الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القيم الأخلاقية في مهب الريح

القيم الأخلاقية في مهب الريح
25 يناير 2006
تحقيق- خورشيد حرفوش:
'إنه جيل آخر زمن!!'
جملة، أو تعليق يحمل كثيراً من الدلالات، والدهشة، والتعجب، ولا يخفي معاني العجز، وقلة الحيلة في آن واحد·
جملة كثيراً ما نسمعها، ويرددها الآباء والأمهات والمربون أمام تصرفات الأبناء الغريبة، وأمام سلوكياتهم المحيرة، وأفكارهم الغامضة، وتوجهاتهم غير المفهومة·
حيث باتت الأسرة في واد، والقيم الأخلاقية والتربوية في واد آخر، والأبناء في واد ثالث لا ينتمي عادة لا لهذا، ولا لذاك·
فالأسرة تحاول في عصر السماوات المفتوحة، والعولمة الكونية أن تمسك بتلابيب مقومات التنشئة الاجتماعية الصحيحة ومفرداتها المستمدة من أصالة القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية التي عهدها الآباء والأجداد في تفاصيل الحياة اليومية، جاهدة في غرسها في نفوس الأبناء، وتربيتهم عليها، إلا أنها سرعان ما تصطدم بالسيل الجارف للثقافة الغريبة الوافدة من كل حدب وصوب، وفي كل اتجاه، ويقف الآباء والأمهات، ومؤسسات المجتمع التعليمية والتربوية عاجزين، مكتوفي الأيدي، وغير قادرين على مواجهة الواقع الجديد بمفرداته، ومتغيراته السريعة، والمتلاحقة، والمؤثرة على الجيل الجديد من الأبناء·
في السابق، كانت الأسرة 'الوعاء' الوحيد الذي يحتضن النشء، و'المرجعية' الوحيدة لكل ما يتسلل إلى ذاته من فكر، وقيم، وثقافة، وكل ما يكتسبه من خبرات ومعارف، إلى جانب قنوات التنشئة الاجتماعية المجتمعية الأخرى، في المدرسة، والجامعة، والنادي، والشارع، والرفاق، والمسجد، وغير ذلك من مؤثرات، إلى أن هبت رياح التغيير لتنسف الحواجز، وتطيح بالموانع، ويختلط الحابل بالنابل·
أمام هذه الحالة، بات الجيل الجديد يتخبط بين 'سندان' القيم الإسلامية والعادات والتقاليد والموروثات الثقافية الأصيلة المتمثلة في الأسرة والمجتمع، و'مطرقة' العولمة والثقافة الغربية الغريبة الوافدة، بكل قوتها، ومغرياتها، ففقد توازنه، وتماسكه، وضل مكانه، كما ضل طريقه·
هل أصبحت الأسرة التقليدية غائبة، أو مهمشة؟ ولماذا أضحت عاجزة أمام رياح التغيير، وبات تأثيرها محدوداً ودورها مفقوداً؟
هل لا زالت الأسرة قادرة على أن تسترد دورها الطبيعي في عملية التنشئة الاجتماعية السليمة كمرجعية دينية وأخلاقية واجتماعية وثقافية وفكرية؟ أم أنها هي الأخرى راحت ضحية، وباتت أداة سلبية من أدوات التهميش، والتسطيح، والتغريب؟
إذا كان الأمر كذلك··· فما السبيل اذن إلى استعادة الأسرة مكانتها، ودورها، ووظيفتها؟
تساؤلات تبحث عن اجابة في هذا التحقيق:
تشير كثير من الدراسات الحديثة إلى أن الجيل الجديد في معظم بلدان العالمين العربي والإسلامي على وجه التحديد، في الفئة العمرية ما بين 1990-2005 يستقي أكثر من 95 في المائة من معارفه، وثقافته، وخبراته من وسائل الإعلام، المتمثلة في التليفزيون والانترنت على وجه الخصوص، وأن أبناء المنطقة العربية على وجه التحديد هم المستهدفون بالدرجة الأولى من البث الفضائي المباشر للمحطات الموجهة التي تستخدم أشكالاً وأساليب مختلفة تبث من خلالها كثيراً من سمومها الفكرية والثقافية·
وفي دراسة للجامعة الأميركية بالقاهرة، عن مخاوف الآباء والأمهات من تأثير وسائل الاعلام المرئية، أكد أكثر من 98 في المائة من أفراد العينة أن الانترنت، والقنوات الفضائية تمثل الخطر الداهم الأول الذي يهدد فكر الجيل الجديد، وأنها أصبحت داءً مستشرياً، وحقيقة ماثلة للعيان، تفرض نفسها، وتؤكد خطورتها على النشء يوماً بعد يوم وعلى جميع أفراد المجتمع بكل فئاته·
قلق غربي
لم يعد الأمر يقتصر فقط على المجتمعات العربية والإسلامية، فهذه 'ملينا ميركوري' وزيرة الثقافة اليونانية السابقة تصرخ من مداهمة ثقافة الأقمار الصناعية في شكل غزو فكري جديد لبلدها، وفي فرنسا نفسها، يصرح وزير الثقافة الفرنسي أنه 'خائف من وقوع الشعب الفرنسي ضحية الاستعمار الثقافي الأميركي، كما يعرب الطبيب النفسي الشهير 'استيفن يانا' الأستاذ بجامعة كولومبيا: 'اذا كان السجن هو جامعة الجريمة، فإن التليفزيون والانترنت والقنوات الفضائية باتت المدرسة الإعدادية للانحراف'·
فإذا كان هذا رأي النخبة في الغرب، فماذا نقول نحن؟
فوضى عارمة
الدكتورة كريمة العيداني الخبيرة التربوية والنفسية تؤكد خطورة الظاهرة وتقول: 'كانت الأسرة في المجتمعات العربية والإسلامية في سنوات ما قبل السنوات المفتوحة، وغزو الفضائيات، والثورة التكنولوجية والرقمية وعالم الانترنت، المصدرالأول الذي يتزود منه الأبناء قيمهم، ومعارفهم، وثقافاتهم، وعاداتهم وتقاليدهم، حتى بعد أن ينهي الابن حياته الجامعية، وكانت صلته بالثقافات الأخرى صلة محدودة من خلال المناهج الدراسية، أو الكتب والمطبوعات التي تصله، أو من خلال السفر، والاحتكاك بالثقافات الأخرى، أو الأفلام التي كانت تعرض أحياناً في التليفزيون بشكل محدود، ومن ثم كان تأثير الأسرة قوياً، وملموساً، ومؤثراً، لذا كانت مرجعية الأبناء في كل ما يواجهونه من خبرات حياتية هي الأسرة، وثقافتها الدينية، والأخلاقية والاجتماعية والعادات والتقاليد والتراث والإرث الحضاري والثقافي السائد في المجتمع، إلى جانب المؤسسات التربوية الدينية والتعليمية والثقافية الأخرى التي تكمل هذا الدور، ولم يكن هناك تعارض، أو صراع، أو تيارات فكرية مناهضة أو غريبة، ومن ثم لم تنتشر القيم، والتقاليع، والظواهر السلبية الكثيرة التي نراها اليوم'·
وتضيف الدكتورة العيداني قائلة: 'حتى النماذج من المثل الأعلى، والقدوة، التي كان الصغار يتوحدون بها، كانت نماذج مستوحاة من التاريخ العربي والإسلامي، والحضارة العربية والإسلامية والشخصيات التي كانت معروفة لدى الآباء والأمهات، أما الصورة اليوم فقد تغيرت تماماً، وأصبح الجيل الجديد ينتمي إلى عالم آخر، وثقافات أخرى غريبة، وغير معروفة حتى لدى الآباء والأمهات بفعل التداخل والتمازج والفوضى الفكرية من الغزو الفضائي الذي اقتحم المجتمعات العربية والإسلامية دون استئذان، وألغى خصوصيتنا، وثقافتنا وبات يهدد هويتنا وانتماءنا الفكري والثقافي بشكل خطير، ومن ثم نجد الأبناء ينساقون وراء هذه التيارات دون تفكير، فالعالم من حولهم يفرض عليهم هذه الثقافة، وبحكم طبيعة أعمارهم كمراهقين وشباب، فإنهم سرعان ما يقلدون دون تفكير، بل ويتخذون من الشخصيات الممسوخة نماذج وقدوة ومثل عليا لهم دون وعي أو إدراك'·
دراسات تربوية
في دراسة حديثة للمجلس العربي للطفولة والتنمية على شريحة عريضة من الأطفال والمراهقين أكدت الدراسة أهمية الدور الذي يلعبه التلفزيون في تثقيف وتوسيع مدارك الطفل والخبرات عبر البرامج الهادفة المختلفة، لكن هناك العديد من السلبيات التي تؤثر على التنمية الانفعالية، لزيادة توعية البرامج التي تحتوي على مشاهد العنف·
كما أشارت إلى أن القوات الفضائية بسيطرتها وهيمنتها على قطاع كبير من المشاهدين أصابت عملية التنشئة الاجتماعية بما يضعف التواصل والعلاقات الأسرية خاصة بين الأطفال وأبويهم·
واعتبرت الدراسة ان التنشئة التلفزيونية أثرت على الأطفال وحولتهم من نشطاء مندفعين إلى أطفال أكثر حذرا وسلبية لا يريدون التقدم واكتشاف المجهول·
واستشهد الخبراء في بحثهم بالعديد من الدراسات التربوية التي أجريت في العقد الأخير والتي تربط بين مشاهدة التلفزيون والتحصيل الدراسي وأنه كلما زادت مشاهدة الأطفال للتلفزيون يتراجع مستواهم الدراسي·
كما أشارت الدراسة الى أن هناك دلائل تشير إلى أن مشاهدة التلفزيون لا تؤدي إلى تقليل التحصيل فحسب، بل أنها أثرت في طبيعة لعب الأطفال خاصة اللعب في المنزل أو مع الرفاق·
وأكدت أنه على الرغم من دور التلفزيون في النمو الاجتماعي والثقافي للطفل فإنه قد يؤدي إلى أن يصبح الطفل شخصية ضعيفة منفصلة عن مجتمعها إذا ما ركز على عرض قيم وثقافات أخرى كما تؤثر على ذاتية الطفل الاجتماعية والثقافية·
وأوضحت الدراسة ان القوات الفضائية أصبحت تشكل مدرسة موازية في ظل المعارف والثقافات الهامشية، فيما تقدمه من برامج ليست هادفة تؤدي إلى تهميش ثقافة الطفل·
هدم القيم
تؤكد الخبيرة التربوية الدكتورة خديجة الشامسي، أهمية منظومة القيم في تكوين شخصية الفرد، وما يحيط المجتمع من مخاطره وغزو فكري وأخلاقي، يضع أفراد المجتمع ومؤسساته الدينية والتربوية والاجتماعية، والآباء والأمهات أمام تحديات خطيرة، فالجيل الجديد تتفتح عيونه الآن منذ وقت مبكر على سرطانات منتشرة، وثورة للجنس والخلاعة والانحلال، والتفسخ الأخلاقي الذي يهدد القيم الروحية والاجتماعية، فقبل وقت قصير، كانت الدنيا تقوم ولا تقعد لمجرد سماح الرقيب بالتلفزيونات العربية بمشهد ساخن، أو لقطة خارجة عن الذوق العام، أما الآن فالباب أصبح مفتوحا على مصراعيه، وهبت رياح العولمة من كل جانب، ولم تعد الأسرة قادرة على ضبط مصادر المعرفة للطفل أو المراهق، وأصبح في كل بيت 'دش'، وفي يد كل طفل 'محمول' و'بلوتوث' وأصبحت الأمية أمية الإلمام بالكمبيوتر، ووقف الآباء والأمهات عاجزين على ملاحقة هذا النوع من التقدم التكنولوجي والمعرفة، بل وتفوق الصغار عليهم، وأصبح الأمر خارج السيطرة'·
مضاعفة الجهد
الدكتورة نادية أبوعوف الخبيرة الأسرية والاجتماعية توجز السبل التي يمكن من خلالها تقليل الآثارالسلبية للغزو الفكري لمجتمعاتنا العربية والإسلامية بالعمل في اتجاهين معاً، الأول يتمثل في تحصين الجيل الجديد منذ الصغر بالقيم والمفاهيم والأخلاقيات والثقافة الإسلامية الصحيحة من قبل الأسرة، والمدرسة، والجامعة، والأمر الثاني العمل على الحد من تعرضه أو اطلاعه لمثل هذه التيارات الفاسدة، وفي نفس الوقت علينا أن نحصن معارف الأبناء بالمفاهيم الصحيحة، والقيم التي تربى عليها وتوعيتهم بمثل هذه الثقافات الغربية ومخاطرها من خلال تغيير المواقف والاتجاهات، وأن نحدد الخطوط الفاصلة بين الحلال والحرام، والعيب، والقيم والأخلاق، وغير ذلك من معان حتى لا يقع الطفل أو المراهق في تناقض وتشتت، وحتى يستطيع مقاومة التشتت والاختراق الفكري، وهذا يتطلب وعياً كاملاً ومعرفة، وجهداً كبيراً تتعاون فيه كل مؤسسات المجتمع ووسائل إعلامه وأجهزته التعليمية والثقافية والتربوية'·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©