الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشعراء المموَّهون.. أو شعراء الزور!

الشعراء المموَّهون.. أو شعراء الزور!
18 مايو 2011 19:57
ظاهريا، يتبدى موقف ابن رشد من الشعر العربي أقرب إلى التحفظ بل الإعراض. وهذا الشعر الذي لم يكن يعرف سواه، غالبا ما كان يصدر في أغراضه إجمالا أحكاما قيمية أخلاقية، ذات بعد تربوي بيداغوجي، مستوحى بدرجات متفاوتة من الموقف القرآني، والموقف الأفلاطوني المعبر عنه في كتاب الجمهورية الذي لخصه (باستثناء مقالته العاشرة) وصدر تحت عنوان الضروري في السياسة. هكذا يذهب ابن رشد إلى تأييد ما قرأه عند الفارابي: «وأكثر أشعار العرب إنما هي، كما يقول أبو نصر، في النهم والكريه»، هذا ولو أنه يخصص القول في النسيب الذي إنما هو حث على الفسوق. ولذلك ينبغي أن يتجنبه الولدان، ويؤدبون من أشعارهم بما يحث فيه على الشجاعة والكرم (1). إن هذا الموقف من أشعار العرب وهذا التوجه التعليمي التربوي في تحفيظ الشعر العربي للنشء وردا أيضا عند ابن رشد في مختصره لمؤلف أفلاطون المذكور (2). غير أن من المجحف في حق ثقافة ابن رشد الواسعة المتفتحة أن نركن إلى ذلك الموقف فلا نذهب إلى استطلاع ما بعده وما يضمره. ذلك أن في كلام ابن رشد عن غرض النسيب مثلا ما يشير إلى تحبيذه لشعر الحب العذري أو ما جرى على منواله وأتى في باب ما يسميه «الشعر العفيف»، ويعرفه مستلهما بعض عبارات أرسطو في فن الشعر بكونه «مؤلفا من الأسماء المستولية: (أي الشائعة أو «الأهلية»)، وكذلك من الأسماء الأخر أي المخصوصة أو المتخلية حيث يريد [الشاعر] التعجب والإلذاذ (3). وعلى هذا الشعر العفيف (غير الحضري أو العذري) يمثل ابن رشد بالمتنبي وإلى حد ما بأبي فراس الحمداني وأبي العلاء المعري، ودونهم المحدثون ولو كانوا من طبقة أبي تمام. فعند أبي الطيب (وهو عنده الأكثر وروداً) يسوق متذوقاً متلذذاً بيتيه الشائقين: لبسنَ الوشيَ لا متجملاتٍ ولكنْ كي يصنَّ به الجمالا وضفَّرنَ الغدائرَ لا لحسنٍ ولكنْ خفنَ في الشعَرِ الضلالا» (4) كما أنه في مقام آخر يستشهد ببيتين للشاعر نفسه: كم زورةٍ لك في الأعراب خافيةٍ أدهى- وقد رقدوا - من زورةِ الذيبِ أزورهم وسوادُ الليلِ يشفعُ لي وأنثني وبياضُ الصبحِ يغري بي فيسجل قارئنا الخبير: «فإن البيت الأول هو استدلال، والثاني إدارة. ولما جمع هذان البيتان صنفي المحاكاة، كانا في غاية من الحسن» (5). ولقد كانت لفيلسوفنا الموسوعي ذائقة شعرية معتبرة تقوم على أساس التميز والانتقاء في حق القصائد ما سلف منها وما جد، معياره في ذلك، كما أشار إليه أرسطو، أن العلة الأولى المولدة للشعر هي «الإلذاذ لموضع التخييل» فيه (6). وعلى ضوء هذا المعيار فإنه يرى في أشعار كثير من المحدثين ما لا يستسيغه «من صور متصنعة ومجازات ضعيفة»، يستشهد عليها بأبي تمام في قوله: لا تسقني ماء الملام، «فإن الماء غير مناسب للملام، وأسخف منه: كَثُبَ الموت رائبا وحليبا». كما أن أبا الوليد ينكر على أشعار العرب المحدثين غلوهم الكاذب (كما مارسه السفسطائيون من الشعراء الإغريق)، وينكر عليهم عملهم بالمثل المأثور «أعذب الشعر أكذبه»، ولا يستثني من إنكاره حتى المتنبي حين يقول: عدوك مذمومٌّ بكلِّ لسانِ ولو كان من أعدائكَ القمران علاوة على تلك النقائص، هناك أيضا نقيصة ذات طابع ديني أخلاقي تتجلى في كون «أشعار العرب» في نظره يصح عليها موقف القرآن الكريم السلبي من الشعر والشعراء إلا ما قلّ من هؤلاء وذاك ودلّ. أما فرقة الشعراء الناجية، فكأننا بأعضائهم في عرف ابن رشد وتقييمه – وهذا أمر مدهش جدير بالتأمل – هم أولئك الذين يمارسون صناعة الشعر في قرب تفاعلي وجوار مرئوي مع الفلسفة، وذلك «من حيث تسمية الشاعر لأشياء موجودة وجواز كلامه في الكليات». وهؤلاء المفلقون كأننا بصاحبنا لا يرى غضاضة في أن يتحللوا من عمود الشعر عند الحاجة والاقتضاء (7). في الصفحات الأخيرة من تلخيصه، يرفع ابن رشد الغطاء عن الصفات التي يصير بها الكلام شعرا، ممثلا عليها بأبيات من الشعر العربي، قديمة ومحدثة، وهي التغييرات، أي «الموازنة والموافقة والابدال والتشبيه» ، وبالجملة: إخراج القول غير مخرج العادة (8)، مثل: «القلب والحذف والزيادة والنقصان والتقديم والتأخير وتغيير القول من الإيجاب إلى السلب ومن السلب إلى الإيجاب [...] وبالجملة: بجميع ما يسمى عندنا مجازا»، ويمثل أبو الوليد على ذلك أيضا بآيات قرآنية، فنخلص معه إلى القول: «وأنت إذا تأملت الأشعار المحركة وجدتها بهذه الحال وما عدا من هذه التغييرات فليس فيه معنى الشعرية إلا الوزن فقط» (9). من باب توارد الأفكار، ألا تحضرنا هنا بخصوص هذا الكلام الرشدي العجيب قولة شارل بودلير: «الشعر فلسفي في العمق، لكن من حيث هو قدر قبل كل شيء، فإن عليه أن يكون فلسفيا بنحو لا إرادي!»، وأيضا بخصوص قول أبي الوليد في «إخراج القول [الشعري] غير مخرج العادة»، ألا نتذكر الشاعر الفرنسي الكبير سان جون بيرس حين أدلى في خطاب استلامه جائزة نوبل للآداب في 1961: «الشاعر هو من يكسر لحسابنا سُنة التعود»!، وكذلك ألا تحضرنا افتتاحيتان للراحل محمود درويش في عددين من مجلة الكرمل: «كثُر الشعراء وقلَّ الشعر» و «أنقذونا من هذا الشعر»، أي ممن يسميهم ابن رشد «الشعراء المموهون» و«شعراء الزور»!. هوامش (1) تلخيص كتاب الشعر، ص 205. (2) الضروري في السياسة ، ص 91-92. (3) تلخيص كتاب الشعر، ص 238. (4) ص 228. (5) ص 217. (6) ص 206. (7) ص 215. (8) ص 214-215. (9) ص 243.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©