الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البراءة من الأيديولوجيا

البراءة من الأيديولوجيا
28 سبتمبر 2016 19:29
حنا عبود نحت للفنان الإيطالي لورنزو كوين (أرشيفية) لأسباب كثيرة، وكثيرة جداً صرنا نحن العرب، بعد العصور الوسطى، نستورد ما كنا نصدره، فننتظر البضاعة حتى تصل، ثم نجري الجدال حولها كأنها من منتوجنا، وعندما وصلتنا البضاعة الجديدة المسماة «رواية ما بعد الحداثة» رحنا نناقشها كأننا نحن الذين صغنا هذا المصطلح، وكأننا نحن من يفعل في الحداثة ويحدد زمنها حتى يحق له أن يحدد رواية ما بعد الحداثة. وأمام هذه المصطلحات نصاب بالحيرة والقلق، وقد نحمل عليها ما ليس منها، وقد نخلط بينها وبين غيرها، فقذائف المصطلحات في النقد والأدب أشبه بالمطر في جحيم دانتي. على أن الحيرة قد تصل إلى المختصين أنفسهم، فمن من النقاد اليوم يميز، بالدقة النقدية، بين الحداثة وما بعد الحداثة، وما بعد - بعد الحداثة، و(الحداثة البديلة altermodernism)، وسوى ذلك من المصطلحات الآخذة بالتراكم، وليس من نتيجة سوى الإرباك؟ الرواية في الستينيات كما خضعت الألوان الأدبية الأخرى لمفعول هذه المصطلحات، كذلك الرواية، فالروائي الذي يسمع بمصطلح أدبي يخص فن الرواية، يراجع نفسه، مثل الشاعر والرسام والنحات... ويطرح على نفسه الأسئلة المحيّرة والمربكة: هل ينطبق المصطلح على إنتاجي؟ وما الحدود التي يقف المصطلح عندها؟ وكيف نجد في السرد ما يعادل المفاهيم التي جاء بها المصطلح؟ ويكون روائياً مجيداً، فإذا جرفه جدال المصطلحات لم يعرف ماذا يفعل. في ستينيات القرن العشرين وصلت الرواية إلى مرحلة تشبه الحالة السديمية لنشوء الكون في النظرية الكانطية، فكل أنواعها ظهرت ظهوراً جلياً إذا أخذت على حدة، وظهوراً محيّراً إذا وضعت في الكتلة السديمية، فهناك العبثية والرومانسية والكلاسيكية والوجودية (تعتبر الستينيات فترتها الذهبية، على الرغم من معركتها المشهورة مع البنيوية) والرواية الحربية التي قدمها الرفاق السوفييت عن الحرب العالمية الثانية، والتي تشبه الكاوبوي الغربي... في تلك الفترة بدأت القصة الجديدة تظهر، وبدأت النظرية النسوية تعطي مفعولها فظهرت تيارات نسائية، كما أن تطوّر وسائل الإعلام جعل القصة تعرف أو تتعرف أو تبتكر الكثير من الألوان الفنية، وكان للفرويدية دور كبير جداً لفت أنظار المثقفين، كما أن روايات التيار اليساري الأوروبي أخذت تظهر بأشكال فنية جديدة وجيدة، بعيداً عن الأداء المباشر الذي كان يميز الرواية الماركسية. هذه الفترة هي فترة الانتقال إلى «ما بعد» التي ظهرت بكثرة مفرطة. اكتُب ما بعد ثم ضع أي مذهب بعدها وابحث عنه في الفترة التي أعقبت الستينيات تجده، من الناحية النظرية، مكتملاً أو شبه مكتمل... ما بعد الماركسية وما بعد الوجودية وما بعد البنيوية وما بعد النسائية وما بعد الفرويدية... الخ. كانت مرحلةَ بحث عن اتجاه. ولما فشلوا في تحديد الاتجاهات استخدموا كلمة «ما بعد» ومنها «ما بعد الحداثة» ولم نعد نسمع باسم محدد كما كنا نسمع في عصر الحداثة الممتد من الربع الأخير من القرن التاسع عشر حتى أواسط القرن العشرين. شيء من التاريخ ليس هناك مسرد دقيق حتى يتبين المرء الخيوط الأولى لفجر رواية ما بعد الحداثة. أما المكان فأوروبا طبعاً، أما الزمان فنعتقد أنه أواسط القرن العشرين، ففي قلب ذروة الحداثة في الستينيات، وربما في منتصفها بدأت طلائع المرحلة التي سيسميها النقاد ما بعد الحداثة. هناك روايات لا بد أن نعترف أن عنصر ما بعد الحداثة قائم فيها كرواية «أموات» ورواية «الرجل النرد»، بل نضيف أن رواية «مئة عام من العزلة» تقرب من رواية ما بعد الحداثة، وإن كانت من العالم الثالث، حيث تتسرب الهموم القومية والاجتماعية والوطنية... بآلاف الأشكال إلى المسرود على الرغم من السارد وإن احتاط كثيراً، وبذلك تفترق عن هذا النوع الجديد من الرواية. لكن هذه الروايات تعتبر البدايات الأولى غير المكتملة - بحسب النظرية - أو التي ظلت متأثرة بكثير من التقاليد السابقة، فهي أقرب إلى العبثية، فأنفاس كامو وسارتر ظاهرة فيها، وهي ظاهرة متميزة في هذا الفن، سيبقى ملازماً لبعض روائيي ما بعد الحداثة، أو معظمهم، ولكنه عبث من نوع آخر غير الذي كنا نعرفه. إنه عبث خارج من عمق القوانين الصارمة، وليس عبثاً بمعنى أنه كله يعتمد على المصادفة، والرواية التي أبدعت في ربط العبثية بالقوانين الطبيعية الصارمة هي «العطر» لباتريك زوسكند، التي نالت شهرة فائقة، ولكنها لم تظهر في منتصف القرن كالروايات التي أشرنا إليها، بل تأخرت حتى عام 1985، وهناك انتقلت غزارة إنتاج رواية ما بعد الحداثة إلى الروائي المنتج الكبير دان براون الذي انطلق من «القلعة الرقمية»، وأدهش العالم برواية الشيفرة التي لا يزال النقاد والدارسون يهتمون بها حتى اليوم مع أنها صدرت 1998 إلا أنها حددت الكثير من معالم الرواية في القرن الجديد، وكثير من خصائص هذا الفن الجديد يظهر في النشاط الروائي للعالم الثالث، إلا أن هذا العالم تتلبسه هموم قاتلة كالدكتاتورية والهم الاجتماعي والقومي والإنساني والوطني... هموم مطبقة من كل الجهات، لا تستأذن الروائي في الدخول إلى الرواية، لأن الروائي نفسه لا يستطيع أن يستنبت في هذه التربة ما ظهر في أوروبا وأميركا الشمالية، وحتى لو نظرنا في أي رواية، كرواية «مئة عام من العزلة» التي ظهرت في 1967 لوجدنا أنها تحقق الكثير من رواية ما بعد الحداثة إلا أنها مشغولة بتلك الهموم التي أشرنا إليها، والتي لا وجود لها في رواية ما بعد الحداثة، و«القوقعة» و«جرماتي»، وكثير من الروايات في العالم الثالث فيها ما فيها من وجوه رواية ما بعد الحداثة، إلا أنها لا تزال ضمن الهموم التي أشرنا إليها، لكن المسألة هنا ليست على النحو الذي وضعه هيبوليت تين عن البيئة وتأثيرها، بل المسألة هي مسألة انتماء، مسألة موقف... إنها مسألة إرادية صرف، قد نتفلسف ونقول إنها الإرادة النابعة من مكامن خفيّة، لكن هذا لا يكفي لأنه شرعاً لا يجوز الاحتجاج بالخفي، فهو استنجاد بالمجهول بدلاً من الاعتماد على المعلوم. إن سلمان رشدي وأمين المعلوف وإدوارد سعيد وشعراء المهجرَيْن الشمالي والجنوبي، عاشوا في الغرب، بل نختصر ونقول إنهم عاشوا الغرب كله، ولكن مواد أدبهم ونظرتهم ظلت من العالم الذي جاؤوا منه مهما أوغل بعضهم في أعماق ما بعد الحداثة... تماماً كما أن المستشرقين، أو معظمهم عاش في العالم العربي واهتم بالأدب العربي، بل بعضهم عشق الأدب العربي، ولكن حتى لو كانوا غير مستشرقين كرولان بارت ولويس أراغون... فإن إعجابهم بالأدب العربي نادر، وبعضهم كان يعتبره أدباً حقيقياً، لأنه ابتعد عن الفلسفة... الخ، لكن عندما يكتبون فإن أسلوبهم غربي وموقفهم غربي... إنها مسألة تحتاج إلى وقفة طويلة جداً من المثقفين، لأن هذا الزمن يضع مسألة الانتماء على المحك... أما «الرواية الجديدة» التي ظهرت في فرنسا، وبخاصة على يد ألان روب غرييه، فلم تعمّر طويلاً، فهي لم تستطع التخلص أو التقليل أو الحدّ من الانكباب على الأشياء والتشيؤ بغرض الدخول إلى نتيجتين أساسيتين عندها وهما عبثية الحياة وخلود المادة، أو هشاشة الحياة وصلابة المادة، أو دورة الحياة القصيرة والعابرة والمادة «الهيراكليتية» الخالدة. ملاحظات سريعة لنحدد الآن بعض معالم رواية ما بعد الحداثة، التي نجد معالمها أيضاً لدى الروائيين العرب، لولا هموم الدكتاتورية التي تلف هذا العالم بغيوم سوداء كثيفة تكاد تكون سخام معامل تلفت مسنناتها فكثر دخانها: * رواية ما بعد الحداثة تبتعد عن الأيديولوجية المباشرة، ولا نقصد بالأيديولوجية الشيوعية والفوضوية أو الأيديولوجية القومية... بل أيضاً الأيديولوجية الأدبية، أي لن تجد من ينتمي إلى هذا المذهب الأدبي أو ذاك. إن الرواية هنا تأخذ مداها من مادتها وليس من مذهبها. * أهم ما في رواية ما بعد الحداثة إسقاط الموقف الرومانسي، حتى لا يكون للبعد العاطفي تأثير كبير في توجيه الحدث الرئيسي، أو حتى الأحداث المتفرعة. * رواية ما بعد الحداثة تسقط أي فاصل بين الخفيّ والمعلن، بين المثالي والمادي، بين الخيالي والواقعي، بين الفكري والعملي، بين العقلي والغريزي، بين الصناعي والطبيعي... إلى آخر ما هنالك من مطابقة في الحياة والفكر والمجتمع. وربما كانت رواية «العطر» أوضح مثال لهدم الجدار الفاصل، وإن كانت الرواية تميل إلى الانطلاق من المادة الواقعية الملموسة لتبني عليها كل الواقع وكل المعتقدات وكل الكون. إن هذه الرواية تذكرنا بأمبيدوقليس الذي جمع العناصر الأربعة من نار وهواء وتراب وماء، ليجعل منها كل شيء، مادياً كان أو معنوياً... وقد التقط هذه الناحية الفيلسوف غاستون باشلار فربط بين النار والإنتاج الأدبي، وكذلك التراب والهواء والماء، مظهراً الاتجاه الجديد الذي لا يقتنع أنه ليس هناك رابطة بين الذرة المادية والأحلام التي تتراءى لنا... وهل أدبنا سوى أحلام مسجلة؟ * يقال إن رواية ما بعد الحداثة هي «إدغار ألن بو» مضاعفاً، وبذلك يصبح هذا الشاعر مصدر الحداثة وما بعد الحداثة، كما كان مصدر الرومانسية والرمزية والسيريالية... إنها رواية الأسرار المضخمة، التي تهرع إلى الحركات التي أهملها التاريخ، أي جعلها سرّاً يستحق التنقيب مثل شيفرة دافنشي. وقد حاول أمين معلوف سلوك هذا المنحى (حدائق النور- سمرقند...) مقتدياً بقول إدغار ألن بو «سمرقند ملكة الدنيا، مزهوّة على كل المدن، وفي يديها مصائرهن». كذلك فعل جلبرت سينييه في «ابن سينا»... وغيرهما. * في السنوات الأخيرة، وعلى أثر مؤتمرات التلوث المتتالية ظهر ما يسمى بالمسألة الكونية، وقد عمد دان براون إلى طرح هذه المسألة وجعل المسؤولية على الإنسان، بوجوده وسلوكه ومؤسساته وتخطيطه ووعيه، فأصدر الإنفرنو في عام 2013 معتمداً على المعطى الأساسي الذي قدمه دانتي في جحيمه. وإذا كان لنا أن نرشح رواية تمثل هذا الاتجاه الـ«ما بعد الحداثة» لقلنا إنها رواية العطر، إنها رواية أمبيدوقليسية بامتياز (العطر مؤلف من ذرات مادية، لكنه يحدث حالات من النشوة والانبعاث الروحي و.. و.. و...). إنها مهارة استثنائية. صحيح أنها مرتكزة على عنصر واحد هو العطر، ولكن العطار هو الذي يحدد الهدف منه، وطريقة استغلاله. والقضاء على العطار يعيدنا إلى مشهد القضاء على رومولوس، فكأن هناك طريقة واحدة للخلاص من الطاغوت، هي التي انتهى فيها العطار. وكلما غاص في دقائق الواقع أكثر، ازدادت التأويلات وكثرت المجازات والمشابهات، من العصور الأولى حتى اليوم. إن الأنماط الأولى في هذه الرواية بارزة بحيث تشكل راحة للقارئ ومتعة للمتأمل، وأطروحة للدارس... ومع ذلك أبقى المؤلف سرّ الوجود قائماً، بل جعله بحاجة إلى المزيد من المعالجة. لكن هل بقي فن من الفنون لم يتفرَّع ولم يتطوَّر ولم يخالف المنطلقات الأساسية التي كانت سبب ظهوره؟ أين صارت الكلاسيكية الجديدة، أو الرومانتيكية، أو الرمزية أو السريالية...؟ إن نظرية هربرت سبنسر في تطوُّر الفنون صحيحة، وقد أخذت ما بعد الحداثة، بعد فترة قصيرة، تبدي التململ وتظهر محاولات ومغامرات جديدة وطريفة، إلى أن تلقى مصير المذاهب الخوالي. عبثية وتشيؤ «الرواية الجديدة» التي ظهرت في فرنسا على يد ألان روب غرييه لم تعمّر طويلاً، فهي لم تستطع التخلص أو التقليل أو الحدّ من الانكباب على الأشياء والتشيؤ بغرض الدخول إلى نتيجتين أساسيتين وهما: عبثية الحياة وخلود المادة، أو هشاشة الحياة وصلابة المادة، أو دورة الحياة القصيرة والعابرة والمادة «الهيراكليتية» الخالدة. تربة غير روائية كثير من خصائص هذا الفن الجديد يظهر في النشاط الروائي للعالم الثالث إلا أن هذا العالم تتلبسه هموم قاتلة كالديكتاتورية والهم الاجتماعي والقومي والإنساني والوطني... هموم مطبقة من كل الجهات، لا تستأذن الروائي في الدخول إلى الرواية، لأن الروائي نفسه لا يستطيع أن يستنبت في هذه التربة ما ظهر في أوروبا وأميركا الشمالية. جرير وهوميروس ترى لو درس هوميروس قواعد النظم وقواعد القوافي والإيقاع، وأصول التصوّر الأدبي، وأنواع الصور الأدبية، وغاص في طين مصطلحاتنا... إلخ هل كان يقدم ما قدّم؟ وهل يتحفنا جرير- وهو أمّي من حيث القراءة والكتابة - بروائعه لو تعلم الشعر على الطريقة «الحديثة» والتي أنتجت من فراخ الشعراء المئات، ولكن شاعراً من مستوى جرير أو المتنبي أو الشريف الرضي أو المعري لم يظهر من مصانع «الحداثة» لا عندنا ولا عند غيرنا. لا مكان للرومانسية سمات رواية ما بعد الحداثة 1- تبتعد عن الأيديولوجية المباشرة. 2- إسقاط الموقف الرومانسي. 3- تسقط أي فاصل بين الخفيّ والمعلن، بين المثالي والمادي، بين الخيالي والواقعي إلى آخر ما هناك من مطابقة في الحياة والفكر والمجتمع. 4- رواية ما بعد الحداثة هي «إدغار ألن بو» مضاعفاً، وبذلك يصبح هذا الشاعر مصدر الحداثة وما بعد الحداثة، كما كان مصدر الرومانسية والرمزية والسيريالية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©