الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العالم بين قوة السوق والإنسانية الغائبة

30 سبتمبر 2016 21:18
حسب الرواية العادية، فإن الحالمين والثوريين، هم الذين يحركون عجلة التاريخ في المجمل. أما أحداثه الكبرى فيحركها الثوريون، الذين يمضون في طريقهم غير آبهين بمحاولة الرجعين إيقاف تقدمهم، بل ولا يتورعون عن دهسهم بالأقدام. هذا في الرواية العادية، أما التاريخ في حقيقة الأمر، فهو عبارة عن تراشق بين الثوريين (الذين يتولون زمام الأمور في بعض الأوقات)، والرجعيين (الذين يتولونها في أوقات أخرى). واليوم، كما يشير أستاذ النظريات السياسية بجامعة كولومبيا «مارك ليللا» في كتابه الجديد الرائع: «العقل المحطم: عن رد الفعل السياسي»، فإن الرجعيين هم من يمسكون بالدفة. فالرجعيون، سواء كانوا «ترامبيين» بيضاً غاضبين، أو قوميين أوروبيين، أو إسلاميين رايكاليين، أو يساريين مناوئين، عادة ما يكونون مرتفعي الصوت، واثقين من أنفسهم، وفي حالة حركة دائمة. وعلى الرغم من أن الرجعيين، ينقسمون إلى تنويعات مختلفة، فإنهم يشتركون في طريقة تفكير واحدة، ترى أنه كان هناك ذات يوم عصر ذهبي، كان الناس فيه يدركون موضعهم من الحياة جيداً، ويعيشون في تناغم وانسجام. ولكن هذا العصر الذهبي، تعرض للخيانة من قبل النخب، ليهبط بعدها وعي متفسخ وزائف على الأرض، أدى إلى اختلاط الأمور. ولكن (هؤلاء الذين احتفظوا بذكريات من الأيام القديمة، كانوا يفهمون ما يحدث أمامهم).. كما يقول «ليللا». وفي مثل هذه الظروف، كان الرجعيون فقط، هم الذين يمتلكون الحكمة لإعادة الأمور إلى ماكانت عليه، و«جعل أميركا أمة عظيمة مرة أخرى». ولكن «الرجعيين» يمتلكون ذهنية تنزع إلى العنف، وتميل إلى تبني رؤى تشاؤمية عن نهاية العالم، ويتصفون بما يمكن وصفه ببساطة «عقلية الأزمة». وهم يعتقدون، أنهم هم الوحيدون الذين يفهمون طبيعة الأزمة القائمة، وأنهم هم فقط المؤهلون لعكس اتجاه الأحداث. من المفهوم أن العالم يعيش الآن في لحظة رجعية، لأن الفترات التي تلي الأزمات المالية، عادة ما تكون معقدة من الناحية السياسية، وتميل إلى إفراز أيديولوجيات، قبيحة، رجعية المظهر. وينطبق هذا أيضاً على الفترات، التي تأتي في أعقاب الهجرات الجماعية، حيث يكون هناك عادة نفور من التدفق المفاجئ لأشخاص جدد، فضلاً عن أن الحياة تصبح أسوأ في نظر أفراد الطبقات العاملة، الأقل تعليماً، مما كانت عليه في منتصف الستينيات من القرن الماضي على سبيل المثال. وليس من المستغرب والحال هكذا، أن مثل هؤلاء الناس هم الذين يشترون رواية ترامب عن الجنة الضائعة. المشكلة الأكثر خطورة هنا، هي التشاؤم المتغلغل، والمعزز لنفسه، الذي يغذي الدوافع الرجعية. من المعروف أن النظام العقدي الذي كان يغذي الإيمان بالتقدم، قد بات أقل تأثيراً. في البداية كان هناك ذلك النوع من التدين المعتدل، القائم على أن كل ما في هذا الكون هو من تدبير الرب، وأن كل الأشياء مصممة بطريقه تجعلها تتجه نحو الخير دوماً، وأن قوس التاريخ يميل في اتجاه العدالة. وبعد ذلك جاءت النزعة الإنسانية، وجوهرها أن الناس يتعلمون أكثر باستمرار، ويخترعون المزيد من الأشياء، وأن التاريخ في جوهره هو تراكم للأشياء الجيدة في نهاية المطاف. وعندما أفل التدين الإيجابي، والنزعة الإنسانية، تغلغلت الكآبة في عقل الأمة. ونتج عن ذلك أن الأسلوب المذعور، لمروجي نظرية المؤامرة، أصبح هو اللغة المشتركة المستخدمة في شبكة الإنترنت. وبات النقاش العام خاضعاً لسيطرة اعتقاد يتبناه الناس -على الرغم من تناقضه مع حقائق التاريخ- يصر، على أن هذا البلد ينزلق نحو الأفول. وكما يقول آرثر هيرمان في كتابه المعنون «فكرة الأفول في التاريخ الغربي» فإن: «نثر بذور اليأس، والشك في الذات، قد أصبح سلوكاً متغلغلاً، أصبحنا نقبله باعتباره موقفاً ثقافياً طبيعياً». وأفضل سلاح ضد الرجعيين، ليس هو التفاؤل الأعمى الذي سرعان ما يختفي كالفقاعة. وإنما هو -بصراحة تامة- ما يمكننا تسميته بـ«المحافظة المزاجية»، أي الاعتقاد بأنه، وبفضل الانتشار الواسع النطاق لحرية السوق، والتعددية الثقافية، فإن مجتمعنا يتحول بشكل تدريجي، وإن كان متعثراً نوعاً ما، إلى أن يصبح مجتمعاً أكثر ثراءً، وأكثر عدالة وأكثر إبداعاً. وكل ما يتطلبه الأمر منا هو موازنة الديناميكية التكنولوجيه، بالتماسك الثقافي. والمحافظون ينظرون بشغف للماضي، ليس كجنة يمكن العودة إليها، وإنما ككنز من الخبرة يمكن النهل منه. فالمحافظون يسعون إلى إحياء، واستعادة، وإعادة تركيب لهذا الماضي- لاستخدام هدايا الموتى لجعل الحاضر أكثر عمقاً، وعذوبة. والحقيقة أن الكثير من قفزات التاريخ الأكثر إلهاماً (عصر النهضة على سبيل المثال) تحققت من خلال المزج بين الحكمة الثقافية والروحية للماضي، مع التقدم التكنولوجي للحاضر. السوق العالمي التعددي هو قوة ثورية على الدوام، وإذا لم نقم بموازنة هذه القوة بثقافات مضادة روحية، وجماعية، وإنسانية النزعة من الماضي، فإن الناس، سيحاولون بأيديهم المجردة، رفضه بالكلية، ليخضعوا بذلك للتطرف الغاضب القائم على رد الفعل، وينزعون ثوب التقدم ويطرحونه بعيداً. وهذا الدافع، آخذ في التقدم باطراد في الوقت الراهن. *محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©