السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ميشيل سير.. التاريخ يبدأ من العدم

ميشيل سير.. التاريخ يبدأ من العدم
21 يونيو 2018 21:29
أحمد عثمان (باريس) في كتابه الأخير، المبتكر والشخصي «داروين، بونابرت والسامري/ فلسفة التاريخ» الصادر عن مطبوعات (بومييه)، يبيّن ميشيل سير رؤيته للتاريخ. عندما نقرأ الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير، المقيم في الولايات المتحدة الأميركية، نشعر بأننا نسمعه، وأيضاً عندما نقلب صفحات كتابه الأخير نشعر بأننا نسمع أنفاس راو كبير. صوته يهدهدنا، وهذه المرة، مع كتابه الجديد، يجذبنا إلى داخل تاريخ يبدأ مع العدم اللانهائي لكي يقودنا تدريجياً، وفي هدوء وثقة، إلى وضعنا الحالي. حينما ينكب سير على دراسة التاريخ السياسي، يكتب سرداً طويلاً يسائل مكانة الإنسانية في العالم. ميشيل سير، ذلك الذي يرى نفسه «كمفتاح عمومي»، لم يقترب يوماً ما من التاريخ السياسي. هو الضبط معاصر لميشيل فوكو، جاك ديريدا وبيير بورديو، يهتم على وجه العموم بالبيولوجيا الجزيئية لجاك مونو مثلما ينشغل بالمادية التاريخية، وما بعد الحداثة أو البنيوية. وبالتالي، من دون أدنى مكر، رغماً عن عمره وعصره، قدم الفيلسوف النشط للغاية أخيراً مساهمته في «فلسفة التاريخ» التي تقترب من النظرة الهيغلية للتاريخ أكثر من «نهاية السرديات الكبرى» التي شخصها رفاقه الما بعد حداثيين، ومنذ ما يقرب الأربعين عاماً الأخيرة. وفي هذا الشأن، رسم تعددية المناظر وأبعدنا عن السلّم الزمني. من المهم، كما يذكر، القول إن «التاريخ يبدأ مع اختراع الكتابة»، وبذلك يستطيع الناس إقامة علاقة مع ماضيهم. ولكن سير يعترض على اعتبار أننا إذا نظرنا إلى الكتابة كآثار مشفرة، فإن الجزيئات، النباتات، الحيوانات، الصخور، المناخ، البحر، الكوكب، النجوم والمجرات في حاجة أيضاً لفك شفراتها. وبالتالي، إذا كان التاريخ يبدأ بالكتابة، فإنه بالأحرى يبدأ بالانفجار العظيم. ما هي فلسفة التاريخ، على حد تأكيده، تلك التي لا تأخذ في الحسبان معرفة ما نمتلكه من هذا الماضي العظيم للكون والحياة (أي التاريخ الكبير)؟ تاريخ ميشيل سير مبني على ثلاثة عصور تجيب على ثلاثة أسئلة تقليدية تتناولها الفلسفة: من أين قدمنا؟ من نحن؟ إلى أين نمضي؟ في كل عصر من هذه العصور الثلاثة تقوم الثنائيات الشهيرة بدور مهم: الحياة/ الموت، السلام/ الحرب، الطاقة/ القصور الحراري، الناعم/ القاسي. يرى سير أن العصر الأول يسيطر عليه داروين، من خلال «نظرية التطور» التي ينظر إليها كقانون للتاريخ الساعي إلى بناء «العوامل النوعية الخاصة بنا». العصر الثاني، وهو «عصر التاريخ المحلي»، المختزل إلى النوع البشري وقوته في «التدمير الذاتي»، وحيث أبطاله (من جنكيز خان إلى هتلر) هم من قتلة الجماهير الغفيرة. هذا العصر يسيطر عليه نابليون بونابرت كشخصية سياسية لغزوية كما هي شخصية تمثل قوة منح الموت. كراهية الحرب، التي يغترفها ميشيل سير من تجربته الحياتية (وهو المولود في عام 1930)، نقطة مركزية في فكره، ولا يمكنه الحديث عنها من دون هوى وشغف: «لدي روح صقلتها الحياة والسلام». بالتأكيد، هذه الروح، روح فيلسوف، لم تستطع في واقع الأمر الابتعاد عن هذا التاريخ. أخيراً، يبدأ العصر الثالث بعد قنبلة هيروشيما. ونحن في هذا العصر الجديد. التاريخ، الدرامي على الصعيد العالمي، يصبح كونياً كما في زمن الحكاية الكبرى: طول الحياة يبين أيضاً هشاشتها، وبالتالي، قدم الزمن، لكي يكشف الهم «الناعم» للكوكب، وبالتالي الإنسانية. في هذا العصر، من اللازم توفير أبطال آخرين، ومن بينهم السامري الطيب الذي تكلم انجيل لوقا عنه، الطبيب الذي يعالج المرضى، الدبلوماسي الذي يفاوض، «الأصبع الصغير» ـ ذلك الذي يتعامل مع الأجهزة الرقمية ـ الشهير الذي يحقق ديمقراطية المعرفة. يجد قارئ ميشيل سير المألوف كثيراً من الرؤى التي تحقق القوة والجاذبية لفكره. وإذا قلنا إن كل كتاب لميشيل سير لا يكف للحظة واحدة عن الانشغال بالحياة وأسئلتها الشهيرة: من أين قدمنا؟ من نحن؟ إلى أين نمضي؟، فبالتالي، نجدها جميعاً وبلا استثناء تنشغل بالتاريخ وأسئلته المحيرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©