الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرسوخ التاريخي مواجهاً التزييف

الرسوخ التاريخي مواجهاً التزييف
18 مايو 2011 20:12
عنوان لافت هذا الذي يمنحه القاص الفلسطيني محمود شقير لكتابه الجديد عن القدس، لافت لأنه يريد للمدينة أن “تقول” ما يرغب في قوله، ومن الخطأ القول إن شقير يكتب “عن القدس”، فهو يكتب المدينة أو يكتب من داخلها وليس عنها، يكتب وهو في حال انصهار واندماج وذوبان مع المدينة، بل هو في حالة عشق صوفي، فهي كما يكتب في التمهيد الأول “حاضنة الروح ومهد الطفولة والشباب”، ويختم “لها المجد والحرية والخلاص”. كتاب شقير “قالت لنا القدس” الصادر مؤخراً ضمن منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله، وبحسب من تابع مسيرة هذا الكاتب الفذ، محطة في مسيرته. ومع كتاب “قالت لنا القدس” لست بصدد مراجعة تقليدية، بل سأحاول تقديم قراءة لتلخيص ما تبقى من الكتاب بعد الانتهاء من قراءته، والتقاط الجوهر الذي يذهب إليه الكاتب بمشاعره الحارة وتجربته المعمقة في هذه المدينة ومعها. فهو رغم “شتاته” - كونه كما يبدو لم يكتب ككتاب متكامل - ينبثق من روح كاتب يمتلك روح المدينة. التأملي والعابر مع كتاب شقير والقدس نحن حيال أنساق من الكتابة اليومية العابرة والتأملية العميقة، كتابة تجمع الثقافي (الأدبي والفني والفكري) والاجتماعي والسياسي (الوطني والحزبي) والاقتصادي، كما تجمع الراهن والتاريخي في جملة مستطردة ترصد أدق الوقائع والتفاصيل الشخصية والجماعية، تفاصيل تتعلق باليوميات حينا وبالشهادات حينا آخر. وهو بذلك يرسم صورا للمدينة تمتد إلى خمسة آلاف عام، وتصل إلى آخر جولة يقوم بها المؤلف في شوارع القدس وحواريها ومطاعمها ومقاهيها ومكتباتها ومراكزها الثقافية ومسارحها ودور السينما فيها. وفي وصفه لاحيائها يبدو الكلام كما لو أنه عدسة كاميرا تنقل تفاصيل الحركة واللون والرائحة، يقول تحت عنوان “حيّ البستان”: “ذهبت إلى حيّ البستان، خرجت من باب الأسباط، سارت في الشارع النازل نحو كنيسة الجثمانية، وقبل الوصول إلى الكنيسة انعطفت نحو اليمين وسارت بمحاذاة سور المدينة. وصلت إلى الحيّ المهدد بالاقتلاع. وجدت الرجال متجمهرين بالقرب من أحد البيوت. هنا شابٌ قتله أحد المستوطنين. دخلت البيت الغاصّ بنسوة باكيات. رأت وجه الشابِّ ومن حوله تتجمع النساء. عيناه مغمضتان ووجهه هادئ كما لو أنه نائم. قالت لها إحدى النساء وهي تشير إلى شابة باكية: تلك زوجته. طفلها يلتصق بها ويقبض على طرف فستانها وينظر نحو أبيه ببراءة تجرح جسد الهواء. اقتربت من الزوجة، سلّمت عليها وقدّمت لها التعازي. سألها الطفل: لماذا جئت إلينا؟ قالت وهي تضع كفّها على رأسه: جئت لكي أراك. قبّلت خدّيه وسألته: هل تعرف ماذا جرى هذا الصباح؟ أعرف، طخّوا أبي. ثمّ انفلتَ مبتعداً. ظلّت تتابعه بعينيها، ولم تفارقها صورة وجهه لأيّام”. القدس هنا منصة ثقافية ينطلق منها كاتب يعتبر أنه من دون القدس ما كان له أن يكون كاتبا، وهو ينطلق منها نحو العالم بأكثر من معنى، فمن جهة ثمة الانطلاق من قريته على طرف القدس نحو قلب المدينة ومعالمها، ومن جهة ثانية ثمة إبعاد إلى المنفى العربي (بيروت وعمّان) والغربي في براغ، ومن الجهة الثالثة هناك خروج وأسفار إلى عواصم العالم التي انفتحت أمام الكاتب واستضافته في مهرجانات وترجمات لكتاباته إلى لغات عدة. الأكثر ذكرا والأشد حضورا في الكتاب، منذ بدايته، هو الكاتب والمربي خليل السكاكيني، فهو يحضر في عدد من مقالات الكتاب، يحضر كاتبا وإنسانا ومناضلا وفاعلا في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية الفلسطينية، يحضر بيومياته التي تقدم “صورة القدس الباعثة على الاهتمام والمثيرة للتأمل، بالنظر إلى ما كانت تمور به من حراك اجتماعي وثقافي طوال النصف الأول من القرن العشرين”. فثمة الكثير من الإعجاب بشخصية السكاكيني ومشروعه الثقافي والإنساني والاجتماعي المبكر. لكن شقير يستدعي هنا أيضا الكثير من التجارب الفنية، التشكيلية والمسرحية (خصوصا فرانسوا أبو سالم). وينظر بقلق إلى مستقبل المدينة. مدينة محمود شقير هذه مدينة “ثقيلة”، وشديدة العمق، وكثيرة الأبعاد والمستويات، مدينة ذات طابع عمراني مميز، وتنوع ديني واجتماعي وثقافي، وتسامح وانفتاح على الحياة. مدينة يتناولها المؤلف في زمنين مختلفين، فيبرز حجم التحولات التي طرأت على المدينة التي جرى إبعاد الكاتب عنها ثمانية عشر عاما (1975- 1993)، تحولات تستحوذ على حيز مهم من الكتاب، تحولات في اتجاهات مختلفة. تزييف المكان التحول الأبرز هو أثر الاحتلال الصهيوني وما أجراه من تغييرات وتخريب لطمس هويتها العربية الإسلامية، ومنحها الهوية الإسرائيلية في ظل غياب الأدلة على الهوية اليهودية. والتحول الثاني هو ما يسميه شقير “ترييف” المدينة، وهذا الغزو الريفي ذو قيم وأخلاقيات مختلفة عما عرفته المدينة مطولا. وإذا كان أثر الاحتلال مفهوما، فإن غير المفهوم هو أثر انتفاضتين (1987و 2000) في تراجع المشهد الثقافي والتقدمي عن المدينة. ونتساءل، مع ما يعرضه شقير من مشاهد التحول والتراجع، ما إذا كانت الانتفاضة سببا في هذا التراجع كما يبدو في سلوك الجماعات الدينية المتطرفة، وهو ما تناوله عدد من الكتاب، وبدا واضحا في بعض روايات الكاتبة سحر خليفة. جولات الكاتب في أحياء المدينة، وتنقلاته بين معالمها، تصنع فيلماً بطله المدينة ككل عموماً، والمدينة عبر الكثير من تفاصيلها، أسوار القدس وبواباتها هي الإطار العام، لكنها الإطار التاريخي الذي يشكل جزءاً من هوية المدينة القديمة، على النقيض من السور المتجهم الذي أقامته الدولة العبرية ليجسد أقسى أشكال العنصرية في العالم. داخل هذا الإطار تتداخل التفاصيل الصغيرة، البيوت القديمة بنوافذها التي يرسمها الكاتب رسماً دقيقاً، مع تقديم قراءة في جماليات هذه الشبابيك ووظائفها الاجتماعية والصحية بصورة خاصة. شرقية وغربية لا يجوز أن نمر في القدس دون أن نلتفت إلى وجود قدسين، شرقية تذوي وغربية تزدهر. فالشرقية تعيش “حالة من تبديد هويتها الثقافية الأصلية”، حيث “تتكاثر الخطط الإسرائيلية التي تستهدف عزلها عن محيطها لتهويدها ولإغراقها في بحر من الاستيطان، ويذوي الحضور العربي الفلسطيني في المدينة جراء الحصار وخطط التهويد”. وهكذا يفقد الفلسطيني هويته ويغدو في حال من الضياع، كما يرى شقير. يقول شقير تحت عنوان “مطر آذار”: “ذهبت إلى حيّ الشيخ جرّاح. خرجت من باب العامود وذهبت إلى هناك مشيّاً على قدميها. سارت بمحاذاة سكة القطار الخفيف. ثمّة على يمينها فنادق وبنايات تنشأ في المكان الذي كان يفصل القدس الشرقيّة عن القدس الغربية، والطقس بارد بعض الشيء، ومطر آذار يسقط على الرؤوس دون استئذان. قالت لنفسها: ليتني أحضرت مظلّتي معي. وصلت المكان المقصود. رأت قرب البيوت التي استولى عليها المستوطنون حشداً من الناس: هم فلسطينيون ومتضامنون إسرائيليون وأجانب من مختلف الجنسيات. ألقيت خطابات ورفعت شعارات، ورجال الشرطة بالأسلحة والهراوات يقفون للجميع بالمرصاد. شعرت بالأسى. فثمة عائلات تعيش الآن في خيام مؤقتة لا تقي من البرد والمطر. وهي لم تتزحزح من موقعها، ومطر آذار ظلّ يهمي حتى آخر النهار، وهي لامت نفسها لأنها لم تحضر مظلتها معها في مثل هذا الطقس الخوّان”. إلى ذلك يشير شقير إلى الفارق الشاسع بين الاهتمام العربي بمدينة القدس من جانب والاهتمام الإسرائيلي بها، ويمتد هذا الاهتمام إلى الكتاب العرب والإسرائيليين، حيث إن كتاب الإسرائيلي عاموس إيلون “القدس مدينة مرايا” يسعى جاهداً إلى تكريس القدس بوصفها مدينة يهودية، و”هو لا ينسى بين الحين والآخر أن يمر مروراً سريعاً على الحضور العربي الممتد فيها ماضياً وحاضراً من باب التظاهر بالموضوعية والإنصاف”. جهود ثقافية ويتوقف شقير عند عدد من الجهود الثقافية العربية التي اهتمت بمدينة القدس، ومنها كتابات توثيقية وأخرى تأريخية وبعضها صحافي يتناول الحياة اليومية في المدينة، وينوه شقير ببعض الأنشطة الفنية التي شهدتها المدينة مثل العرض المسرحي “الجدارية” التي أعدها للمسرح الممثل خليفة ناطور وأخرجها أمير الزعبي، وعروض فيلم “الجنة الآن” للمخرج هاني أبو أسعد وكذلك فيلمه “القدس في يوم آخر”، وفيلم “يد إلهية” للمخرج إيليا سلمان، وبعض الأفلام الوثائقية، وهناك مساهمة مهمة للفنان مصطفى الكرد الذي قدم عدداً من الأغاني المكرسة للقدس. ويؤكد شقير أهمية الثقافة في صيانة الهوية الفلسطينية المنفتحة على بعديها العربي والإنساني، وفي صقل هذه الهوية وتطويرها وتمكينها من الصمود في وجه الأخطار، ولما للثقافة من دور في حفظ هوية المكان، وتعزيز الارتباط به وتعزيز الأواصر التي لا يستطيع محوها أو زعزعتها أي عدوان. ويقول في عبارات أخيرة عن القدس “الآن، وبعد خمسين سنة من العيش على تخوم المدينة، وبعد كل هذه الكتابات القصصية والنصوص التي تناولت فيها المدينة على هذا النحو أو ذاك، أدخل البلدة القديمة التي هي مركز المدينة المقدسة، أدخلها وأتجول في أسواقها وأزقتها وأحيائها، وأضع تحت الضوء نماذج من أهل المدينة، من رجالها ونسائها وشبابها وشاباتها”. ويختم أنها “مدينة لا تستنفدها الكتابة، لأنها لا تشبه أية مدينة أخرى في العالم، ولا تشبهها أي مدينة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©