الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أحمد راشد ثاني.. المباغت

أحمد راشد ثاني.. المباغت
15 مايو 2013 20:21
يفتتح الشاعر الإماراتي الراحل أحمد راشد ثاني (1964 ـ 2012) كتابه المباغت: «لذّة المرض ـ سيرة المستشفى»، الصادر مؤخراً عن مشروع للنشر، جمع منشورات وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع إلى اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، بالأبيات الآتية لأبي العلاء المعرّي: لا تفرَحــنّ بفــألٍ، إنْ ســـمعتَ بـه؛ ولا تَطَيّـــــرْ، إذا مـا ناعِـــبٌ نعبـــــا فالخطـبُ أفظـعُ مـن ســرّاءَ تأمُلها؛ والأمــرُ أيســرُ مـن أن تُضْمِـرَ الرُّعُبــا وما الغواني الغوادي، في ملاعِبها، إلاّ خيــالاتُ وقــتٍ، أشــبهتْ لُعَبــا زيـادَةُ الجِسـمِ عَنّــتْ جســمَ حاملـه إلــى التّــرابِ، وزادت حافـــراً تَعَبــا هكذا وبدءاً من اللحظة الأولى التي يمسك فيها المرء الكتاب سواء بقصد قراءته أم لتقليب صفحاته فحسب، يصاب بمسحة الأسى التي سوف تطبع الكتاب بطابعها منذ ما قبل الشروع في القراءة. أيضا، وما إن يدخل بقارئه إلى الكتاب، وكما لو أنها إشارة إلى مدخل إلى غرفة في مستشفى أو على حائط لممر يفضي إلى آخر في مستشفى، يحتاج المرء للتنقل فيه إلى دليل، يكتب أحمد راشد ثاني معرّفاً بنفسه لممرضة يحدثها، وكأنما يخبر القارئ ذاته منذ السطور الأولى: «أنا مريض بالقلب، وإذا ما سئلت عن الأعراض فسأذكر عرضين أو ثلاثة فتركض نحوي الممرضة بالكرسي المتحرك، وما إنْ تضع حول معصم يدي ورقة بالاسم والرقم الصحي حتى تهرول بي نحو السرير، حيث ستعشعش على ظهر يدي إبرة «المغذي» المفتوحة، ويمتلئ صدري ببقع رصد نبضات القلب الزرقاء، ويقتحم أنفي أنبوبا أوكسجين كإطفائيين يكافحان حريقا». بدوره أيضا، يقتحم الشاعر مخيلة قارئه بتوصيف لإجراء طبي يتوقعه من فرط ما تكرر حدوثه معه ليصل به إلى تلك المنطقة من الذات شديدة الذاتية والخصوصية، حيث حيث ذلك الأثر العميق في النفس الذي يُحدثه هذا الإجراء الطبي، وهو أثر لا يفضي بصاحبه، ومن ثَمَّ بقارئه، إلى كآبة بل الإحساس بأن المرء يقف على حافة جُرف من بعده الهاوية، حيث من المرجّح أنْ يقع فيها وإلى الأبد بعد ثانية واحدة أو أقلّ من وقوفه العسير ذاك ومغادرة المستشفى محاطا بجمهور جنازة أو دونه أو يمكنه العودة من هناك، بمعجزة أو من دونها، مولوداً من جديد. إنها كتابة من النوع الخَطِر؛ كتابة على حافة الجُرف وفي اللحظة الفصل، حيث تتداعى على الجسد والمخيلة كل أسباب الرحيل، مثلما تتداعى كل أسباب البقاء. غير أن هذه هي صفة الكتاب إنْ اخترنا التجنيس الأدبي من دون صرامة: التأرجح بين كتابة يوميات غير مؤرخة وتذكر من النوع الحُلُمي الذي لا يخلو من قبس أو إشارة إلى سيرة ذاتية حقيقية، محمولاً على سرد أحداث ووقائع المرض وتاريخ الكاتب معه: «أحداث حافية على الحافة، على الحواف. أحداث كالموت بكل جلاله السحيق، وأحداث كولادة الحياة أو تجددها، بكل ما ينطوي عليه ذلك من دفق مائي مبهج. دفق من الماء الأكثر غبطة وقد نزَّ في قماط الوجود»، وذلك كله من جهة، ثم الشعر من جهة أخرى، بوصفه أكثر مقدرة على اختصار الزمن والقول على المساحات البيضاء لورق الكتابة. في اليوميات يشعر الشاعر بالحسرة كلما افتقد يومه العادي، بكل ما فيه من تفاصيل وبكل ما تنطوي عليه هذه التفاصيل من ضحك وسخرية وتحايا أو أحاديث عابرة ولقاءات مصادفة وهواتف غير متوقعة وثرثرة عادية ومزاح ونكات يصنعها هو من مفارقات المواقف أو اللغة، كأنما يحتال على الصباحات كي تمرّ فيكون قد تمّ ترتيب كل شيء للقاء الظهيرة: مخطوط لإعادة النظر فيه وآخر للتدقيق وربما كتاب قد صدر حديثا، وطاولة نائية كي يذهب عميقا في الشعر. هذه كلها تعصف بالذاكرة والوجدان وتهب من الجهات جميعاً مع هذا الاعتقال رهن السرير والفضاء الأبيض الذي يحيط به في المستشفى: «خاتم ظهيرتك في إصبع الشمس، ظهيرتك القوية التي تشعُّ من جسدك، ظهيرة بصيرتك القصوى ..... ظهيرتك الكبرى، التي تجمع الضوء خلف فلول حطامك، وترفع الحضور كبيرق للخسارة، وتحتفل بالجسد كعرّاف باخوسي يتيم. ظهيرتك العظمى، التي مشت برفقة نيتشه في غابة الماء، وصنعت حجر الفلاسفة من الأحشاء، وغنَّتْ كطيْرٍ قديم جفَّ على واجهة المعبد». ومن الواضح، أن الكتابة كانت متصلة في البدء من الظهيرات إلى المساءات، عبر شيء ما يشبه اعتراف الذات لذاتها أو ما يكاد يكون كذلك، إنما بنزعة شعرية محمولة على جناح التأمل في السرد وفي التفاصيل. وأغلب الظن هنا أن الشعر اختزال لمشهد مسرحي حلمي من ثلاث شخصيات صامتة: أحمد الواهن، الرقيق، والضعيف بكل شرطه الإنساني، والعمر الذي قضاه على وجه هذه الدنيا، ثم الموت الذي قد لا يمنح وقتا كافيا للانتهاء مما يريد قوله أحمد لذلك فهو يقوله بشعريته دفعة واحدة، إذ أن الموت قريب و»يبتسم» في لحظة حرجة ومتعِبة يصفها أحمد بالقول: «لحظة من اللحظات التي يحضر فيها الموت حلقة النقاش». غير أن شرط العزلة هذا ينكسر، أي أن يكون المرء وحيدا في غرفة عناية مركزة ولديه من الفراغ ما يملأه بالكتابة حين يذهب إلى غرفة أخرى وفيها شخص آخر وقد رُبط إلى قَدَرٍ حتمي من الأنابيب والإبر وجهاز لا يكف عن إصدار صوت ذي طنين متواصل في أعلاه ضوء أحمر يشتعل وينطفئ على إيقاع ذلك الطنين. هنا ينتزع احمد شرط كتابته الخاص بوصف ذلك بوابة للخروج من الضجر إلى عالم أكثر رحابة، فيبدأ بمراقبة سلوكين اجتماعيين: زوّار المرضى، خاصة من النساء، ثم سلوك الطاقم التمريضي الذي يتوزع بين الروتين في العمل والواجب في أداء المهام، وهنا يبدو أحمد مستكيناً أمام صرامة القانون التمريضي لكنه ينتقد القسوة التي يمارسها هذا الطاقم باعتيادية مفرطة. لكن هذا الأمر لا يستغرق سوى بضع صفحات فيسترد الشاعر بعد ذلك تأمله في ذاته، معيداً النظر في ماضي هذه الذات وشغفها بالحياة، وبـ:»إشعال أعواد الكبريت في غرف الدم، وانتظار الصباح كعاهرة أكلت وجهها المساحيق». وهذا التأمل في صفحات أخرى يتخذ شكلا آخر: سيرة المرض، منذ اكتشافه وذلك الإحساس بالحياد تجاه ملازمته له كرفيق كان ضالاً فهدى ما تبقى من عمر قصير، حيث المرض بالقلب قرين الموت بوصفه فكرة، فيخوض أحمد حديثا طويلاً مع الذات لا يخلو من «التنكيت والتبكيت» ومن السخرية من كل شيء أيضاً. لنَرَ، كيف يختزل أحمد هذه الحوارية مع الذات شعرياً: «لطالما دفعت قواربك الورقية ما بين نباتات المستنقع السامة، ومشيت على ركبتيك في الأحواض الجافّة، وذاقت أصابعك جروحَ الكؤوس المهشّمة. لا، ليست المرّة الأولى التي تتسلق فيها ذاك الجبل، فلطالما تساقطت نظراتك من ذلك العلوّ، وتدحرجت أفكار جسدك على الصخور المسننة، وأنزلتك أجنحة أحلام اليقظة عن كثبان الرغبة، تُشعل النار التي تقود الضباع إلى زريبة مخاوفك، وتملأ أواني العطش بعرق لهفاتك.» غير أن هذه الذات، في التماعات قليلة وفي غير مطرح من مطارح الكلام في السرد، يقسو عليها أحمد كثيراً، خاصة في لحظات الضعف الإنساني والوهن الجسدي والإحساس بألم آخر ربما هو ألم الرعب من ذلك القادم المجهول ـ المعلوم ويبتسم. بهذا المعنى فهذا الكتاب: «عزلة المرض» نتاج عزلة قسرية لم يكن من الممكن التعايش معها ومع أسبابها أيضاً، إلا بالكتابة ولم يكن من الممكن السيطرة وترويضها إلا بتفكيكها وإعادة تأثيثها من جديد بكل تضاريسها وحيثياتها. هو أيضا كتاب «وداعية ما» من نوع خاص من فرط الإحساس باقتراب النهاية، كما لو أنه توقيع الشاعر على آخر صفحة في أجَل يخصّه. ربما من هنا فلعل الفصول الثلاثة الأخيرة: موعد مع العصافير، وليل الحديقة، وحانة الليل، من أروع فصول الكتاب وأجملها وأكثرها شفافية وإنسانية وأعمقها تأثيراً. إنها فصول كي تُقرأ فحسب لا كي يُكتب عنها. ومن هنا، فإن الكتاب، لجهة موضوعه، نادر في الثقافة العربية، وربما أن كتابته على هذا النحو من المكاشفة العميقة للذات، بوصفها ارتطاماً وجودياً مدوياً بين رغبات ومخاوف يحتاج إلى جرأة عالية تليق بالكبار من الكتّاب الذين أفسحوا لأنفسهم المجال للكتابة عن كونهم بشراً بإنسانية باهظة ونبيلة معاً لا تليق إلا بفرسان حقيقيين. يختم زحمد راشد ثاني الكتاب بهذه الوداعية: «الاهتزاز يبحث عن إيقاع والإيقاع يبحث عن اهتزاز، وحين وُضِعتْ المسافات في الجيب، واتفقت المرايا مع النوافذ، والأبواب مع الموسيقى، وجدوا المصاعد توصلهم إلى الفجر، حاملين أنفسهم إلى السباحة في ماء الأسرّة، متفتحةٌ أجسادهم وكأنها قبور عادت من الموت، الآن سيحدث الخلود وتمتزج السماء بالبحر، والجسد بالروح، والرغبة بالنفض، وتلك الخلجات المتضاربة والمتصادمة حتى ينكسر النبع، ويمتلئ الحجر بنبيذ الهواء. تصبحون على خير أيها السعداء، المملوءون حتى البهجة بماء الأبد، النائمون الآن كأمواج في المحيط.» ??? «ولكن لكل حقيقة مجازاً».. هذا ما يقوله أحمد راشد ثاني إلى ذاته عن حياته التي مرّت كسيف لمع في العتمة لمرة واحدة ثم لم يعد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©