الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصة أمين

قصة أمين
14 نوفمبر 2008 00:28
قال أحد التجار: قصدت الحج في بعض الأعوام، وكانت تجارتي عظيمة وأموالي كثيرة وكان في وسطي هميان، فيه دنانير وجواهر قيمة، وكان الهميان من ديباج أسود· فلما كنت ببعض الطريق نزلت لأقضي بعض شأني فانحل الهميان من وسطي، وسقط ولم أعلم بذلك إلا بعد أن سرت عن الموضع فراسخ، ولكن ذلك لم يكن يؤثر في قلبي لما كنت أحتويه من غنى، واستخلفت ذلك المال عند الله إذ كنت في طريقي إليه تعالى· ولما قضيت حجتي وعدت تتابعت المحن عليّ حتى لم أملك شيئاً! فهربت على وجهي من بلدي· ولما كان بعد سنين من فقري أفضيت الى مكان وزوجي معي، وما أملك في تلك الليلة إلا دانقاً ونصفاً، وكانت الليلة مطيرة، فأويت في بعض القرى الى خان خرب فجاء زوجي المخاض فتحيّرت ثم ولدت فقالت: يا هذا الساعة تخرج روحي، فاتخذ لي شيئاً اتقوّى به، فخرجت أخبط في الظلمة والمطر حتى جئت الى بدّال فوقفت عليه فكلمني بعد جهد، فشرحت له حالي فرحمني وأعطاني بتلك القطع حلبة وزيتا وأغلاهما، وأعارني إناء جعلت ذلك فيه، وجئت أريد الموضع، فلمّا مشيت بعيداً وقربت من الخان زلقت رجلي وانكسر الإناء وذهب جميع ما فيه، فورد على قلبي أمر عظيم ما ورد علي مثله قط! فأقبلت أبكي وأصيح وإذا برجل قد أخرج رأسه من شباك في داره، وقال: ويلك! ما لك تبكي؟ ما تدعنا ان ننام! فشرحت له القصة، فقال: يا هذا، البكاء كله بسبب دانق ونصف! قال: فداخلني من الغم أعظم من الغم الأول، فقلت: يا هذا، والله ما عندي شيء لما ذهب مني، ولكن بكائي رحمة لزوجي ولنفسي، فإن امرأتي تموت الآن جوعاً، ووالله لقد حججت في سنة كذا وكذا وأنا أملك من المال شيئاً كثيراً، فذهب منّي هميان فيه دنانير وجواهر تساوي ثلاثة آلاف دينار، فما فكرت فيه وأنت تراني الساعة أبكي بسبب دانق ونصف، فاسأل الله السلامة ولا تعايرني فتبلى بمثل بلواي· فقال لي: بالله يا رجل، ما كانت صفة هميانك؟ فأقبلت أبكي وقلت: ما ينفعني ما خاطبتني به أو ما تراه من جهدي وقيامي في المطر حتى تستهزئ بي أيضاً وما ينفعني وينفعك من صفة همياني الذي ضاع منذ كذا وكذا! ومشيت فإذا الرجل قد خرج وهو يصيح بي: خذ يا هذا فظننته يتصدق عليّ فجئت وقلت له: أي شيء تريد؟ فقال لي: صف هميانك وقبض عليّ فلم أجد للخلاص سبيلا غير وصفه له فوصفته فقال لي: ادخل فدخلت فقال: أين امرأتك؟ قلت: في الخان فأنفذ غلمانه فجاءوا بها وادخلت الى حرمه، فأصلحوا شأنها وأطعموها كل ما تحتاج اليه وجاءوني بجبة وقميص وعمامة وسراويل وأدخلت الحمام سحرا وطرح ذلك عليّ وأصبحت في عيشة راضية· وقال: أقم عندي أياما فأقمت عشرة أيام كان يعطيني في كل يوم عشرة دنانير، وأنا متحير في عظم بره بعد شدة جفائه! فلما كان بعد ذلك قال لي: في أي شيء تتصرف؟ قلت: كنت تاجرا، قال: فلي غلات وانا أعطيك رأس مال تتجر فيه وتشركني· فقلت: أفعل، فأخرج لي مائتي دينار فقال: خذها واتجر فيها ههنا، فقلت: هذا معاش قد أغناني به الله يجب ان ألزمه فلزمته· فلما كان بعد شهور ربحت فجئته وأخذت حقي وأعطيته حقه، فقال: اجلس، فجلست، فأخرج لي همياني بعينه وقال: أتعرف هذا؟ فحين رأيته شهقت وأغمي عليّ، فما أفقت الا بعد ساعة! ثم قلت له: يا هذا أملك انت أم نبي! فقال: أنا أحفظه منذ كذا وكذا سنة، فلما سمعتك تلك الليلة تقول ما قلته وطالبتك بالعلامة فأعطيتها أردت ان أعطيك للوقت هميانك فخفت ان يغشى عليك، فأعطيتك تلك الدنانير التي أوهمتك أنها هبة، وانما أعطيتكما من هميانك فخذ هميانك واجعلني في حلّ! فشكرته ودعوت له· أخذت الهميان ورجعت الى بلدي فبعت الجوهر وضممت ثمنه الى ما معي واتجرت فما مضت الا سنيات حتى صرت صاحب عشرة آلاف دينار وصلحت حالي! الدينار والدرهم حُكي أن هند ابنة النعمان كانت أحسن أهل زمانها، فوصف للحجاج حسنها، فأنفذ إليها يخطبها، وبذل لها مالاً جزيلاً، وتزوج بها، وشرط لها عليه بعد الصداق مائتي ألف درهم ودخل بها، ثم إنها انحدرت معه إلى بلد أبيها المعرة وكانت هند فصيحة أديبة، فأقام بها الحجاج بالمعرة مدة طويلة، ثم إن الحجاج رحل بها إلى العراق فأقامت معه ما شاء الله، ثم دخل عليها في بعض الأيام وهي تنظر في المرآة وتقول: وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تحللها بغلُ فإن ولدت فحلاً فلله درّها وإن ولدت بغلاً فجاء به البغلُ فانصرف الحجاج راجعاً ولم يدخل عليها، ولم تكن علمت به، فأراد الحجاج طلاقها، فأنفذ إليها عبدالله بن طاهر، وأنفذ لها معه مائتي ألف درهم، وهي التي كانت لها عليه، وقال: يا ابن طاهر طلقها بكلمتين، ولا تزد عليهما، فدخل عبدالله بن طاهر عليها، فقال لها: يقول لك أبو محمد الحجاج كنت فبنت، وهذه المائتا ألف درهم التي كانت لك قبله، فقالت: اعلم يا ابن طاهر: أنا والله كنا فما حمدنا، وبنا فما ندمنا، وهذه المائتا ألف درهم التي جئت بها بشارتك لك بخلاصي من كلب بني ثقيف· ثم بعد ذلك بلغ أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان خبرها ووصف له جمالها، فأرسل اليها يخطبها، فأرسلت اليه كتاباً تقول فيه بعد الثناء عليه اعلم يا أمير المؤمنين، أن الإناء ولغ فيه الكلب، فلما قرأ عبدالملك الكتاب ضحك من قولها وكتب اليها يقول: اذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب، فاغسلي الإناء يحل الاستعمال، فلما قرأت كتاب أمير المؤمنين لم يمكنها المخالفة، فكتبت اليه بعد الثناء عليه، يا أمير المؤمنين، والله لا أحل العقد إلا بشرط، فإن قلت: ما هو الشرط؟ قلت: أن يقود الحجاج محملي من المعرة إلى بلدك الذي أنت فيها، ويكون ماشياً حافياً بحليته التي كان فيه، أولاً، فلما قرأ عبدالملك ذلك الكتاب ضحك ضحكاً شديداً، وأنفذ إلى الحجاج وأمره بذلك، فلما قرأ الحجاج رسالة أمير المؤمنين أجاب وامتثل الأمر ولم يخالف، وأنفذ إلى هند يأمرها بالتجهيز، فتجهزت، وسار الحجاج في موكبه حتى وصل المعرة بلد هند، فركبت هند في محمل الزفاف، وركب حولها جواريها وخدمها، وأخذ الحجاج بزمام البعير يقوده ويسير بها فجعلت هند تتواغد عليه وتضحك مع الهيفاء دايتها، ثم إنها قالت للهيفاء، يا داية اكشفي لي سجف المحمل، فكشفته، فوقع وجهها في وجه الحجاج، فضحكت عليه، فأنشأ يقول: فإن تضحكي منّي فيا طول ليلة تركب فيها كالقباءِ المفرّجِ فأجابته هند تقول: وما نبالي اذا أرواحنا سلمت بما فقدناه من مالٍ ومن نشب فالمال مكتسبٌ والعز مرتجعٌ اذا النفوس وقاها الله من عطب ولم تزل كذلك تضحك وتلعب إلى أن قربت من بلد الخليفة، فرمت بدينار على الأرض، ونادت: يا جمّال إنه قد سقط منا درهم، فارفعه إلينا، فنظر الحجاج إلى الأرض، فلم يجد إلا ديناراً، فقال: إنما هو دينار، فقالت: بل هو درهم قال: بل دينار، فقالت: الحمد لله سقط منا درهم، فعوّضنا الله ديناراً، فخجل الحجاج وسكت، ولم يرد جواباً، ثم دخل بها على عبدالملك بن مروان، فتزوج بها· هدية من غيره كان سعيد بن الوليد الكلبي كاتباً للخليفة الأموي هشام بن عبدالملك بن مروان· وإذ كان جالساً عنده أقبل عمر بن هبيرة فتكلم بين يدي هشام بكلام بليغ نال إعجاب هشام بشكل ملحوظ·· حتى التفت الى سعيد فقال: ما مات من خلف مثل هذا! فأكل الحقد قلب سعيد مخافة ان يطغى عليه عمر في نظر هشام، فقال لهشام·· ليس هناك يا أمير المؤمنين، ألم تر كيف يرشح جبينه لضيق صدره؟ فسمعه عمر فاقترب وقال في الحال: ليس لذلك رشح جبيني·· انما رشح لما رأيت مثلك يجلس مجلساً ما استحقه بعلم·· ولا خلق ولا دين! فأفحمه وازداد هشام إعجابا به، حتى جعله يسير معه في موكبه متأخراً قليلاً· بيد ان حقد سعيد لم ينته·· وانما جعل يدبر في مكيدة يقضي بها على عمر عند أمير المؤمنين ولا يستطيع النجاة منها· وكان الخليفة هشام مولعاً بجياد الخيل، حريصاً على اقتنائها· فأعد سعيد مبلغا ضخما تكبد الصعاب في جمعه وبعث رجال له في أماكن متفرقة ليشتروا أروع أنواع الجياد، ففعلوا· فاتفق مع غلمان له أنه عند خروج هشام بموكبه يطلقون الجياد لتعارض الموكب، فإذا سأل عن صاحب هذه الجياد قالوا إنه عمر بن هبيرة· وبالفعل، فإنه عندما خرج هشام بموكبه أطلق الغلمان تلك الجياد فتعرضت للموكب بعددها الضخم ومنظرها الجميل حتى اضطرب سير الموكب ولاحظ هشام ذلك فغضب غضباً شديداً، رغم إعجابه بتلك الجياد وقد هاله ان تكون هذه الجياد لغيره ونادى الغلمان وسأل جياد من هذه التي تعرضت لموكبنا؟ فقالوا بلسان واحد انها جياد عمر بن هبيرة· فقال: عجبا! من أين له بالأموال التي حصل بها على هذه الجياد؟ اختان من أموالنا ما اختان، ثم أقبل علينا فوالله ما رضيت عنه بعد، ثم هو يباريني بالخيل؟ ويتجرأ على ان يجعلها تعترض موكبي؟ وأمر بإحضاره فورا، وكان عمر يسير في المؤخرة كما رسم له الخليفة فأحضروه عنوة لا يدري ما الأمر، وأقبل مسرعاً فوجد الخليفة يكاد يتميز غضباً فسلم فلم يرد عليه هشام بل قال له في غضب واضح: ما هذه الخيل يا عمر؟ فأدرك عمر في الحال أنه وقع فريسة مؤامرة ضده وان هشاما قد اقتنع بها فلن يفلح فيها الإنكار· فقال في الحال إنها لي يا أمير المؤمنين· قال هشام أو تعترف أيضاً؟ قال: يا أمير المؤمنين·· إني أعلم إعجاب أمير المؤمنين بجياد الخيل، وحبه لها فدفعني حبي لأمير المؤمنين ان أبذل كل ما أملك وان أذهب الى كل الأماكن الشهيرة بجياد الخيل حتى جمعت أجملها·· هدية متواضعة لأمير المؤمنين، ورأيت ان أعارض بها موكبه ليتمكن من رؤية حسنها وجمالها·· ولي كبير الأمل ألا يرد أمير المؤمنين هدية أحد خدمه، وان يتفضل بأمر خدمه أن يأخذوا هذه الخيل· فإذا غضب هشام يتبدل سرورا، ووطدت الحادثة مكانة عمر لدى هشام، وخسر سعيد تدبيره وخيله ماله!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©