الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لكل مقام طعام

لكل مقام طعام
30 يوليو 2010 21:31
في المرات القليلة التي كنت فيها مسؤولاً رفيعاً أجلس في مقاعد الدرجة الأولى من الطائرة، نزلت منها ويداي ترتجفان من الجوع، فأنا لم أضع شيئاً في فمي طوال الرحلة. ولم يكن السبب طول الرحلة أو نوعية الطعام، وإنما المقام. فالمعروف عن المسؤولين الرفيعين أنهم فوق الشبهات الطعامية، ويجب أن أكون كذلك وعند حسن ظنّ الناس بالمسؤولين. فالذي يجلس في الدرجة الأولى ثم يقضي على ما يقدّم له، يعني أنه ليس مسؤولاً ولا رفيعاً، وإنما متسوّلاً سميناً حشر نفسه مع نجوم المجتمع. ومرات قليلة كنت أجلس مع علية القوم في مقاعد درجة رجال الأعمال. ورغم أنني أكلت نصف ما وُضع أمامي، إلا أنني دخلت مطار الوصول وأنا أبحث عن النصف الآخر لمعدتي. وأكثر المرات كنت مع مئات الكادحين في درجة التوفير الاقتصادي، ونزلت متورّماً من الأكل. فالمتوقّع من أصحاب درجة الكادحين الاقتصادية أن يُعيدوا الصواني نظيفة وتلمع من أثر اللحس. لا يقتصر الأمر على مراعاة المقام الأعلى، فحتى على الأرض هناك سلوكٌ محدد لكل مقام، فإذا كنت بمفردي في البيت، فإنني آكل مثل الأغنام السائبة، بفم مفتوح يتقّلب فيه الطعام كما تتقلّب الملابس في الغسّالة، ولا بد من إصدار الكثير من الأصوات لأتذوق الطعم جيداً. أما إذا كان هناك من يزاحمني على المائدة، فإن الأصوات تختفي، والفم يصبح مطْبقاً، لكن مع الاستمرار في الأكل بطريقة تثير أعصاب جلسائي خصوصاً إذا كانوا يتبعون الحِمية. أما في المطاعم، فإنني أفضّل أخذ طعامي معي، ولأنني أستحي أن أطلب أكثر من الحد البشري المعقول والمقبول، برغم أن وجه صاحب المطعم يتهلل إذا وجد الزبون أكولاً لا يشبع، لكنني لا أحب أن يتهلل وجهه على حساب وجهي. وكثيراً ما توقفت أمام المطعم وطلبت أربعة سندويتشات مع علبتي كولا بقصد تضليل النادل، فإذا طلبت السندويتشات مع علبة واحدة فإنه سيعرف أنني الذي سيأكلها، لكن بإضافة علبة كولا ثانية سيعتقد أن لي شريك في السندويتشات الأربعة. وأشعر بالعار عند دخول المطاعم التي تعتمد نظام الأكل حتى الشبع بسعر ثابت محدد أو مطاعم البوفيه، لأنهم يمقتون الزبون النهم، لأنه وقت الأكل يأكل بأربعة أفواه، ووقت الدفع يدفع من محفظة واحدة. لذلك لا أفضّل هذه المطاعم وإن دخلتها حافظت على اتزاني وخرجت منها ببطن لم يكتمل نصاب التخمة فيه. استطعت التحكّم في أعصاب معدتي من خلال وضع الشيء في موضعه، واختيار طريقة الأكل بحسب المقام. وأعرف أن الطريق الذي أسلكه خاطئ، فلا ينبغي للمرء أن يظهر على مائدة بوجه وعلى مائدة أخرى بوجه آخر، يتوحش إن خلا بنفسه ويتصنّع اللباقة والنُبل حين يجتمع بالآخرين. وفي «إحياء علوم الدين» للإمام أبوحامد الغزالي فصل عن آداب الطعام، ومن جملة ما قاله الغزالي: أن لا ينقص من عادته شيئاً عند الوحدة ولكن يعود نفسه حسن الأدب في الوحدة حتى لا يحتاج إلى التصنّع عند الاجتماع. لكن إذا قعدت أتتبع ما قاله الأقدمين فإنني لن أنتهي وستتحول حياتي إلى ينبغي ولا ينبغي. ومن الأفضل أن أترك هذا الموضوع ليحكم عليه التاريخ. Ahmedamiri74@yahoo.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©