السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قصر الجعفرية·· من عرش الحكم الأندلسي إلى مقر لمحاكم التفتيش

قصر الجعفرية·· من عرش الحكم الأندلسي إلى مقر لمحاكم التفتيش
18 نوفمبر 2008 01:14
يعد أكثر أماكن الأندلس إفصاحاً عن التاريخ الأندلسي، ارتفاعاً وانخفاضاً، وانتقالاً من النقيض إلى النقيض·· إنه قصر الجعفرية في سرقسطة، ذلك القصر الذي لا يدانيه، في التعبير عن التبدلات، سوى المدينة نفسها، فقد عرفت قبل دخول المسلمين للأندلس باسم مشيدها ''القيصر أغسطس'' وعرفها المسلمون باسم ''سرقسطة''، واليوم هي ''سراجوزا''، إحدى أهم مدن الشمال الشرقي لإسبانيا· وقد شيد القصر أبوجعفر أحمد بن سليمان بن هود، الملقب بالمقتدر، أحد ملوك الطوائف، وحكم هذا الملك ثغر سرقسطة القريب من مناطق الإسبان خمسة وثلاثين عاماً فيما بين 438 و474هـ ''1046-1081م''، وكان من أعظم ملوك الطوائف، فضلاً عن براعته في العلوم الفلسفية والرياضية· وكان قصر الجعفرية جزءاً من قصبة سرقسطة، أي حصنها المنيع الذي يقيم فيه الحكام والجند، واعتبر من أعظم وأضخم القصور الملكية في العصور الوسطى، واشتهر في تاريخ الفن الاسلامي باسم ''دار السرور''، وكان أروع ما فيه بهوه الذي زينت جدرانه بالنقوش الذهبية، وكان يسمى البهو الذهبي أو مجلس الذهب· ومن أجزاء القصر الإسلامية التي استعصت على التبديل، بعض الأماكن الداخلية التي تعرب عن طرازها الشرقي وأيضاً بقايا المسجد الخاص بالمقتدر وحاشيته، وهي عبارة عن قاعة صغيرة بها عقدان عربيان وشريط به نقوش كوفية· وقد أحرق المكان من الداخل ولم يبق منه إلا زخارف العقود ويقال إن الفرنسيين هم الذين أحرقوه أيام غزو نابليون لأراضي الشمال الإسباني· وقصر الجعفرية، الذي كان عند تشييده من رموز السيادة الاسلامية على الأندلس، شاءت محاكم التفتيش أن تتخذه مقراً لديوان التحقيق الأراجوني في عام 1485م· والمعروف أن هذه المحاكم كانت معنية بامتحان أهل الأندلس من المدجنين الذين قبلوا التنصر نظير الإقامة في أوطانهم، وشمل نشاط هذا الديوان المعروف بعسفه وقسوته كل المسلمين واليهود الذين أعلنوا تنصرهم فيما كانت الكنيسة الكاثوليكية تتشكك في صحة اعتقادهم، ولذا كانت تلجأ الى امتحان عقيدتهم واستخدموا القسوة والتعذيب من أجل تغيير معتقداتهم إذا خالفت أفكار الكنيسة الكاثوليكية· وقد أعدم ديوان التحقيق أو محاكم التفتيش عدة آلاف من الذين شك رجال الدين في صحة عقيدتهم حرقاً في الميادين العامة إضافة الى إحراق عشرات الآلاف من الكتب التي احتوت أفكار العرب والمسلمين وفلاسفة اليونان التي تتعارض مع الايمان الكاثوليكي· واحتفظ قصر الجعفرية من حقبة محاكم التفتيش بتذكارات تماماً مثلما فعل مع كل العصور التي عاين أحداثها وشهد وقائعها· ففي الجانب الأيمن من القصر يوجد برج منيع بداخله سلم حجري عريض وحجرات شيدت من الحجر الصلد· وكانت هذه الحجرات الضيقة الموحشة تستعمل سجناً للخاضعين لتحقيقات ديوان التحقيق الأراجوني· وكانت حفلات ''الأوتودا فيه'' تقام في الفناء الخارجي ومنه يخرج المحكوم عليهم بالإدانة الى الميدان حيث ينفذ فيهم حكم الإعدام وسط صيحات العامة ورجال الدين· نهاية المحاسن والبدائع في أواخر القرن الثامن عشر تم تحويل قصر الجعفرية الى ثكنة عسكرية وهُدمت أسواره الإسلامية القديمة وأزيل أيضاً مصلى كنسي صغير أمر بتشيده بيدرو الرابع· ومن وقتها قضي بصفة نهائية على المحاسن والبدائع العربية لقصر الجعفرية، وتحول الى مجرد حصن ضخم مهيب يثير الرهبة في نفوس زواره، ولولا البقية الباقية من عقوده وزخارفه العربية الداخلية ما استحق الجعفرية أن يذكر في قائمة الآثار الجديرة بالزيارة في سرقسطة· وقد انتقد العالم الإسباني مورينو هذا العدوان على الطابع الفني معتبراً ما أقدم عليه الإسبان ''عملاً بربرياً من أشد ما وقع في تاريخنا خزياً''· وأخذ فريق من المفكرين الإسبان أو بالأحرى من علماء الآثار والآداب الإسبان منذ منتصف القرن العشرين في التخلص من آثار حروب الاسترداد النصرانية وما أعقبها من مذابح محاكم التفتيش، واعتبروا أن الآثار الاندلسية جزء من التراث القومي للشعب الإسباني الجدير بالحفاظ عليه ودراسته بصورة علمية، وبفضل هذه النظرة الحضارية الجديدة تم نقل بعض قطع من العقود والزخارف العربية البديعة وعدد من تيجان الأعمدة التي كانت في البهو الذهبي، الى متحف مدريد الوطني حيث تعرض اليوم لزوار المتحف ومن أكبرها عقد مفصص يرتكز على عامودين صغيرين من الرخام الأبيض· رسالة عالم إسباني بلغت حماسة بعض العلماء الإسبان لقصر الجعفرية حداً قام معه إنيجيث ألمش بوضع رسالة عنوانها ''هكذا كان قصر الجعفرية'' جمع فيها عدة تخطيطات ورسوم تاريخية حول قصر الجعفرية وأجنحته في عصور متعاقبة، كما ضمنها أيضاً صوراً لبعض عقوده وزخارفه التي نقلت لتعرض في متحف مدريد الوطني، وزود عمله الرائع بعدة رسوم متخيلة كالبهو الذهبي والمحراب والواجهة· صرح ملكي وحفلات باذخة ترك فرديناند وايزابيلا بصماتهما على قصر الجعفرية، وكأنهما يطاردان كل أثر لمسلمي الأندلس بعد انتهاء الحرب باحتلال غرناطة، ففضلاً عن شعارهما الذي يشير لوحدة إسبانيا، هناك ايضاً في القصر لوحة تذكارية بمولد إيزابيلا ملكة البرتغال في سنة 1272م· وكانت كل هذه الأبهة والقاعات الملكية تؤلف المسكن الملكي، ويدل على ذلك فخامته وسقوفه المذهبة، حتى أن ملوك أراجون وملكاتها كانوا يتوجون في هذا الصرح الملكي في حفلات باذخة· دار السرور ثكنة عسكرية لم يقيض لقصر الجعفرية أو دار السرور، كما كان يطلق عليه، أن يبقى طويلاً في كنف الحكم الإسلامي، إذ سقطت سرقسطة عام 512هـ ''1118م'' في يد ألفونسو الأول ملك أراجون، وأضاف ملوك الأسبان مباني من طرز مختلفة شيدت كلها على أجزاء من قصبة سرقسطة وقصر الجعفرية، حتى ليبدو اليوم خليطاً معمارياً يكشف عن حقب تاريخية متعاقبة أقدمها الصرح الإسلامي وأحدثها يعود الى عهد الجنرال فرانكو مروراً بملوك أراجون ثم الملكين فرديناند وايزابيلا· واذا كان الملوك الأسبان قد استخدموه مقراً ملكياً فإن الجيش الإسباني حول قصر الجعفرية الى ثكنة عسكرية ومخزناً للذخيرة، وفي ذلك اعتراف بمناعة الجعفرية وحصانته·
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©