لمشوار العمل· جاء من مكان آخر، هو هنا للعمل· لا يجب أن يتذمر· ولا يتذمر· فقط هو متعب· متعب جدا· عموده الفقري يؤلمه، من عند الحوض، وتحت الفخذين، وأصابع قدميه متورمة، من طول الجلوس على مقعد السيارة وخلف كرسي المكتب وطول فترة ارتداء الحذاء· لكن، هو يضحك، يتحدث، ويأكل أظافر أصابعه· هو لا يتذمر، فقط يود لو يستلقي بضع دقائق أخرى أكثر، أو لو يجد وقتا ليمشي حافيا على شاطئ· مضت شهور طويلة لم يتنشق هواء طبيعيا، فقط هواء المكيف، هو لا يتذمر، لكن رئتيه تؤلمانه، هناك وخزات متكررة في صدره، يحتاج فقط أن يمدد جسمه بعض الشيء، لو يقوم ببعض التمارين، ربما يحاول اليوم، ربما يذهب بعد العمل· هو لا يتذمر، لكن ساعات العمل طويلة، ينتهي قبيل المغرب، حين يصل البيت يكون قد أوشكت صلاة العشاء، الأطفال الصغار كانوا ينتظرونه، يريدون أن يلاعبهم، أن يتحدثوا، أن يخبروه عن يومهم المدرسي، عن أصحابهم، عما حدث لهم اليوم وأمس ومن سنوات، يريدون أن يعرفوه، حسنا، فقط سيدخل ليستريح قليلا، وسيأتي لمداعبتهم، يدخل ليمدد جسده، يثقل جسده، يثقل جفناه، يثقل نَفَسه، يردد في نفسه ''لا بأس سأنام الآن غدا أجالسهم''··· ويعرف أن غدا هذا لن يجيء قريبا· لا يبدو أنه نام أكثر من خمس دقائق لكنه جرس المنبه يشير إلى الخامسة والنصف··· كيف يتحرك؟ كيف يحمل جسده على النهوض؟ سيبتدئ بقدميه، عليه أن يبتدئ بقدميه، إذا تحركا سيتحرك الساقان، ثم سيتمكن من تقليب جسده وإنهاضه· لا بد أن تتحرك قدماه، المنبه يكرر جرسه، إنها تتجاوز الخامسة والنصف، لا يزال يحاول أن يجعل قدماه تذعنان لأمر الاستيقاظ، ''هيا استيقظا'' يرسل إليها الرسالة من عقله الباطن، الداكن، النايم· يجب أن يستيقظ، بالأمس تأخر عشر دقائق بسبب حادث في الطريق، لن يوافق المدير على تأخره اليوم أيضا، حتى لو بسبب حادث آخر في الطريق·· هو لن يخصم من مرتبه، أو يحيله إلى مجلس تأديبي، ولن يفصله بسبب ذلك ببساطه، لكنه قد ينظر إليه شزرا، وربما يلقي كلمات توحي بتقصيره، وهذا يكفي ليجعله عكر المزاج طوال اليوم، يكره أن يبدو مقصرا· ''حسنا، وإن يكن·· ماذا سيحصل، لن تكون نهاية الدنيا، سأبتدئ البحث عن عمل آخر أقرب'' يحاور نفسه المنهكة، لازالت إشارات عقله تحاول الوصول إلى قدميه ''أحقا؟''، ''حسنا في كل الحالات سأعود إلى بلدي'' يتذكر كل الهم الجاثم على صدره، مسؤولية العيال، مدارسهم، مصاريفهم، وأمهم المتمسكة ببريق المدينة الحديثة·· بأشيائها البراقة، بمكانتها بين نساء عائلتها وهي قادمة من مدينة الذهب·· لن تقبل أن يعودوا· وإن قبلت، ماذا سيفعل، هل سيجني ما يكفي ليعيشوا كما اعتادوا؟ كان جرس المنبه قد تجدد للمرة الرابعة، نهض مثل شهاب سقط من سماء، وهوى إلى حوض الاستحمام· في الطريق إلى العمل تأخذه سنة من جوع، لم يأكل شيئا من أمس، هل يتوقف أم يستمر، يقرر التوقف عند محطة البنزين، يأخذ استراحة فنجان قهوة خبزة محمصة وتفاحة، يعاود المسير، قد تأخر على أية حال، هذه الليلة سينام مبكرا أكثر، مبكرا متى؟ في الطريق؟ يتساءل لغباوة قراره· أفلا يسقط ميتا، نائما، لحظة وصوله؟· ربما يجب أن يغير مقر سكنه، يبحث عن سكن قريب من عمله، لكن، ألم يفكر في هذا من قبل؟ ألم يستفسر ويكتشف أن أسعار الإيجارات للشقق الصغيرة تتجاوز أضعاف راتبه؟! هو لا يتذمر، فقط يود لو ينام، ويتمطى على شاطئ فاتحا صدره لهواء البحر المنعش· هو يريد فقط بضع ساعات إضافية في اليوم، للنوم، للأكل، لبعض حركة، لمداعبة الصغار، للحياة· ألا يمكن أن يعاد تقسيم ساعات اليوم الواحد لتغدو 48 ساعة بدلا من 24؟ ما المانع؟ من قسم الأيام بهذا الشكل على أية حال، أليس الإنسان؟ كانت كافية في البداية، الآن الوضع تغير، أصبح الإنسان يلهث مثل كلب السباق، يجب أن يعاد تقسيم اليوم لتعود للإنسان إنسانيته· حين يصل يبتدئ في العرج، يريد نزع الحذاء وارتداء خفّ مريح، لكنهم يصرون على الزي الرسمي من أخمص القدم لقمة الرأس، ويحمد الله أن زمن الطرابيش انتهى، ربما يأتي زمان تنتهي فيه الأحذية أيضا، يتمنى فقط أن تظل قدماه صالحة حتى ذلك اليوم· في المكتب ينكب على العمل، معاملات كثيرة عليه انجازها، والكل مستعجل، وكل شيء يجب أن ينتهي العمل فيه البارحة، يشعر وكأن إصبع أحدهم تضغط على جمجمته بشدة وتثبت رأسه على كومة الورق، حتى لتكاد أن تخرمه· يريد أن يتنفس، يشعر باختناق، لم يعد جلد يكفي حول أصابعه، والأظافر باتت ترف جسدي لا يحتاجه· سيذهب اليوم إلى الشاطئ، تحت أي ظرف· وعلى الشاطئ يخلع حذاءه، جواربه، ساعته، ربطة عنقه، يفتح أزرار قميصه، ويتمطى، يفتح صدره، للريح، للبحر، للهواء، للسماء، لله· يرن هاتفه، زوجته تطمئن لم لم يعد بعد، يخبرها أنه سيبيت حيث هو، يغلق سريعا قبل أن ينهمر سيل استفساراتها· يرمي بالجهاز داخل السيارة، يتمشى إلى البحر، يلامس الماء، تداعب الأمواج الدافئة الحنونة قدميه، يتنفس مثل جنين خرج للتو من رحم أمه· تهرب منه ضحكة لا يعرف كيف، وتسقط دمعتان لا يدري كيف· فقط يستشعر مداعبة الموج لقدميه، ويجلس، على الرمال المبتلة، البحر، الكائن الوحيد الذي يُدَلله دون أن ينتظر منه شيئا، الكائن الوحيد الذي يعرف احتياجاته الإنسانية، الذي يدرك أنه مهما طال به الأمد كموظف مُجِدّ فهو في أعماقه لا يزال إنسانا يتعب· يترك البحر لقدميه، ويعلق عينيه بالقمر، بالسماء الصافية بنجومها المتلألئة· بالجمال الذي يملأ الكون، ويملأه· أية حياة هي تلك التي نحياها دون استشعار الجمال! تنتشي روحه المنهكة في رهبة الليل الساكن، ويسترخي جسده المكدود على الربت الحنون المتواتر الوثير لأمواج البحر، يستلقي على ظهره، وينام مثل جندي عائد من حرب انتهت فجأة· في اليوم التالي يكون قد كتب استقالته وأرسلها بالبريد الإلكتروني· قاصة إماراتية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©