السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بول شاؤول: بشعرِهِ يُعرف الشاعر

بول شاؤول: بشعرِهِ يُعرف الشاعر
18 مايو 2011 20:06
يجود بول شاوول بالشعر، وحين يضيق إطار القصيدة عن الإحاطة المنشودة ينصرف الى الوعاء الأوسع... فيسهب ويستطرد ثم يكثّف ويراكم، فيأتي النصّ مشبعاً بالنفحات المعتقة والاستطلاعات الرؤيوية ويأتي شعره نبيلاً جميلاً، معانياً زاخراً. كلامه يجذب السمع والبصر والفؤاد. عرفناه شامخاً، عذب الرنة، راقي المضمون، وسيم الأسلوب. مطبوع بالجدية الصارمة أحياناً، والواضحة دائماً. لديه صيغة مختلفة، واتجاه صوب أبعاد لا مرئية ولا ملموسة، فنتابعه بشغف تنتابه حسرات من لم يفهم... حتى ننتهي بأن نعلم ونحلم. يعتبر بول شاؤول أن الشعر كتابة الجسد وإمبراطورية الحواس لكنه يرى الحياة أم كل إبداع. الحياة هي الأصل وعندما نكتب شيئاً خارجها نكتب الموت أو العدم...له مع هذا الموت حكاية لكن له مع الشعر والحياة حكاية أخرى ورحلة قد لا تفلح الكلمات حتى في إضاءة عمقها... ها هنا، في هذا الحوار الذي خصَّ به الشاعر “الاتحاد الثقافي” نتلمس غير قليل من روحه الجميلة، ونطلُّ على قلبه الموجوع بالشعر وبالحياة. ? الشاعر والكاتب بول شاؤول، لو طلبت منك أن تعرف نفسك ماذا تقول؟ ? صدقاً، لا أستطيع أن أعرف نفسي، لأن الشاعر يُعرف بشعره. وكما هو معروف عني، بأنني أتحول كثيراً بشعري ولا أقف عند أسلوب واحد لأنني ضد الأسلوبية بالشعر، حيث تجدون كل كتاباتي لها صيغه مختلفة، لذلك لا يمكن أن أعرف نفسي بالماضي بل بالمستقبل كي أعرف نفسي بما لم أستطع أن أكتبه أي التعريف المفتوح. الصمت حياة ? ما سبب هذا الصمت الذي هو سرّ من أسرار نجاحك؟ ? تُعلّم الحياة الصمت، والشعر يعلّم الصمت، فالصمت هو جزء من الشعر والحياة، وهو الثرثرة الداخلية في الشعر فهو المعنى الحقيقي خلف الكلام وما بعده. لأن الحياة هي أمّ القصيدة والشعر والرواية والفنّ التشكيلي والفكر والفلسفة وغيرها. لا يوجد شيء يُكتب خارج نطاق الحياة. في القرن العشرين، كانت توجد المدارس الشعرية والسريالية والوجودية والعدميّة... كما المدارس الفلسفية منها الشيوعية والفاشية والنازية ... كانت الأفكار تسبق الحياة فمثلاً عند السرياليين يضعون الأفكار على شكل بيان وعليك أنت أن تكتب التفاصيل بينما الأفكار اليوم تأتي بعد الشعر أي بعد الحياة، وعندما نكتب ما هو خارج الحياة نكتب الموت أو العدم. لذلك لا أستطيع أن أكتب عن حب امرأة لم أحبها أو أن اكتب عن السيجارة وأنا لا أدخنها. ? هل تقصد أنك يجب أن تعيش التجربة لتجسدها بقصائدك؟ ? طبعاً، التجربة الداخلية، الحياتية، الاجتماعية، السياسية ... إلخ، لكن هذا لا يعني أن يكون النص الشعري مشابهاً للحياة حيث يجب أن يأتي دور الفنّ الذي يشكل مادة التجربة في تفجير بنيّته. الشاعر نحّاتاً ? أيهما أفضل النحت على الحجر أم على الهواء؟ ? يأتي النحت هنا بالمعنى المجازي، هنالك مدارس نحتية شكلانية، فالشاعر الكبير سعيد عقل ينحت القصيدة ولكنه شاعر شكلاني، حيث لا يوجد بهذا الشكل من الشعر طلاسم وجنون داخلي من ناحية القلق والسوداوية والخوف والرعب. لقد عشت وعاصرت على مدى أربعين عاماً الحروب اللبنانية التي تشكل الدفة والمادة الأولى للحياة ثم تأتي الثقافة والشخصية. عام 1977 كتبت قصدة بعنوان “بولصة الدم” تتضمن حوالي 600 صفحة من الرعب والدم وقد اختزلتها لتصبح 60 صفحة؛ بمعنى أنني أزلت الزوائد. وهنا أقصد النحت لأنه أساس الفنّ ويأتي دور الثقافة والتقنية والإيقاع بين الكلمة والأخرى، لهذا فإن الشعر هو فنّ التعب والصعوبة فربما أعمل على قصيدة تدوم ثلاث سنوات وبعد الانتهاء منها أجدها تافهة. ? هل تعني أن القصيدة تعيش مدّة زمنّية محددة؟ ? أحياناً، وهذا ينطبق على كتاب كتبته بعنوان “أوراق الغائب”، وهو من أهم كتاباتي. اشتغلت عليه حوالي ست سنوات، وتكمن المشكلة فيه أنه كلما قرأته في الليل أجده جميلاً وفي النهار أجده قبيحاً. ? ما سبب هذا التناقض بين الليل والنهار؟ ? ربما سببه الخوف لعدم وجود التجربة المعمقة التي أحلم بها، حيث فنيّاً أقول عنه ساقط، لست من الشعراء الذين يكتبون القصيدة في الليل وينشرونها في الصباح، أنا من الأشخاص الذين يعتبرون القصيدة فنّاً صعباً “وهالشي جاب لي مرض القلب”. ? لكنك تعشقها؟ ? طبعاً (يبتسم) ويقول: “هي حياتي” . ? أنت تكتب الشعر لتعيش أم لأنك تحبه؟ ? لا أستطيع أن أتكسب بالتجارة. لذلك عملت عشر سنوات ضمن اختصاصي في الأدب العربي. كما أنني كتبت نصوصاً مسرحية عرضت على الخشبة، لكن المسرح لا يطعم الشاعر، حيث أن المسرح التجريبي لا يراكم (المصاري)، وأشهر شاعر في الوطن العربي يبيع 200 نسخة من كتبه باستثناء الشاعرين الراحلين نزار قباني ومحمود درويش. وأرجع بالقول إن الشعر مهنة أريد العيش منها وبنفس الوقت رسالة أسعى لإيصالها بالطريقة الصحيحة. ? لكن هل هذه المهنة يستطيع أن يعتاش منها الشاعر في الوطن العربي؟ ? “أعطنا خبزنا كفاف يومنا” أعمل منذ حوالي خمسة وأربعين عاماً ولا أملك منزلاً لكنني أعتبر نفسي سعيداً لأنني لا أملك شيئاً. ? ما سبب هذه النظرة السوداوية؟ ? للأسف معظم الصحافة اللبنانية مرتزقة، وهذا يعود إلى “خراب” البلد، بينما في المقابل هناك صحفيون استشهدوا في سبيل الكلمة الحرّة وآخرون أصبحوا أثرياء على حساب دم المواطن اللبناني والعربي. ربما تكون هذه سعادتهم لكنها تعاستي، ماذا يمكن أن يكتب الشاعر إذا كان مرتزقاً صغيراً “مرتشيا”. موت داخلي ? الموت المادة الأصلية التي تصنع بها شعرك، ما هي مكوناتها؟ ? لا أعرف، لقد تفاجأت بوجود ثلاثة عناوين تحتوي الموت فيها. وهناك أيضاً من الكتب التي لم أنشرها أتحدث عن تجربة الموت، ربما يعود ذلك لمعايشة ومشاهدة الموت في لبنان على مدى العقود الماضية. منذ عام 1958 ونحن نعيش موتاً داخلياً. قبل الخروج من منزلي أودعه ويودعني. كلانا يخاف من عدم رجوع الآخر. لا أستطيع إلا أن أكتب عن الموت بالمعنى الروحي والمادي والميتافيزيقي، نحن نعيش صفحة مفتوحة للموت، لأن لبنان على حافة هاوية إما نزول نحن أو يزول هو. ? على ماذا يدّل هذا الشعور؟ ? يدل على الهشاشة والمستقبل المجهول، لهذا نجد المواطن اللبناني يحب الحياة وكأنه يسابقها لأنه في اللاوعي لا يعرف غداً ماذا يُخبأ له من مفاجآت. ? ما هو رأيك بوجود الواقع والكم الموجود، هل يعقل أن يوجد صدق ومصداقية في طرح الخبر وعرض المواضيع الثقافية والاجتماعية؟ ? لم يعدّ هنالك مصدر واحد للخبر، وأصبح الخبر مصدره الشعب، فالثورات العربية حركتها الشعوب من خلال “الفيس بوك” والإنترنت حيث أصبحوا شاهد عيان، وتأتي المصداقية من خلال المتلقي وتأتي الحاسة النقدية من خلال التفرقة بين خبر وآخر أو عبر العقل المسيس أو النقدي. لقد كانت الإذاعة اللبنانية في الحرب هي الوحيدة التي تنقل الخبر والتي لا تخضع للنقد، لكن عندما تصبح الشعوب قطعان ويصدقون كل ما قيل من جريدة يحبونها ومحطة تلفزيونية منحاذين إلبها يعدّ هذا خطراً بحد ذاته لأن الديمقراطية قائمة على الوعي وليست على القطعانية (من قطيع) على ما يجب أن يكون الخبر لكن كما يجب عرض الخبر. ? لماذا اشتغلت بالسياسة على الرغم من أنك ابتذلتها؟ ? لقد ابتذلت السياسة المرتبطة بالارتزاق الطائفي والمذهبي، وليس السياسة بوصفها طريقة للتطور والتحول في الحياة والمجتمع المدني والديمقراطي. من هنا، أتعامل بالسياسة من أجل محاربة السياسة المبتذلة. ? لماذا برأيك نعيش في غيبوبة فكرية في ظل صحوة ضيقة؟ ? أظن أن الخطأ الكبير الذي قامت به الأحزاب العلمانية يكمن في أنها انخرطت في حروب طائفية، ولهذا انهزمت أحزاب مثل الحزب الشيوعي والناصري والقومي وغيرهم. إن التغيير يتم من خلال الشعب، والسلاح ليس أداة للتغيير لأنه لا توجد ديمقراطية مبنية على العنف. ? مارست النقد على العديد من هذه الأحزاب ألا تعتقد أنهم انسجموا مع الواقع؟ ? إن الأحزاب السلطوية مثل الحركة الوطنية قد استغلت عجز النظام لتغيير الواقع، إلا أن الشعب هو الذي يغير النظام من خلال العملية الديمقراطية السلمية والفكرية، حيث الصراع السياسي هو الذي يؤدي إلى التغيير وليس الصراع العسكري. ? هل ترى أنها تبلورت من خلال الثورات الحالية؟ ? لا، وهذا شيء عظيم... أعني ألا توجد برامج حزبية خلف هذه الثورة، فهؤلاء الشباب نزلوا للشوارع لأنهم يحبون وطنهم. إنني لأول مرة أرى الأعلام العربية حرّة خرجت من الأرض ومن جسم الإنسان وحواسه. ? ومن يبلورها؟ ? تبلورها الحياة بالتجربة والواقع الذي يتيح هذه الأفكار، ومن خلال هؤلاء الشباب الذين دخلوا الثورة شعراء ويجب أن يتحولوا إلى نثريين، بمعنى إقامة أحزاب ضمن الواقع والحياة الجديدة بعيداً عن الأفكار البالية للأحزاب العربية القديمة. الحداثة والتاريخ ? برأيك التاريخ سوف يتوقف أم يكرر نفسه؟ ? الرهان على التاريخ يأتي عبر الحداثة، عبر التقدم والعلم. التاريخ ليس شيئاً تجريبياً بل هو أشبه بالبشر في حركته التفاعلية والتقدمية التي تعطي الأمل، فالماء الذي يحيي أيضاً يقتل، لذلك لبنان في السبعينيات كان فكرياً وثقافياً أفضل من اليوم لوجود أحزاب ودولة تسعى للبناء وليس للهدم. ? والحداثة، ما مقاربتك لها؟ ? لقد وقعنا في الحداثة الاستهلاكية منذ أوائل القرن العشرين؛ حيث استهلكنا المدارس الشعرية التي تراكمت منذ عقود إلى أن أصبنا بالتخمة، ولم نستطع تنظيف الأفكار والنصوص. وعلى الرغم من وجود شعراء عظماء، إلا أننا لم نجعل من الشعر والمسرح إرثاً تراكمياً حتى وصلنا إلى العمل التجاري الاستهلاكي. ? وهل للمسرح من عودة؟ ? يحتاج المسرح إلى شروط وظروف وتفرغ ومعاهد متخصصة لأن معظم المسارح في لبنان والوطن العربي رديئة. لقد أصبحت الجامعة اللبنانية (سوبرماركت) طائفياً ومذهبياً، لذلك ينبغي إغلاقها لمدّة ثلاث سنوات لإعادة النظر بتركيبتها، والدفع بالكفاءات المتميزة من دون النظر إلى البعد الطائفي، كما ينبغي دعمها مادياً لتظهر إلى الوجود. شاعر التناقضات ? أنت شاعر التناقضات، فهل هذا التناقض حاضر في حياتك الشخصية؟ ? الحياة قائمة على الخطأ والإنسان بحد ذاته خطاء، لأنه الوحيد الذي يتميز بهذه الإنجازات عن جميع الموجودات في الطبيعة؛ فهو الفضاء الذي يعتمد فيه على كل هذه التناقضات ونتيجتها يحدث التطور. كيف نرى؟ ? ما سبب اشتغالك على لغة الجسد في داخل مشروعك الشعري المكتظ بالوجود؟ ? الشعر هو كتابة الجسد وإمبراطورية الحواس، وما بعد الحواس، وما وراءها، وعمقها.. لذلك ليس المهم أن نرى، الأهم كيف نرى، هذه اللغة التي أحاكي بها العالم والعمق البشري. ? لماذا تذهب في كل إصدار جديد إلى ما هو مغاير عن سابقاته.. إلى فضاءات غامضة وخصبة محدداً علاقتك بالوجود؟ ? يضحك (هالشي اللي جاب آخرتي). كان من السهل أن أقلّد نفسي لكنني أفضل أن أقلد الغير ولا أقلد نفسي. كل مفاتيح كتاباتي معي، وتكمن الصعوبة في أن يكون لكل كتاب هوية ومفاتيح جديدة تبنى من خلال المخزون اللغوي والثقافي نفسه لكن عبر كتابته بأساليب مختلفة والانتقال من أسلوب إلى آخر؛ لأن الجسم مشترك، وهنا سرّ التعب ومكمنه، ولهذا السبب أظل وقتاً طويلاً حتى يصدر لي كتاب. ? إذن... هل ثمة جديد؟ ? يوجد لديَّ ستة كتب أتمنى أن تصدر قبل دخولي العملية. أتعجب صدقاً لأن الحياة معجزة. لا يوجد شيء أجمل منها؛ فالبعض يشعرون بمعنى الحب بعد الانفصال عن شريك حياتهم، لذلك كل كتاباتي تأتي من معركة الحياة. ? ما سبب هذا البريق في عينيك؟ ? لأن الحياة أمل، وما أجمل أن يحصل الإنسان على الحد الأدنى من طموحاته.أنا أعيش عزلة كبيرة، حيث قطعت الجذور العائلية - بالمعنى اليومي للميثاق الاجتماعي - لأعيش من الشعر وله، وللبلد. ? ولنفسك أيضاً؟ ? طبعاً، عندما أكتب قصيدة أشعر بمعنى الحياة. ? هل تقصد أنك تشعر بأنك ولدت من جديد؟ ? أكيد... أكيد... أكيد... ما أجمل وأحلى هذه الولادة، (يضحك) ويقول: “في حدا بيولد وهو شايب!”. ? أخيراً، قلت أنك تعيش ولادتين فما هما؟ ? الأولى أعيش ولادة جديدة بعد العملية الجراحية للقلب، والولادة الثانية الأعظم هي الثورات الشبابية في الوطن العربي. أشكر ربي أنني عشت حتى اليوم. نحن في عصر ما قبل الثورات الشبابية التي سوف تؤثر على التلفاز والمسرح والسينما والشعر بطريقة غير مباشرة، حيث خرج هذا المواطن العربي بعد خمسين عاماً من الطغيان لتحل الآن ثورة الثقافة. ? هل الولادة الثانية سوف تتجسد في قصائدك؟ ? نعم، لكنها تحتاج إلى وقت حتى تأتي على مستوى الولادة؛ فهي ليست قصيدة مناسبة بل قصيدة حياة. خفَّة الموتى انه النفير الصامت، المهيب، المخيف لا يدرك خطاه فقط. بل يحرك أيضاً عينيه اللتين تبدوان خاضعتين لهذا الصوت المجهول المصدر... ربما من الوراء، أو من قدام. أو من فوق. أو من أي جدار. وكذلك يداه، اللتان تتحركان بانضباط مهمل، كأنهما تحرسان أشياء أو بؤساً سابقاً أو ربما رمالاً مشوشة: شيء ما يقوده ربما من وراء الكوابيس مايسترو قد يشبه كل شيء ولا يشبه شيئاً. في يده عصا أو حذاء أو بندقية أو لعبة أطفال أو هل يشبهه. ربما هذا ما يشوش أفكاره أو يعذبها. وعميقاً. قاسياً. إذ يمكن أن يتعامل هذا الرجل مع أمور لا يقدر على فهمها ولا عليها ولا احتمالات كثيرة أمامه لكن قد تكون هذه الاستنتاجات خاطئة أو غير دقيقة أو ربما صالحة لحالات أخرى (من يعرف) فلم لا يكون جسمه المتزن (ظاهرياً على الأقل) دلالة على صفاء عميق. بلا جلبة ولا صدى ولا شفقة انهدمت عليه كذلك أنحاء وطقوس، الضواحي والأحياء المكتظة والجنود وسيارات الإسعاف. جبال من الأجسام حطت عليه. فقد كل اتصال بما حوله. صار كتلة غائبة من هذه الكتل الغائبة. حتى عندما راحت تخف هذه الأحمال عنه شيئاًَ فشيئاً تحولت غيوماً عائمة من التبن والقش والروث اجتاحت وجهه وفمه وعينيه وشعره. كأنما خفة الموتى خفة الآخرين الذين يعرفون (أو لا يعرفون) متى يأتون ومتى لا يأتون. متى يحيون ومتى لا يحيون. متى يقتلون ومتى ينقتلون. وعندها احس ببرد في مفاصله. سرى حتى شفتيه فصمته. الصمت البارد. صمت الخجل ربما أو الخوف. وأحس بأن كل ما تداعى عليه من ضواح وأحياء ومدن وأجراس وطيور وأشخاص وتبن وروث يطلع منه هذه المرة على دفعات لمزيد من الألم (إنها من علامات الآخرة... هذه!) من أصابع قدميه التي كأنها سالت في سيرورة ملتبسة وتجوفت ومنخاره الذي اتسع لينزف ما يذكر بالحنين القاطع وما يصنع الأحياء عندما يرزقون، فإلى عموده الفقري الذي استطال ثم قرقع وطرطق بعظامه ولحمه ليتسرب منه ما يذكر بالسير والآخرة والقعود والنوم والمشي على حد الكلام الخطر والسقوف الواطئة: ماذا دخل إليه، ماذا خرج منه. (من علامات الآخر) وماذا ينتظره... من مجموعته: “بلا أثر يذكر”
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©