السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المناهج الغربية.. العولمة في إهاب إنساني

المناهج الغربية.. العولمة في إهاب إنساني
18 مايو 2011 19:55
يتضمّن هذا البحث تحليلاً لدلالة “النصّ” وفق المنهج التاريخي التطوّري (Diachronique). ويقدّم التحليل الدلالي فوائد جمّة للدارس. فالمصطلحات أصلاً مفردات لغوية ذوات أصول متواضع على دلالاتها، ثم جاء الاصطلاح فجعل لها دلالات جديدة. وحين تُعْرَضُ المصطلحات على قوانين التطوّر الدلالي تتكشّف للدارس طريقة تجريدها الاصطلاحي وسبلها ومصادرها. وغالباً ما يكون المصطلح تخصيصاً للدلالة أو نقلاً لها من مجال إلى آخر عن طريق المجاز. يأتي بحثنا “مفهوم النصّ في النقد الحديث من خلال بعض نماذجه “في هذا السياق ليقدّم تصوّراً لتطوّر مادة “نصَّ” ولا سيّما “النصّ” بوصفه مصطلحاً شائعاً لدى النقاد المعاصرين. وذلك من خلال ثلاث مراحل زمنية هي: أصل الدلالة في عصر الفصاحة الأول. تطوّر الدلالة في عصر الحضارة الإسلامية. تغيّر الدلالة في العصر الحديث تأثراً بالدلالات الأجنبية. دلالة “النصّ” في اللغة والاصطلاح. جرثومة المعنى تتقاسم دلالة “نصّ” في العربية في عصرها الأول بحسب القرائن اللغوية والثقافية معانٍ متعدّدة. لعلّ أقربها إلى المجال الحسي “الرّفع”. ويبدو أنّ هذا المكوِّن الدلالي موجود في معاني المادة كلِّها تقريباً. فمن الرفع: نصَّ العروسَ، أي أقعدها على المِنصّة لترى. والمنصة هي ما ترفع عليه كسريرها وكرسيّها. ومن هذا أيضاً: نصَّ ناقتَهُ أي استخرج أقصى ما عندها من السير، وهو كذلك من الرفع. فإنه إذا رفعها في السير فقد استقصى ما عندها منه (انظر: الزبيدي، تاج العروس، الجزء الثامن عشر، تحقيق عبدالكريم العزباوي، مادة (نصّ)، ص 178، وقارن بابن منظور، لسان العرب، مادة (نصّ)، ص98، والفيروزآبادي، القاموس المحيط، طبعة مؤسسة الرسالة 1986م، ص816). ولأنّ في هذا النصّ تحريكاً فقد ظهر معنى: نصَّ الشيءَ، أي حرّكه. ويبدو أن جمع “الرفع” و”الحركة” ولّد معنى: نصّ الشواءُ، أي صوّت على النار، ونصّت القِدْرُ، أي غلت. وفي كلّ ما تقدّم نجد “الرفع” الحسي هو جرثومة المعنى. ونجد في المحطة الثانية مجموعة من الدلالات المتطوّرة عبر المجاز، وكلُّها يرجع بالتأنّي والتلطّف إلى معنى “الرفع” الحسي الأول. من ذلك حديث علي بن أبي طالب: “إذا بلغ النساءُ نصَّ الحِقاق فالعَصَبة أولى”. أي بلغن الغاية التي عقلن فيها. ونصّ الحقاق - كما يقول الأزهري- : إنما هو الإدراك، وأصله منتهى الأشياء ومبلغ أقصاها. ومن ذلك أيضاً: نصَّ فلاناً، أي استقصى مسألته عن الشيء، أي أحفاه فيها ورفعه إلى حدِّ ما عنده من العلم، كما في “الأساس”( انظر: الزمخشري، أساس البلاغة، تحقيق عبدالرحيم محمود، دار المعرفة، بيروت 1982، ص459، وقارن بالتاج واللسان والقاموس). وفي التهذيب والصحاح: حتى استخرج كلَّ ما عنده. ويلحق بهذا المعنى: نصّص الرجلُ غريمه، وناصَّه، أي استقصى عليه وناقشه. ومثاله ما روي عن كعب أنه قال “يقول الجبّار: احذروني فإني لا أناصُّ عبداً إلا عذّبته”، أي لا أستقصي عليه في السؤال والحساب إلا عذّبته. ويتبيّن من الأمثلة السابقة أنّ معنى الرفع الحسي انتقل عبر المجاز إلى دلالات ذهنية كالإدراك والوصول إلى مبلغ العلم وأقصاه. ويبدو أنّ هذا التطوّر هو الذي مهّد لمجاز آخر -ربّما كان مرافقاً لنشأة العلوم الإسلامية- هو الإسناد والتعيين. وفي “التاج”: “ النصّ: الإسناد إلى الرئيس الأكبر. والنصّ: التوقيف، والنصَّ: التعيين على شيء ما، وكل ذلك مجاز، من النصّ بمعنى الرفع والظهور«( انظر: التاج، المادة نفسه، ص180، وقارن باللسان، الجزء نفسه، ص98). ثم يقول صاحب التاج: “قلتُ: ومنه أُخذ نصّ القرآن والحديث. وهو اللفظ الدالّ على معنى لا يحتمل غيره”(التاج، 180/ 18 مادة “نصَّ”). وهكذا يتّضح الخطّ الذي سارت عليه الدلالة اللغوية حتى وصلت إلى الدلالة الاصطلاحية. فالرفع الحسي قاد إلى الرفع الذهني مع ما لابسه من معاني التعيين والإظهار والتحديد وبلوغ أقصى العلم. وقاد هذا كلّه إلى”الإسناد” لأنه رفع وبلوغ للغاية، والتعيينِ والتوقيف لأنهما ثمرة بلوغ الغاية ومنتهاها. ومن هنا برزت دلالة “النصّ” الاصطلاحية لدى الفقهاء، وهي دلالة مولّدة نشأت بسبب ظهور العلوم الإسلامية. ويبدو أنّ هذا المصطلح تطوّر داخلياً- أي ضمن دائرة الاصطلاح لا اللغة- فغدا دالاًّ على ما لا يحتمل تعدّد الصور أو النقل بالمعنى، أو أيّ ترخّص في الصيغة الأصلية. فالنصّ -كما يقول الكفوي- معناه الرفع البالغ، ثم نقل في الاصطلاح إلى الكتاب والسنّة، وإلى ما لا يحتمل إلا معنى واحداً. ومعنى الرفع في الأول ظاهر، وفي الثاني أخذ لازم النص وهو الظهور… وقيل: نصّ عليه كذا: إذا عيّنه (1). وقد عرفت دلالة “النصّ” عند الأصوليين غنًى وتشعّباً، فقد تحدّثوا عن “عبارة النصّ” و “إشارة النصّ” و “دلالة النصّ” و “اقتضاء النص”. ويبدو أنّ دلالة النص عند هؤلاء هي التي ولّدت مقولة “لا اجتهاد مع النّصّ”. فدلالة النصّ تشير إلى ثبوت حكم المنطوق للمفهوم المسكوت عنه لاشتراكهما في علّة يفهم كلّ عارف باللغة أنّها مناط الحكم ولا تحتاج إلى اجتهاد أو قياس فقهي(انظر: المصدر السابق، 1/186). ونقف في المحطة الثالثة لنرى أنّ مصطلح “النصّ” صار يدلّ على: القول، والخبر، والقصيدة، والحديث، والآية، وكلّ ما يثبته المؤلف لغيره. ومن هنا ظهرت كلمة “النصوص” في الكتب المدرسية والمناهج التعليمية. وفي هذا الاستعمال توسّع لدلالة “النصّ” التي لم تعد خاصة بالكتاب والسنة، إنما صارت تدلّ على كلّ ما يسند إلى صاحبه كما هو بإثبات وتعيين(2). وفي “المعجم الوسيط”: “النصّ: صيغة الكلام الأصلية التي وردت من المؤلف (مولّد)، وما لا يحتمل إلا معنًى واحداً، أو لا يحتمل التأويل، ومنه قولهم: لا اجتهاد مع النصّ (مولّد) «( انظر: المعجم الوسيط، الطبعة الثانية، 2/926). ويبدو أنّ المعجم الوسيط يقف عند ما تداوله المؤلفون المتأخّرون قبل العصر الحديث، وذلك بدلالة عبارة “مولّد” التي يقصد بها ما ظهر بعد عصر الرواية والاحتجاج. وليس ما ذكره الوسيط كافياً لرصد تطوّر دلالة “النصّ” في العربية الفصحى المعاصرة. فإضافة إلى ما ذكرناه آنفاً من معانٍ حديثة لدلالة “النصّ” نجد أنها تشير إلى المعاني التالية: أ- مجموعة من الكلمات ضمن تصرّف لغويّ معروف سواء أكانت مكتوبة أم ملفوظة. ب- كلّ ما هو معيّن ومحدّد، وإن كان كلمة واحدة أو أكثر. ج- كلّ كلام معيّن لغاية درسية أو توثيقية وإن كان كتاباً أو قصيدة أو ديواناً. د- كل قطعة من الفنون المرئية والمسموعة كالنصّ الفنّي والموسيقي ونحو ذلك(3). مصادر الدلالة المعاصرة وهكذا يتبيّن أنّ دلالة “النصّ” المتداولة الآن في النقد واللغة تكوّنت من خمسة مصادر هي: أولاً: الدلالة عند الفقهاء والأصوليين، وهي التي تفسّر ملمح الرفع والإسناد والتعيين والتوثيق في المفهومات المتداولة عند مثقّفينا. ثانياً: دلالة مصطلح (Texte) الفرنسي الذي يعني أصلاً: النسيج. فكأنّ النصّ نسج للكلام الناشئ من فعل الكتابة التي تشبه من بعض وجوهها عملية الناسج حين ينسج(4). وهذه الدلالة مسؤولة إلى حدّ كبير عن فهم النقاد المعاصرين للنصّ على أنه نسيج لفظي ناشئ من توجيه رسالة إلى متلقين، وهو نسيج قابل للتفكيك، والتحليل، وإعادة التصوّر، وإمكانية التداخل، واحتمال التقاطع، إلى آخر ذلك. ثالثاً: العلاقة بين اللغة والفنون الجميلة وهي العلاقة التي يعبِّر عنها مصطلح “التراسل” أو “التزامن” (Synesthésie) في الاستعمال. وهذه العلاقة هي المسؤولة عن توسيع مجال دلالة النصّ لتشمل فنوناً أخرى غير أدبية. رابعاً: المدارس النقدية الأجنبية المحدثة كالتشريحية أو التفكيكية والسيميائية وما جلبته معها من جهاز اصطلاحي تغلغل في العربية مترجماً يسلك أصل”النصّ” الاشتقاقي. فقيل: تناصّ، وتناصّي، وتناصّية، ومتناصّ، وتداخل النصوص، ونحو ذلك ممّا لا يزال يدور على أقلام النقاد منتظراً الاستقرار الذي يجلبه له الشيوع والتكرار في محاريب العلم عند أولي النظر. خامساً: علم النصّ (Science du texte) وما جلبه من مصطلحات تدور في فلك “النص”. كالنص السردي، والأبنية النصية، وأساس النص، وفضاء النصّ، ونحو ذلك ممّا شاع في الاستعمال (5). ولا بدّ من الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ مصطلح “النصّ” وما يتعلّق به من مصطلحات قريبة منه دلالة أو اشتقاقاً يشهد ما شهده غيره من المصطلحات اللغوية والنقدية من الفوضى والبلبلة والجرأة على الوضع أو الترجمة. وقد صار المرء يعجب أحياناً من عبارات غريبة (كالتفريغ) النصّي، و (المخاض) النّصي، وسوى ذلك من غرائب النقاد والتراجمة المحدثين(انظر مقالة مرتاض المشار إليها سابقاً، ص201). النصّ والخطاب بين الترجمة والاقتباس لابدّ عند الحديث عن “علم النصّ” من التنويه بدايةً بكتاب الدكتور صلاح فضل المعنون بـ “بلاغة الخطاب وعلم النص” الذي قدّم فيه جملة من المعارف الحديثة حول مواضيع البلاغة والخطاب وعلم النصّ والتداولية. ورأى أن علم النص يقترب من الميدان الذي كان مخصصاً للبلاغة. وهذا ما دعا بعض المختصين إلى القول إنه الممثل الحديث لها. وإن اندماج الخطاب البلاغي الجديد في علم النص يتيح له تشكيل منظومة من الإجراءات المنهجية القابلة للتطبيق على المستوى التداولي. وتتمثل مهمة علم النص -كما يرى صلاح فضل- في وصف العلاقات الداخلية والخارجية للأبنية النصية بمستوياتها المختلفة، وشرح المظاهر العديدة لأشكال التواصل، واستخدام اللغة. ويقدم علم النص الإطار العام للبحوث الجديدة في الشعرية والسيميولوجية، كما يشتمل على المظاهر التقنية التي لاتزال تسمّى بلاغية. وهكذا يخلص إلى أن إحلال مصطلح علم النص محل البلاغة، أو وضعه بجوارها بعد تحديدها على الأقل مؤشر ضروري للتحوّل في التاريخ العلمي، وانعطاف نحو أفق منهجي مخالف للمسار القديم، مما تفرضه نظريات العلم ونماذجه. ويشير صلاح فضل إلى أنّ “فان ديجك” (Dijk) بشّر في بحوثه عن علم اللغة النصي بتحويل البلاغة إلى نظرية النص. وهو المسار الذي كانت تتخذه أعمال مجموعة أخرى من الباحثين في ألمانيا على رأسهم سبلنر (6). وتجدر الإشارة إلى أن ظهور مصطلح الخطاب (Discaurse) أدى إلى محاولات للتفريق بينه وبين مصطلح النصّ. فالخطاب نصّ لغوي يستخدم في سياق معين. واللغة التي تتكون من أنساق دلالية توضع في إطار زماني ومكاني معينين، وتحاط بجملة من الملابسات والأحوال والظروف، وترافقها بعض الإشارات والإيماءات المساعدة، وتتدخل في أثناء ذلك عوامل أخرى تتصل بالثقافة والقرائن المقامية المتعدّدة. فالخطاب نصّ مدوّن أو منقول شفاهاً يوضع في ظروف غير لغوية بغية أداء وظيفة تواصلية تدرسها التداولية (Pragmatic). فاللغة تتجاوز نسق الجملة إلى مستوى النص الذي يتوجه إلى الآخرين فتكون خطاباً فيه عناصر المقاربة التداولية، ولا سيما السياق والمقام والمقاصد. والتداولية التي تتعامل مع نشاطات الفعل الكلامي التي تحدث في حالات أو سياقات خاصة تؤثر في التفسيرات اللغوية، قدّمت نظرات عميقة عن التواصل اللغوي واستخدام الوحدات اللغوية في سياق معيّن. ولأنّ التداولية تختصّ بدراسة الخطاب دعيت بعلم التخاطب الذي تجاوز علاقة اللغة بمستخدميها إلى دراسة المخاطِب والمخاطب والخطاب والسياق الخارجي، أو المقام بحسب المصطلح البلاغي العربي. ولا بدّ من الإشارة إلى مصطلح آخر له صلة بالنصّ والخطاب، هو “لسانيات النصّ”، وهو معني بتحليل الخطاب، ويتضمن بعض عناصر علم الأسلوب وعلم السرد(7). وإذا كان مصطلح “علم النصّ” ورد إلينا عن طريق اقتباس نظريات أجنبية وصوغها باللغة العربية -كما رأينا- فإنّ مصطلحاً آخر جاءنا عن طريق الترجمة المباشرة لمرجع أجنبي، هو “علوم النص”، مع مجموعة جديدة من المصطلحات التي تنتمي إلى هذه العلوم(8). ومن أهمّ ذلك عدا أوصاف النصّ: النصّية (مصدراً صناعياً)، والكفاءة النصية، والمقبولية النصية، والتقاليد النصية، والتوقعات النصية، والإخبارية النصية، والسياقية النصية، ومعنى النصية، وغيرها كثير. ويشير هذا إلى اتّساع الاهتمام بموضوع النصّ وعلاقته بالبلاغة والنقد والترجمة ونحوها، والاتجاه نحو تبنّي تحوّله إلى “علم” أو “علوم” نقلاً من المصادر الأجنبية. ويلاحظ نتيجة لما تقدّم من الوقوف على المصطلحات المتعلقة بالنصّ -على أنها نماذج- أنّ ظهور هذه المصطلحات رافقه تطوير دلالي ومفهومي، وتوليد اشتقاقي من دون أن تكون هناك حاجة إلى استعمال المصطلحات الدخيلة أو المعرّبة. مع أنّ بعض ما ورد تكتنفه غرابة بسبب طبيعته المجازية، كالمخاض النصي، أو يقصّر به معناه الاصطلاحي عن أن يكون مصطلحاً لا استعمالاً لغوياً مؤقتاً، كالكثير مما يرد في المراجع المترجمة(9). وهكذا يتضح أنّ عملية واسعة من انتقال النموذج العلمي المتعلّق بالنص قد تمت على مدى نحو عشرين عاماً عن طريق الاقتباس والترجمة والتنظير. ومن المؤكد أن هذا الانتقال صار مؤثراً في عملية التطبيق عند النقاد العرب المعاصرين. فالنقد العربي الحديث الذي لم يعد بمعزل عن التيارات اللسانية المتعددة كالأسلوبية والتفكيكية وعلم النص والتداولية ونحوها حاول تمثّل قضاياها النظرية، واستيعاب جهازها الاصطلاحي، وتطبيقها من دون تردّد، إذ إنّ هذه التيارات معارف عالمية تتجاوز الخصائص المحلية للغات والآداب المختلفة. ويلاحظ أنّ تداخل التيارات اللسانية والاختصاصات الأدبية والإنسانية في تطوّرها الحديث أدى إلى انحسار الاتجاهات التخصّصية الدقيقة في هذه العلوم في الآونة الأخيرة، وما ترتّب عليه من اختلاف النظم المعرفية(أنظر: بلاغة الخطاب وعلم النص، مرجع سابق، ص 250). ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ “النصّ”، وما يتصل به شكّل في اللغة العربية حديثاً حقلاً دلالياً واسعاً توزّعت مفرداته بين مصطلح واضح، واستعمال لغوي، واجتهاد في تغيير الدلالة أو نقل إلى مجال علمي. ولأن “النصّ” وما يتعلق به تحوّل إلى “علم” جديد، فمن المتوقّع أن يُؤلّف في مصطلحاته معجم يستقصي كلّ ما تدوول خلال ربع قرن من حياتنا المعرفية تقريباً. أزمة مثاقفة لكن تتوجّب الإشارة إلى أنّ معظم المصطلحات النقدية الحديثة لعلوم جديدة أو مناهج نقدية ولدت “أزمة” مثاقفة عوّقت تحديد المصطلحات والمفاهيم الأجنبية، واستثمارها في الثقافة العربية (أنظر كتابنا: اللسانيات وآفاق الدرس اللغوي، ص 11 وما يليها). فالتيارات الفكرية والمعرفية العالمية كانت ترد إلينا ولا سيّما في بداياتها عبر استيراد بحت يفتقر غالباً إلى التعريفات الدقيقة والتصنيفات العلمية، إضافة إلى مشكلات الترجمة التي تقوم على جهود فردية غير منظمة، مع تعدّد الاتجاهات، واختلاف المدارس الأجنبية، وعدم مواكبة التطوّر العلمي في الثقافة الغربية. وقد أدى هذا إلى ظهور ترجمات ركيكة لنصوص نقدية غادرها ذلك التطور، فوصلت إلينا متأخرة بعد أن أعلن موتها في موطنها الأصلي(10). ولكن من المؤكد أنّ هذه التيارات هي معارف عالمية تتجاوز الخصائص المحلية للغات والآداب المختلفة كما تقدّمت الإشارة. ولذلك كان ضرورياً تكييفها (Adaptation)، ووضعها في جملة العلوم الوافدة، وتوطينها في المجالات الأكاديمية والثقافية الأخرى. ولعل أبرز مثال على هذا المنحى “الواعي” ما قدّمه تمام حسّان في ترجمته كتاب “النصّ والخطاب والإجراء” لروبرت دي بوجراند، وتقديمه له بمقدمة شاملة وقفت على أهم جوانبه، وعرضت لقضاياه عرضاً لا يقلّ عن مستوى الكتاب الأصلي عمقاً وتمثلاً ووضوحاً. على أن الكتاب لا يخلو من صعوبات معرفية لمن لم يتمهّر في هذا الميدان. والكتاب يشتمل على تسعة فصول يعرض أولها لعدد من القضايا المتعلقة بدراسة النصّ، وينتهي إلى أن الصفة المميزة للنص هي استعماله في الاتصال. أما الخطاب فهو مجموعة نصوص يربط بينها مجال معرفي واحد، أي أنه تتابع مترابط من صور الاستعمال النصي يمكن الرجوع إليه في وقت لاحق. ثم يتحدث المؤلف عن النص بوصفه نظاماً قائماً، ويحدّد سبعة معايير للنص، أو للنصية هي السبك والالتحام والقصد والقبول ومراعاة مقتضى الحال فالتناص فالإخبار (الإعلامية) (11). وجاء الفصل الثاني من الكتاب ليشرح فكرة الترابط الرصفي التي عبّر عنها بالسبك بالتعرض لصور الجملة في النحو التوليدي ثم لعمليات التعليق الرصفي. ثم يأتي الفصل الثالث لدراسة الترابط المفهومي الذي عبّر عنه بالالتحام، من خلال الدلالة النحوية. ويرى أن الالتحام يقوم على عدم تجزئة المفهوم إلى سيمات (وحدات دلالية صغرى)، لأن الطريقة المثلى لدراسة الدلالة هنا هي الاتجاه نحو التماسك، أي أن ننظر إلى النصوص بوصفها نشاطاً يتعلّق ببناء المعاني في مواقف اتصالية. أما الفصل الرابع فقد تناول فيه المؤلف “الإعلامية”، أي الإخبار، ويخلص إلى أنه على الرغم من شيوع مصطلح الإعلام، فإنه يمكن النظر إلى هذا المصطلح لا من حيث إنه يدل على المعلومات التي تشكل محتوى الاتصال، بل من حيث يدل على ناحية الجدة أو التنوع. فإعلامية أيّ عنصر، كما يرى تكمن في قلة احتمال وروده في موقع معين بالمقارنة بالعناصر الأخرى في النص نفسه. وفي الفصل الخامس من الكتاب يعرض المؤلف للكفاءة النصية من خلال الوقوف على دواعيها ووسائل تحقّقها عن طريق صياغة أكبر كمية من المعلومات بإنفاق أقل قدر من وسائل التعبير أو السبك (نحو إعادة اللفظ ثم التحديد عن طريق التعريف والتنكير ثم اتحاد الإحالة، بواسطة الكنائيات، أي الضمائر وغيرها). أما الفصل السادس فيعرض فيه المؤلف للحالات المفهومية للمعلومات في الاتصال، عن طريق المنظورات (perspetives) ، كالإطار (Frame)، والمشروع (Schema)، والخطة (plan)، والمدوّنات. وهي مجموعة من المداخل وتوالي العناصر والخطط والمدوّنات يمكن النظر إلى المعلومات من خلالها. ويتناول الفصل السابع قضايا أخرى في عمليات الإجراء النصي، هي أنواع النصوص وإنتاج النصوص وتذكر المحتوى النصي. أما الفصل الثامن من الكتاب فيدور حول المحادثة والقصص. إذ يرى المؤلف أن كلّ نص يقوم بدور المساهمة في الحوار بين المنتج والمستقبل لأنواع النصوص المختلفة، مع قدر من الوساطة التي تأتي عن تأثير الموقف. ويعرض المؤلف للمبادئ العامة في المحادثة، ويفرق بين أنواع الخطاب في هذا الشأن. ثم يتحدث عن القصص، أي السرد (Narration). ويعرض نموذجاً لقصة شعبية قديمة ليجري عليها التحليل القصصي الذي يتبناه. ثم يصل المؤلف إلى الفصل التاسع والأخير، وهو تطبيقات لإنشاء علم للنصوص، تناولت المشروع التربوي والنحو التقليدي في مقابل اللسانيات التطبيقية، وتعليم القراءة والكتابة واللغات الأجنبية، ودراسات الترجمة, والدراسات الأدبية. وفي المقدّمة التي أنشأها تمام حسان للكتاب (ص3-59) مدخل للتفريق بين جانبي تناول اللغة، وهما: الدرس والاستعمال. والدرس يقوم على التحليل وصولاً إلى التبويب والتصنيف والتأصيل. وكان لابد لهذا الاتجاه أن يعتمد على تجريد المفاهيم وافتراضها عند عدم وجود ما يقابلها في الاستعمال (نحو الحذف وتقدير العامل وعود الضمير على متصيّد من الكلام غير مذكور..). ومن هنا جاز لنا أن نصف النظام اللغوي بأنه نظام افتراضي. أما الجانب الآخر لتناول اللغة فهو الاستعمال الذي تبدو بعض مرتكزاته غير متفقة مع المعايير الافتراضية. إذ للمتكلم من الأغراض ما لا يتفق أحياناً مع المحافظة على القواعد، ولذلك يكون الخروج من الحقيقة إلى المجاز، والتصرّف في النقل والحذف والزيادة والتقديم والتأخير، والاعتماد على دلالة الموقف في أثناء الاتصال، وعلى القرائن التاريخية والجغرافية وغيرها مما يخرج عن مجال القواعد النحوية. ويرى تمام حسان أن الغاية من تحليل النظام اللغوي هي الوصف، على حين أن الغاية من دراسة الاستعمال هي الاتصال. والاتصال لا يتم بواسطة وصف الوحدات الصغرى صوتية وصرفية، ولا بعرض العلاقات النحوية، إنما يتم باستعمال اللغة في موقف أدائي حقيقي، أي بإنشاء نصّ ما. وليس لأحد الاتجاهين أن يلغي الآخر، فلا الاعتراف بالاستعمال المولّد للتركيب فالنصية يلغي الدراسات التحليلية لنظام اللغة، ولا تغني هذه الدراسات بحال عن الدراسة النصّية. بل قد يكون الجمع بين هذين الاتجاهين ضرورياً. الحواشي والمصادر: 1 - الكفوي، الكلّيات، تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري، وزارة الثقافة، دمشق 1982م، 4/366. 2 - انظر: إبراهيم السامرائي، معجم الفرائد، مكتبة لبنان، بيروت 1984، ص170. وقد ذهب السامرائي إلى أنّ “نصّ على الشيء: عيّنه وأثبته” من كلام المعاصرين. وهو وهم، فقد ورد لدى الكفوي المتوفى سنة 1094هـ- 1683م. انظر الكليات، 4/366. 3 - انظر بحثاً لي بعنوان “الظواهر التناصية في الشعر العربي الحديث”، مجلة بحوث جامعة حلب، العدد (21) لعام 1991، ص246- 247. 4 - انظر: عبدالملك مرتاض “في نظرية النصّ الأدبي”، الموقف الأدبي، دمشق، العدد (201) لعام 1988، ص47- 50، وانظر له أيضاً بحث “نظرية، نصّ، أدب”: ثلاثة مفاهيم نقدية بين التراث والحداثة، ضمن كتاب: قراءة جديدة لتراثنا النقدي، النادي الأدبي الثقافي بجدة، المجلد الأول 1990، ص266- 275. 5 - انظر مثالاً على ذلك كتاب بلاغة الخطاب وعلم النص لصلاح فضل، سلسلة عالم المعرفة، رقم 164، آب 1992م. 6 - انظر: السابق، ص247، 251-253، وقارن بكتاب برند شبلنر، علم اللغة والدراسات الأدبية، دراسة الأسلوب، البلاغة، علم اللغة النصي، ترجمة محمود جاد الرب، ط. أولى، الدار الفنية بالرياض 1987، ص183. 7 - انظر: محمد محمد يونس علي، وصف اللغة العربية دلالياً، منشورات جامعة الفاتح، ليبيا 1993، ص117- 118، وانظر في مصطلح (الخطاب): عناني، محمد، المصطلحات الأدبية الحديثة، دراسة ومعجم إنجليزي- عربي، لونجمان، القاهرة 1996، ص19-22 (من قسم المعجم) وص116- 116 من القسم نفسه. 8 - انظر كتاب: الترجمة وعلوم النص لنيوبرت وشريف من ترجمة محيي الدين حميدي، جامعة الملك سعود بالرياض 2002. ونشير هنا إلى أنّ صلاح فضل استعمل مصطلح “علوم النصّ” في أثناء حديثه عن النصّ وعلمه، ص 271 من دون أن يعوّل عليه في كتابه. ونشير هنا إلى أن كتاب: التحليل اللغوي للنص من تأليف كلاوس يرينكر، وترجمة سعيد حسن البحيري، الصادر عن مؤسسة المختار بالقاهرة عام 2005 يستعمل مصطلح “علم لغة النصّ”. انظر مثلاً ص22 من الكتاب. 9 - أورد مترجم كتاب الترجمة وعلوم النص ثلاثة عشر وصفاً لمصطلح “النص”، وثمانية عشرين (مصطلحاً) تتعلق بحقل النصّ المعرفي. انظر، ص244- 245. على حين لم يورد قاموس اللسانيات لعبدالسلام المسدي سوى أربعة مصطلحات تتصل بالنصّ. انظر كتاب المسدي، الدار العربية للكتاب 1984، ص179، مع اعتبار الفارق الزمني بين الكتابين. 10 - انظر: المرعي، فؤاد، وسهام الناصر، “المصطلح والمفهوم في النقد الأدبي”، مجلة بحوث جامعة حلب، سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية، العدد (35) لعام 1999، ص47. 11 - انظر: دي بوجراند، النص والخطاب والإجراء، ترجمة تمام حسان، عالم الكتب، القاهرة 1998، ص8، وقارن: عناني، المصطلحات الأدبية الحديثة (مرجع سابق)، ص116 (من قسم المعجم).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©