الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

النابغة الشيباني.. فساد السياسة وبهاء الشعر

النابغة الشيباني.. فساد السياسة وبهاء الشعر
15 مايو 2013 20:15
تحدثنا في حلقة ماضية عن النابغة الذبياني الذي لم يدرك الإسلام، ولكنه عاش في نهاية العصر الجاهلي إلا أن تاريخ الشعر العربي، يسجل لنا أسماء ثلاثة شعراء تحت هذا الاسم هم: النابغة الذبياني، ونابغة بني جعدة أو الجعدي، ونابغة بني شيبان أو الشيباني. الثلاثة من النوابغ اسماً وفعلاً. ولذلك يهمنا في هذه الحلقة أن نلقي الأضواء على نابغة آخر، هو النابغة الشيباني وأعترف أنني اخترت هذا الشاعر لعدة أسباب أهمها أنه كان من أوائل من وظّف الشعر في السياسة، فكان من مناصري أحد فروع بني أمية على الفروع الأخرى، وكاد ذلك أن يكلفه حياته، فمن هو هذا الشاعر؟ هو عبدالله بن المخارق بن سليم بن حصره بن تيس بن سنان بن حماد بن حارثة بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن جديلة بن أسد.. ويرتفع نسبه إلى ربيعة بن نزار. عاش النابغة الشيباني في العصرين الإسلامي الأول والأموي، ولذلك اعتبر من الشعراء المخضرمين. وبحكم العصر الذي عاش فيه فقد ظهر في شعره فكر الإسلام وتعاليمه، رغم أن هناك من يشكك في إسلامه ويزعم أنه كان نصرانياً يحلف بالإنجيل والرهبان وبالإيمان التي يحلف بها النصارى. النابغة الشيباني يعتبر شاعراً بدوياً يخدم بشعره قبيلته أولاً ثم بعد ذلك يفد إلى خلفاء بني أمية فيمدح ويجازى على مدحه بمكافآت سخية. والمتصفح لديوانه أو ما وصلنا إلينا من شعره سيجده منسجماً حتى مع شعراء الجاهلية السابقين من حيث ذكر الأطلال ووصف الناقة المقلة له، أو يتغزل بأسماء وهمية كقوله: ألاهـاج قلبـي العـام ظعـن بواكـرُ كما هاج مسحوراً إلى الشوق ساحرُ ســليمى وهنــد والربــابُ وزينــبٌ وأروى وليلــى صدننــي وتماضــرُ يقول الدكتور عمر الطباع في مقدمته لديوان النابغة الشيباني: «إن مطالع النابغة الشيباني هي في جماعها مطالع بدوية غزلية يقدم بها ـ على سنن عمود الشعر القديم ـ لمطولاته في المديح، ومن السهولة بمكان أن تتحرى جانباً في وجدانياته وعواطفه نحو المرأة والطبيعة ممعناً في التشابية الحسية المادية فنتلمس في تضاعيف نسيبه جانباً في حياته اللاهية». ولكن المثير للاهتمام في شعر الشيباني هو تناوله للمسائل الدينية مما جعل بعض الدارسين يشككون في إسلامه. ويعتمدون في ذلك على ما قاله عبدالعزيز بن مروان أخو عبدالملك حين علم بموقف الشاعر في مسألة ولاية العهد. يقول أبو الفرج الأصفهاني: لما همّ عبدالملك بخلع أخيه عبدالعزيز من ولاية العهد وتولية الوليد ابنه لهذا المنصب، كان النابغة الشيباني منقطعاً إلى عبدالملك مداحاً له فدخل إليه في يوم حفل والناس حواليه وولده قدامه فأنشد قصيدة جاء فيها: أزحــــتَ عنــــا آل الـزبيــــر ولــــو كانــوا هــمُ المالكيــن ما صلُحــوا إن تلــق بلـــوى فأنــت مصطبـــر وإن تلاقـــي النعمـــى فلا فـــرحُ آل أبـــي العاصـــــي آلُ مأثـــــرة غـــرٌ عتـــاقٌ بالخيـــر قــد نُفِحـــوا خيـــرُ قريـــش وهــــم أفاضلهــــا فـي الجــد جِـــدُّ وإن هـمُ مزحــوا أمــا قـريـــــش فـأنــــت وارثهــــا تكُـفُّ فــي صعبهــم إذا طمحــوا آليـتُ جهـداً ـ وصــادقٌ قســمي ـ بـــرب عبــــــد تجنّـــــه الكـــرحُ(1) يظـــلُّ يتلـــو الإنجيــــل يدرسُـــــهُ مــن خشـــية اللــه قلبُـــه طفـــحُ لا نبــــك أولــى بمــــلك والــــده ونجــم مــن قــد عصــاك يُطـــرحُ ولما انتهى النابغة الشيباني من إلقاء قصيدته تبسّم عبدالملك ولم يتكلم في ذلك بإنذار ولا دفع، فعلم الناس أن رأيه خلع عبدالعزيز ووصل ما قاله له النابغة إلى عبدالعزيز فقال: ـ لقد أدخل ابن النصرانية نفسه مدخلاً ضيقاً فأوردها مورداً خطراً ووالله لئن ظفرت به لأخضبن قدمه بدمه. وفي هذه الحكاية ندرك أمرين: الأول: أن النابغة الشيباني وظّف شِعره في خدمة سياسة الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، فنظّم تلك القصيدة السياسية التي زين للناس فيها القرار الذي أزمع عبدالملك أن يتخذه بعزل أخيه وتولية ابنه. والثاني: أن أم النابغة كانت نصرانية وأن الثقافة المسيحية تركت أثرها الواضح على شِعره. ولكن بالعودة إلى ديوان النابغة الشيباني نجد أن إسلام الرجل واضح لا ريب فيه. فعندما انتصر القائد الأموي مسلمة على الروم في موقعة (طرندة) نظم قصيدة جاء فيها: تدعو النصـارى لنـا بالنصـر ضاحيـة والله يعلم ما تخفي الشراسيف(2) قلعت بيعتهم(3)عن جوف مسجدنا فصخرها عن جديد الأرض منسوفُ كانت إذا قام أهـل الديـن فابتهلوا باتـت تجاوينــا فيهــا الأســــاقيفُ فاليـوم فيـه صـلاةُ الحـقّ ظاهــرةٌ وصـادقٌ مـن كتـاب اللـه معـروفُ يقول الدكتور عمر الطباع: «ذكر الشاعر الإنجيل والرهبان ليس دليلاً قاطعاً على نصرانيته، وإسلام الرجل لا يمنع أن يعنى باحترام شعائر النصرانية». ويضيف الطباع: «إن أصول الشاعر النصرانية من ناحية أمه أمدته إلى جانب تفقهه بالأصول الإسلامية بقدرة على أن يصبغ شِعره أحياناً بطوابع مميزة منها ذكر الرهبان والأديرة والقسم بالإنجيل، وفيما عدا هذه الطوابع يظل إسلام الشاعر صريحاً وواضحاً في سياق شِعره». ولعل الأبيات التي قالها الشاعر نفسه تؤكد ما قاله الطباع عن إسلامه. يقول النابغة الشيباني: وتعجبنــي اللــذات ثــم يموجنـي ويشــدني عنهــا مــن اللــه ســاترُ ويزجرني الإسلام والشـببُ والتقى وفي الشيب والإسـلام للمـرء زاجـرُ ولأن الشاعر اختار أن يتدخل في سياسة خلفاء بني أمية من خلال مدحه، ولأنه وقف مع فرع دون الآخر، فقد جرّ عليه ذلك الكثير من المتاعب. ونسوق هنا للتدليل على المتاعب التي عانى منها الشاعر موقفين: الأول كما أورده أبو الفرج الأصفهاني. قال أبو عمرو الشيباني: لما قتل يزيد بن المهلب دخل النابغة الشيباني على يزيد بن عبدالملك بن مروان فأنشده قوله في تهنئته بالفتح: ألا طـــالَ النَظُّــــــرُ والثَـــــواء(4) وجـاء الصيــفُ وانكشــف الغطـاءُ وليـــس يقيــم ذو شـــجنٍ مقيــمٍ ولا يمضـــي إذا ابتغــى المضـــاءُ طـــوال الدهـــــر إلا فـــي كتــابٍ لمقـــدار يوافقــــــه القضـــــــاءُ ولا يعطـى الحريـصُ غنـى لحـرصٍ وقــد ينمـي لـذي الجـــودِ الثــراءُ غنـي النفــس ما اســتغنت غنــيٌ وفقــر النفــس ما عمــرت شــــتاءُ وكــل شــــــديدةٍ نـزلـــت بحـــي ســــــيتبعها إذا انتهــــت الرخـــاءُ يزيـــد الخيــر وهــــو يزيـــد خيـــراً وينمــي كلمــا ابتغـــــي النمـــاءُ ونلاحظ هنا أنه يمدح ويقرظ ويؤيد صلة يزيد بأخيه ثم ينقلب فجأة على هشام بن عبدالملك والوليد بن عبدالملك وهما أخواه فيقول: هشـــام والـوليـــد وكــل نفــــسٍ تريـــدُ لــكَ الفنــــاءَ لــك الفـــداء وفي الوقت الذي حصل فيه الشاعر على مكافأة الخليفة الممدوح يزيد والذي أمر له بمائة ناقة من نَعَم كلب وأن توقر له بُراً وزبيباً وكساءً، بالإضافة إلى مكافأة مالية كبيرة، لقي من هشام بن عبدالملك جفاءً كاد يودي بحياته. فعندما وفد على هشام بن عبدالملك لما ولي الخلاف قام بإهانته وشتمه أمام جميع من في مجلسه، وذكره بذلك البيت: هشـــام والولـيــــد وكــلُّ نفـــسٍ تريـد لــك الفنــــاءَ لــك الفــــداءُ ثم قال: أخرجوه عني.. واللهِ لا يأخذ مني شيئاً أبداً.. وظل النابغة الشيباني طريداً حتى ولي الوليد بن عبدالملك فوفد إليه ومدحه مدائح كثيرة.. فأجزل صلته. وحكاية القصيدة التي سنوردها للنابغة الشيباني، أنه في يوم من الأيام غنى أبو كامل مولى الوليد بن يزيد بن عبدالملك بحضرة سيده: امدح الكأس ومن أعملها واصبح قوماً قتلونا بالعطش فسأل الوليد بن يزيد: لمن هذا الشِعر؟ فرد أبو كامل: إنه لنابغة بني شيبان ? أحضروه إلى مجلسنا حالاً. وبالفعل حضر الشاعر فقال الوليد: أهذه القصيدة لك؟ ?? نعم يا مولاي. ? أنشدنا إياها إذن ?? أمر مولاي. أنشد النابغة القصيدة وكان الوليد بن يزيد يظن أن فيها مدحاً له ولكنه فوجئ بأن الشاعر يفتخر بقومه بني شيبان، فقال الوليد: لو سعد جدك لكانت مديحاً فينا لا في بني شيبان.. ولكننا مع ذلك سنكافؤك.. ووصله وانصرف. وهذه أبيات من القصيدة: خلَّ(5) قلبـي مـن ســـليمي نَبْلُهـا إذ رمتنـــي بســــهام لــم تطـــش طفلــة(6) الأطـــراف رود دميـــة وشواها(7) بختري(8) لم يُحشى(9) وتـزيـــن الوجــــــه منهــــا غـــرّة تبرق الأبصار(10) منها لم تعُش(11) وكــأن الــدر فــي أخـراصهـــا(12) بيــض كحــلاء(13) أقرتـــه بعــش حُـــرُّةُ الـوجـــه رخيـــــم صوتهـــا رُطـب تجنيــه كـفُّ المنتقــش(14) أيهـــا الســــافي ســــقته مزنـــة من ربيع ذي أهاضيب(15) وطش(16) امــدح الكـــأس ومـــن أعملنهـــا واهـــج قومــاً قتلونـــا بالعطــش إنمــــا الكـــأس ربيــــــع باكــــــر فــإذا ما غــاب عنـــا لـــم نعـــش معاني الكلمات: -1 بيوت بأرض الكوفة تسكنها الرهبان -2جمع شرسوف وهو كل عظم رخص مثل مارن الأنف أو غضروف الكتف -3 معبد النصارى -4 الإقامة وهي من ثوى يثوي ثواء أي ألزمه بالإقامة -5 ثقب -6 ناعمة -7 الأطراف -8 متبختر -9 لم يعق بالإحاطة عليه -10 تدهشها -11 أصلها تعشو وحذفت الواو للجزم ولضرورة الشعر -12 جمع فرص وهو القرط -13 اسم طائر -14 المتخير -15 المطر -16 المطر الخفيف المراجع: -1 الأغاني/ أبو الفرج الأصفهاني -2 لسان العرب/ ابن منظور -3 ديوان النابغة الشيباني/ الدكتور عمر الطباع
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©