الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثلاثة فنانين وحقيقة واحدة

ثلاثة فنانين وحقيقة واحدة
18 مايو 2011 20:13
ربما أكون الأخير من بين المتسائلين وهم يستفسرون في دهشة قائلين هل هناك حقيقة في الفن؟ لا أظن أن ثمة كاتباً يفترض وجود حقيقة في الفن، إذ أعذب الفن (الشعر) أكذبه، وهذا ينطبق على كل الفنون، إذ لا صدق في المسرح “أبي الفنون”، فكيف إذاً بالأبناء والأحفاد، هل هي فكرة فيها من الطرافة ما يمكن أن نتصور المسرح كونه أباً لا صدق فيه وبالتالي لا يحفل الأبناء الشعر والقصة والفن التشكيلي بالصدق خالصاً؟. وقد يرد قارئ هنا بسؤال هو أيضا، فما دمت لا تفترض الصدق في الفنون كيف لنا أن نفسر الأعمال الواقعية، أليست واقعيتها هي الحقيقة “الصدق” بعينه؟ حين نستعرض ما قاله أحد أهم البنيويين وهو ياكوبسن عندما سُئل عن تلخص نص قصصي قال: لابد حين نلخص نصاً أن نأتي بالنص نفسه، أي لا استعراض إلا وهو تشويه لذلك النص، ولا حقيقة إلا بكينونة ذاك النص، إذ هي حقيقة النص لا حقيقة مطابقته للواقع، ومثالنا على ذلك ما نجده في أعمال أبي الواقعية الكلاسيكية مكسيم غوركي الذي كان يبني شخوصاً واقعيين ولكنهم من الخيال، حسناً، جميعنا يتذكر “السيد أحمد عبدالجواد” رجل الثلاثية المحفوظية الشهير والذي بناه نجيب محفوظ كشخصية خيالية من ورق، غير أننا نتعامل معه بوصفه حقيقة الحقائق وهو الذي لا أصل له، هنا تكمن علة الكذب الصادق والصدق الكاذب، وكأننا نسأل مع الكاتب عن ماذا تريدون صدقاً كاذباً أم كذباً صادقاً؟، فنجيب: نريد الحقيقة، سواء أكانت صادقة أو كاذبة لأننا نفترض ألا حقيقة إلا صادقة سواء جاءت من عالم الكذب أو مطابقة لعالم الصدق. كذب امرؤ القيس بمغامراته العذبة، وارتضينا كذبته، وكذب رواة ألف ليلة ليلة عن النجائب التي سارت فوق السحاب وصدقنا كذبتهم، وكأننا نحن المتلقين الذين نمنح النص صدقه، شرعيته، بافتراض أننا نؤمن ألا حقيقة في الفن، إذ هو بحث متدهور عن الحقيقة. قادني إلى ذلك كله مسمى لمعرض افتتح أمس الأول في جاليري سلوى زيدان بأبوظبي حمل عنوان “الحقيقة” واشترك فيه ثلاثة فنانين تشكيليين معاصرين هم الإماراتية فاطمة المزروعي والعراقي نديم كوفي والإيراني البريطاني كورش صافي. الرموز والعلاقات هم فنانون يقتربون الى حد بعيد من عوالم البعض، حتى لنجد تداخلاً في تلك العوالم إلا أنهم يحاولون هنا الاقتراب من الحقيقة ومقاربتها، عن طريق الرموز والعلامات العاكسة لتاريخ الإمارات والدول المجاورة كما نجد ذلك في اعمال فاطمة المزروعي حينما تحاول ان تتلاعب بالحروفية العربية لتخلق منها موضوعاً لا يقتصر على حركة الحرف، بل يتعداها الى فضاء أرضية اللوحة. في لوحتها “القرآن كتابي” من الاكرليك والماكس ميديا على الخشب 165X112 سم ونفذت في عام 2010 نجد فاطمة المزروعي لا تريد أن تقدم براعة في الخط، بل تريد تكوين البراعة في الانسجام ما بين الأزرق السمائي للحروف على الأحمر الشفقي لأرضية اللوحة، مع اخضرار فاتح لحلية اللوحة المستطيلة كعقد اللؤلؤ والتي احتوت مستطيلاتها على آيات قرآنية تحيط بالقرآن الذي انتمى للفنانة في لفظة “القرآن كتابي”. كذلك في لوحتها “Islamic art” من الاكرليك على الخشب بغطاء من الكانفاس وبمساحة 120X168 سم ونفذت في عام 2011 نجد هذا التمازج والاختلاف بين لون الحرف وأرضية اللوحة التي لم تترك فارغة، بل تحدثت بما تحمل هي أيضاً، تحدث بما كتب عليها من نصوص قرآنية موازية. وتحاول فاطمة المزروعي أن تقدم رؤية مختلفة لحركة الحرف اللاتقليدية، حينما تأخذ موضوعة “المرأة في القرآن الكريم” “Woman in Quraan” وهي بحجم 120X120 سم ومنفذة من الكولاج والمكس ميديا والاكرليك على الخشب في عام 2011. دائرة من الذهب وأخرى في مركزها، وكلاهما متوازيتان ونجمة رباعية تخلق أربعة مثلثات حمراء وأربعة مثلثات ذهبية ثم أربعة مثلثات حمراء وأربعة مثلثات ذهبية أقل حجماً وهكذا حتى تصل الى أقصى الحجوم الصغرى عند المركز، لكن الجمال في الهندسة المعمارية في اللوحة أن الآيات القرآنية التي جاءت على ذكر المرأة قد احتلت المثلثات الذهبية أو كتبت بالذهب على المثلثات الحمراء. رحم الدائرة وقد نتساءل ما الدلالة الشكلية في عمل هذه المثلثات التي خلقتها النجمة الرباعية، هل هي دلالة لا معنى لها أم أنها إشارة الى كونية الخلق والانبعاث من رحم الدائرة المركزية في بؤرة اللوحة. في لوحات فاطمة المزروعي الكولاجية، لغة أخرى، لغة مختلفة تأخذ من الموسيقى وتحاور سلاطينها، وفيها من روح الاختلاف في العالم. في لوحة أم كلثوم من الاكرليك والكولاج والماكس ميديا على الخشب والجمفاص بحجم 120X168 سم وقد نفذت عام 2011، كانت هناك تنويعات كثيرة على موضوع واحد وهو سيرة أم كلثوم في الصحافة والحياة وعند الجماهير وعلى المسرح وفي أغلفة اسطواناتها وعلى وجوه آلات العود العربي، أم كلثوم تبحر مع فاطمة المزروعي مع الزمن، مع العمر وتحولاته الغريبة، أم كلثوم شابة، وعلى أعتاب الرحيل، أم كلثوم متأملة، قلقة صارخة بالغناء، هادئة بالتساؤلات، أم كلثوم تاريخ لا يحد من العذابات والفرح والحزن. نوافذ القلوب كذلك في لوحتها “Difference” وهي من الكولاج والاكرليك على الخشب 160X110 سم ونفذت عام 2011، ثمة عالم من النساء المختلفات وكل ذلك يتجلى في العبارات اللاحقة “وما كنت أعلم أنك غبت خلف السنين / تحلق ظلك في كل لفظ وفي كل معنى”.. هو عالم من الوجوه على أرضيات من الاختلاف تعمد فيها فاطمة المزروعي الى التكرار في الحروفية، والوجوه والأرضيات وكأنها تحاول أن تخلق تجانساً من بين هذا الاختلاف نفسه. وكما يبدو أن فاطمة المزروعي تحاول عبر التكرار تأكيد قضية، وأجد ذلك في لوحتها التي تؤكد فيها الرسوخ في نوافذ القلوب وهي التي تضمنت صوراً مكررة للمغفور له الشيخ زايد رحمه الله والمعنونة بـ “شيخ زايد بن سلطان” من الاكرليك والكولاج على الخشب مع الجمفاص بحجم 106X106 سم والتي نفذت عام 2011. عشرون مربعاً و 4 مستطيلات وزع اللون بتجانس ما بين الأبيض والأصفر والأخضر، هي صورة واحدة للمغفور له الشيخ زايد رحمه الله إلا أن تكرارها يزيدها رسوخاً في الذهن والقلب. هذا هو عالم فاطمة المزروعي، الذي تبدو فيه محاولة للتساؤل عن الحقيقة حينما تمزج كل الوسائط بتناغم كلي مع عنصر عربي بامتياز وهو الحروفية العربية، حيث تريد أن ترينا كتاباً عن الشيخ زايد وآخر عن الاختلاف وثالث عن أم كلثوم ورابع عن المرأة في القرآن الكريم . الجسد والظل من جهة أخرى يحاول كورش صالحي أن يقارب الحقيقة والواقع والعالم المحيط بنا من خلال لوحاته الرمزية التي تمتزج فيها وسائط متعددة أيضاً، إنها محاولات لعكس الواقع اليومي من أجل عكس الحقيقة ولكن بمنظار آخر. يشتغل صالحي - كونه أستاذاً في الفنون والهندسة - على مفهوم الجسد والظل وهي في ذلك تقدم الحقيقة وظلها عبر تغييب ملامح الظل في غلالة وهمية، شفافة من الرؤية. في لوحته “Farah 11” من الماكس ميديا على الجمفاص بحجم 91X55 سم ونفذ في عام 2011، قصة امرأة وطفل في إطار من الحب والحياة والديمومة “التفاحة”، الظل هنا طولي، أي شكل أسفل اللوحة بما يعني أن كورش صالحي يخلق لوحة طولية فيها الجسد وظله. في مقابل ذلك يخلق كورش صالحي الظل والجسد عبر الداخل والخارج، ففي لوحته “SAINTS + SINNERS” من الماكس ميديا على الجمفاص بحجم 110X110 سم والتي نفذها في عام 2011، ثمة امرأة وظلها وكلاهما يعكس الآخر طولاً ما بين الخارج والداخل، ورمانة مشطورة نصفين، نصف يظهر الخارج والآخر يظهر الداخل. وكأننا نتساءل مع كورش صالحي أين هي الحقيقة، ومن هو الأقرب إلينا، الجسد أم ظله وهل الظل هو الحقيقة والجسد هو الظل؟ من منهما الأصل ومن هو الصورة؟ هناك الانعكاس الظلي يشي بمجاورة الأسفل للأعلى، وهنا الانعكاس الظلي يشي بمجاورة الظاهر للداخل. وفي لوحة ثالثة نجد الانعكاس الظلي متسلسلاً مع امتداد اللوحة من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، حيث ثلاث نساء كأنهن ظل يتشكل من جسد واحد يوازيه كتابة حروفية متعاقبة مع تعاقب أجساد النساء الماشيات حتى خارج اللوحة التي أطلق عليها “Walk or Right Side” وهي من الماكس ميديا على الجمفاص بحجم 100X119 سم وقد نفذت عام 2011. ويتكرر الأمر في لوحتين لأم كلثوم، وفي لوحه الأخرى بعنوان “Queen of Hearls” وفي لوحة “Farah 17”. بعث الرموز يتحد الظل والجسد عند كورش صالحي، يتحد ظل المرأة بجسدها، وتتحد نصف الرمانة المحبب بنصفها الجلدي، لتبدو في اللوحة المسماة “Not That Sort of Girl” من الماكس ميديا على الجمفاص وبحجم 150X110 سم والتي نفذها عام 2010. لتبدو كأنها أيقونة يتجانس فيها الضوء والظل. في الصورة الفوتوغرافية نجد أن صورنا تمر بمراحل الظل والجسد، إذ لا ملامح للأسود والأبيض وحالما ينبجس اللون نرى الجسد ظاهراً ذلك عبر التكرار الذي يحاول كورش صالحي تكريسه في لوحته “Passport Size” من الماكس ميديا على الجمفاص بحجم 40X40 سم في عام 2010. أما العراقي نديم كوفي فهو المحاولة الدائمة لبعث الرموز وخلق الدلالات ضمن وسائط تعبيرية كالورق المعطر اليدوي الصنع والمخمل والمنسوجات الأخرى، فكل مادة لديه لها قصة تسرد علاقتها بالجوهر المفهومي، في تعارض معه أو تعزيز له. لنأخذ لوحته “بئر” التي نفذها بالزجاج على الجمفاص الأسود وبحجم 110X170 سم في عام 2011، كلمة بئر على مساحة سوداء، ظلمة عميقة يشي بها اللون الأسود وغياهب البئر قاتمة لا قرار لها وثمة إشارة الى أن ما يقبع هناك بئر. البئر والصفر كذلك في لوحته صفر من الماكس ميديا على الجمفاص 110X170 سم في عام 2011 حيث الاصفرار والغياب يتجسدان في اللوحة وكلاهما لحظة انمحاء من الوجود. يحاول نديم كوفي أن يقدم في لوحته “رزق” من الماكس ميديا على الجمفاص 130X130 سم والتي نفذها عام 2008 عالماً رمزياً، نخلات ثلاث بأبعاد متفاوتة، وثمة نخيل متراص على الجبهتين يذهبان بعيداً حتى أعماق اللوحة الداخلية التي رسمت على شكل عملة نقدية، إنه رزق في رزق. ومن الجميل هنا أن نديم كوفي يكتب عنوان اللوحة على جسدها، حيث تحمل اللوحة اسمها معها طوال وجودها. كذلك في لوحته مليون نخلة بـ 180X150 سم والمنفذة عام 2008، نجد كتلة من الأرض تزدحم بنقاط لا متناهية في البعد، هل هي صورة تجسد المبصر الذي جلس على كوكب آخر فينتظر الى هذه البقعة من تلك البقعة البعيدة. ثمة مليون نخلة تحكي قصة حقيقة وجودها. يحاول نديم كوفي أن يلعب على التجريد والتخيل العالي في لوحته “Red moon” حيث القمر الأحمر القاني يندمج بأرضية اللوحة كاشفاً عن فيض جماله الخلاق، وهنا يقدم كوفي 6 لوحات تتعدد فيها ملامح القمر الذي يتبعنا في تنقلات الزمن والحياة والحوادث. وقد نتساءل أخيراً، هل وصل هؤلاء الفنانون الى الحقيقة؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©