السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جدلية الإبداع وراهنيّته

جدلية الإبداع وراهنيّته
18 مايو 2011 20:13
اختتمت الاثنين الماضي، السادس عشر من هذا الشهر، فعاليات الدورة العاشرة لبينالي الشارقة الدولي الذي تقيمه مؤسسة الشارقة للفنون، حيث شهد منذ انطلاقته في السادس عشر من أبريل الماضي 119 مشاركة فنية تنوعت بين المعارض ومجمل الفنون البصرية، والسينما، والموسيقى وعروض الأداء، والمحاضرات والإصدارات، أنجزها فنانون من أكثر من 36 دولة عبر العالم. ليطفئ بذلك الشمعة العشرين على مسيرته التي بدأت العام 1991. بدءاً، فإن هذا البينالي قد أُريدَ له منذ انطلاقته أن يكون دوليا منفتحاً على مختلف التيارات الفنية الراهنة في العالم والحادثة فيه، بكافة مختبراتها وانشغالاتها المعرفية والفنية واتجاهاتها؛ بحيث جرى ترك الباب مفتوحاً ما أمكن لمجمل رياح الأفكار بشتى أنواعها كي تهبّ وتعصف.. بل وأن تثير جدلاً بهذا الاتجاه أو ذاك، وأن تتقاطع أو تختلف مع ما هو سائد ومطروح ليس على الساحة التشكيلية الإماراتية وحدها بل والعربية أيضاً، وبحدّ أدنى من الرقابة على الأعمال الفنية، وبما لا يجرح قناعات الآخرين في ما يتصل بالأفكار الأساسية والكبرى التي يؤمنون بها. كل ذلك في سياق من محاولة خلق نوع من التواصل بين العمل الفني - الذي غالباً ما تمّ إنجازه على نحو يتلاءم مع الفضاءات الحرّة والمفتوحة في مدينة الشارقة ومع الإنسان الذي يعيش فيها، أي مع العمران، وفقاً للتعبير الخلدوني - وما ينطوي عليه من تفاعل من ناحية تشكيلية وتقنية محضة مع الفضاءات ومع الإنسان، وما تطرحه عليه هذه الأعمال من أفكار وخيالات وقد تجسدت في عمل فني قد يكون عسيرا على القبول من وجهة نظر تقليدية تجاه الفنون غالبا، وغير مطلعة على ما تطرحه مجمل التطورات في عالم الفنون التشكيلية البصرية اليوم من أسئلة على الأفراد بحدّ ذواتهم المفردة وليس عليهم كمجموع يقيس العمل الفني تبعا للفائدة المباشرة منه، هذه الفائدة التي لا تتجاوز لدى البعض مقدرة العمل الفني على التحريض تجاه “قضية” أو “مسألة” ما معروفة ومحددة سلفا ولا تقبل أي تعديل أو انحراف على مستوى الرؤية أو الشكل. «انحرافات» جمالية هذه الإشكالية بالضرورة هي إشكالية معرفية وجمالية مزمنة إلى حدّ أن البعض من منتجي الأفكار حول الفنون من فلاسفة ومثقفين لا يرون العمل الفني بعيدا عن أزمته هذه.. بل إنه يعتاش عليها؛ لجهة أنها تغذي النقاش حوله باستمرار وتعيد إنتاج وطرح الأسئلة الجوهرية التي يتم طرحها في كل العصور والأزمنة، ومدى ما يُجريه الفن من “انحرافات” جمالية خارج سياق ما هو مطروح وسائد وراسخ، ومدى مقدرة العمل الفني الجديد والمتجدد على فرض ما هو مغاير عبر منجز فني يجاوره منجز نقدي في سياق من التطور الاجتماعي – التاريخي، وبحيث أن هذه “الانحرافات” الجمالية أيضا التي هي ابنة زمنها قادرة على البقاء وغير قابلة للنسخ من قِبَل ما هو قادم من رحم المستقبل أيضا، الأمر الذي يجعل الفنون البصرية على درجة من التواصل المستمر مع العمران وأهله في كل عصر وبتجاور بين ما هو مختلف ومتعدد ومؤتلف ومتنافر. أي باختصار بما يمنحنا نحن كبشر المقدرة على عيش حياتنا بكل تفاصيلها بوصفنا قادرين على العيش وليس على شبه العيش. لكنْ يبدو أن النجاحات التي من الممكن أن تتحقق غالباً ما تكون نسبية، بل هي نسبية جدا في مجتمعاتنا العربية إجمالاً، إذ ما زال من غير الممكن أن نخوض حوارا حول الفن وجدواه ودوره و”الجميل” فيه الذي يحفّز “الجميل” فينا عبر الإمكانية الكامنة في قلب معناه على جعل حياتنا محتملة أو أكثر طراوة، ونتنفس فيها أكسجينا نقيّا دون مخاوف من “شطط” الفنان أو القارئ للفن أو الذي يسعى إلى تأويله تبعا لقناعات ورؤى مختلفة. غير أن أسباب ذلك كله تتدفق كنهر يهبط جبلا إلى واد بحيث لم يعد من الممكن أن تتريث. إنها أسباب أيضا تندرج في باب المعلوم – المجهول الذي نخشى أحيانا كشف الغطاء عنه لأسباب معلومة – مجهولة بدورها. غير أن إدارة البينالي بإقامتها العديد من ورشات العمل الفنية التي تحاول أن تقيم حوارا من نوع ما بين المتلقي العادي، طالبا ومهتما وموظفا مواطنا ومقيما، وبين الأعمال الفنية المعروضة في البينالي كأنما هي تذهب مباشرة إلى الحلّ دون أنْ تطرح المشكلة؛ حيث كان ذلك مسبوقاً بالتركيز على جملة من الأفكار التي من الممكن وصفها بأنها تستجيب للأحداث التي تشهدها المنطقة العربية. التعويل على التأويل والحال أن الأعمال التي كانت في أغلبها مفاهيمية وخارج نطاق ما هو معهود من الأعمال الفنية التي تقتصر في أذهاننا على اللوحة المسندية أو التمثال بكافة أنواعهما وتجلياتهما. وقد استفادت، على المستوى التقني والتعبيري، من ما تتيحه التقنية على المستوى البصري إلى حدّ بلوغها اللا متخيل واللا متوقع قد استجابت لهذه الأحداث، إنْ بشكل أو بآخر، إنما ليس على نحو مباشر بوصفها ردّ فعل صريح إنما عبر التأويل وإعادة القراءة، وخصوصا العربية منها. أي أن العمل الفني هنا، بتقديمه لأفكار منطقية وتقدمية، لم يكن من السهل تناوله بالتأويل أو بغيره إلا في حال إدراك قارئه للطبيعة التقنية للعمل، أي الأسلوبية التي نُفِّذَ بها، ولطبيعة المادة الخام التي تمت معالجتها بحيث تعطي الفنان شكلا لفكرته وإحساسه بالعالم وما يحيط به، وما تمنحه للناظر إلى العمل من كشفَ عن إمكاناته التعبيرية والجمالية التي تجعل منه منسجما مع البيئة والمحيط اللذين يوجد بهما عبر إعادة اكتشافه من جديد مع كل قارئ له. وبالتأكيد، فالمسألة شديدة النسبية ليس لأن أي تفاعل أو إدراك فني لحدث ما وبالتالي التعبير عنه فنيا وتخييليا من العسير أن يواتي الفنان مباشرة سواء انتهى الحدث وتكشفت نتائجه أم أنه ما زال نابضا وحيّا، بل أيضا لأن الكثير من الفنانين لم يكن قادرا على استيعاب ما يجري حوله بدقة ودون تخبط، حاله في ذلك حال أي مثقف عربي بل أي محلل سياسي استراتيجي عربي كذلك، فكيف لنا، وهذه هي الحال، أن نتصوّر رد فعل المواطن العادي بثقافته الفنية المحدودة على عمل من هذا الطراز. إنما من جهة أخرى، فإن ربط نجاح أي عمل فني بحدث ما راهن بات أمراً مشكوكاً في حدوثه مباشرة إن لم يستجب في تعبيريته إلى أحاسيس وغرائز عامة لا تتجه للفرد بل إلى المجموع ولا تحتفظ من العمل الفني إلا بفكرة الشعار أو الملصق الدعائي أو الاشهاري بالأحرى. هذا ما حدث بالفعل مع أغلب ما أُنتج من أعمال فنية عربية خلال الفترة ما بين منتصف الستينات من القرن الماضي وحتى منتصف السبعينات منه حيث لا رصيد منه لنا الآن سوى عدد من الفنانين وعدد اكبر من الأعمال على مستوى عربي. وجملة القول، وباختزال وتكثيف شديدين، إن ربط العمل الفني وإنتاجه بحدث هو أمر لا يعوَّل عليه كثيرا سواء لجهة إنتاج العمل ذاته أو لجهة تلقيه دون ضغوطات لراهن غير مترسب بكل كيميائه في قعر اللا وعي العام ككل ثم لا وعي الفنان وكذلك الفرد في لحظتي الإنتاج والتلقي. شروط الراهن إنه أمر شديد الصعوبة والإرباك بالفعل، فما فعله فتية تونس ومصر أربك سياسات وخطط ومشاريع على كل مستويات الحياة اليومية العربية، ومن الواضح أنه سيبقى يترك هذا الأثر في المستقبل المنظور وغير المنظور. ربما من هنا تبرز هذه الحيْرة في التخطيط لما هو ثقافي إجمالا وليس فني فحسب، إذ أنه من جهة غير قادر على أن يدير ظهره لما يحدث ويتصرف فيبدو كما لو أنه في برج عاجي، ومن جهة أخرى لا يستطيع أن يتفادى أخطاء وزلّات الاستجابة الآنية والعجولة لما هو مباغت ويجعل المرء يعيد النظر في كل ما حوله. الأرجح أن إدارة المهرجان، وحتى القيِّمين الذين اختاروا الأعمال وفقاً لأفكار وثيمات وطروحات ووجهات نظر بعينها، كانوا جميعاً في وضع لا يحسدون عليه. لكن اتجاه إدارة البينالي إلى خلق نوع من السياق التفاعلي بين الأعمال والجمهور بمختلف فئاته ليس أمراً جديداً لجهة التفكير به على الأقل، من هنا كانت ورش العمل التي يشرف عليها فنانون مشاركون وغير مشاركين بهدف التجسير بين العمل الفني ومتلقيه؛ وبحيث يكون تقبله من عدمه قد انبنى على أسس معرفية وجمالية واضحة قد تعمِّق من الاختلاف لكنها أيضا تعمّق من التعدد والتنوع، وتجعل من الاعتياد على وجود وجهات نظر أخرى في الحياة والفن والعيش المشترك أمرا طبيعيا وليس نقيصة حضارية تتيح للفنان والباحث عن الجمال وفرة من الحرية التي تمكن كل منهما من التعبير عن ذاته بالطريقة التي تتناسب مع مستوى ثقافته وإدراكه لما يحيط به دون عفوية أو ارتجال، أو بأقل قَدْر منهما. واقع الحال، أن التوقيت الذي أقيم فيه البينالي، بمجمل طروحاته ومقولاته الفكرية التي تأسست على خطابات غير شائعة في الثقافة العربية الراهنة، باستثناء نادر يتمثل في بعض النخب، لم يقدم للبينالي أي تسهيلات من أي نوع في إيصال رسالته الأساسية التي تقوم على التعدد والاختلاف والتنوع في الهويات الثقافية في المنطقة العربية التي كانت تشهد أحداثا جسيمة أيضا، فجاءت الانتفاضات العربية الشبابية لتزيدها إرباكا فوق إرباك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©