الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأزمة الأوروبية بين تبذير الإسبان وحرص الألمان

15 مايو 2013 22:54
مايكل بيتيس أستاذ الاقتصاد بجامعة بكين وباحث بمركز كارنيجي لا شك أن الجميع تنبه إلى الصورة النمطية السائدة هذه الأيام التي تقول إن الألمان يدخرون للمستقبل فيما الإسبان ينفقون كل ما يكسبونه، لذا ليس غريباً أن تنجو ألمانيا من الأزمة المالية الراهنة فيما تعيش إسبانيا أوقاتاً صعبة مع ارتفاع البطالة إلى حوالي 27 في المئة، ولو كان الإسبان أكثر ادخاراً لما شهدنا الأزمة الحالية! والحال أن هذا المنطق يجافي الصواب، ذلك أن أنماط الإنفاق لدى الأسر الإسبانية لا علاقة لها بأزمة اليورو، بل كانت في عمقها رد فعل طبيعي على الاختلالات الناتجة عن الادخار المفرط لألمانيا، والأكثر من ذلك أن هذا الادخار المفرط لم ينجم عن قدرة الألمان على الادخار والتحسب للمستقبل، بل كان نتيجة سياسات أجبرت المدخرات الألمانية على الارتفاع إلى مستويات لم تكن أوروبا قادرة على استيعابها دون التسبب في اختلالات كبيرة. لكن أولا يتعين التفريق هنا بين الادخار الوطني وادخار الأسر، واللذَين غالباً ما يتم الخلط بينهما في حين أنهما مختلفان تماماً. فادخار الأسر هو تلك الحصة من دخل الأسر التي لا تُنفق على الاستهلاك، فيما معدل الادخار الوطني لا يقتصر على الأسر، بل يشمل أيضاً ما تدخره الشركات والحكومات، وهو يعرف ببساطة بأنه الناتج المحلي الإجمالي لبلد ما ناقص الاستهلاك. وبينما تتحكم في معدلات ادخار الأسر عوامل ثقافية وديمغرافية، يتجاوز الادخار الوطني هذه المحددات؛ ففي بلدان مثل الصين وألمانيا تمثل حصة الأسر والأفراد مما ينتجه البلدان من بضائع وخدمات، العامل الرئيسي الذي يحدد معدل الادخار الوطني. وبعبارة أخرى لا علاقة للادخار الوطني بما تقوم به الأسر وبمدى إقبالها على الادخار الفردي، في حين له كل العلاقة مع السياسة العامة للدولة. ولنأخذ مثالا الصين التي تتوافر على أكبر معدل للادخار الوطني على الصعيد العالمي بنسبة 50 في المئة، فالسبب يرجع في جزء منه على الأقل إلى غياب شبكة للضمان الاجتماعي في الصين، ما يدفع الناس لادخار جزء كبير من مداخيلهم. لكن ذلك لا يفسر الفرق بين الدخل الوطني العالي جداً والاستثنائي وادخار الأسر المرتفع (لكنه في حدود المقبول)، ليتضح أن ادخار الأسر في الصين لا يجاري بحال الادخار الوطني، فلماذا إذن يصل الادخار الوطني في الصين إلى هذه المستويات غير المسبوقة؟ السبب هو حصة الصينيين المتواضعة من الناتج المحلي الإجمالي، والذي هو بدوره نتيجة السياسات التي وضعتها بكين على مدى العقدين الماضيين لتحفيز النمو الاقتصادي عبر لجم دخل الأسر. والخلاصة أن معدل الادخار العالي في الصين لا علاقة له بحرص الصينيين واقتصادهم في الإنفاق، بل له علاقة وطيدة بسياسة الدولة التي خفضت حصة الصينيين من الناتج المحلي الإجمالي، والأمر نفسه ينطبق على ألمانيا، فبالعودة إلى تسعينيات القرن الماضي لم تكن ألمانيا تدخر كثيراً، بل عانت من عجز في حسابها الجاري لأكثر من عقد من الزمن ما يعني أنها كانت تستورد رؤوس الأموال لتمويل الاستثمار الداخلي. ولابد من الإشارة إلى أن عجز الحساب الجاري لبلد ما هو الفارق بين الاستثمار والادخار، والألمان في التسعينيات لم يكونوا يدخرون بما يكفي لتمويل الاستثمار. بيد أن هذا العجز الألماني تغير خلال السنتين الأوليين من العقد الماضي، وذلك عقب اتفاق بين الاتحادات العمالية والشركات والحكومة، يقضي بالحد من ارتفاع الأجور، إلى انخفاض حصة الأسر والأفراد من الناتج المحلي الإجمالي، ومعها حصة استهلاك الأسر من دخلها. وبسبب تراجع استهلاك الأسر الألمانية الناجم بدوره عن انخفاض معدل الاستهلاك العام، فإن معدلات الادخار ارتفعت ارتفاعاً تلقائياً. والملاحظة الأساسية هنا أن معدل الادخار في ألمانيا لم يقفز إلى الأعلى بسبب قرار من الأسر الألمانية استعداداً لما ينتظرها من أوقات صعبة خلال أزمة اليورو، بل ارتفع لأن السياسات الحكومية الرامية إلى تجميد الأجور وتقليص البطالة أدت إلى تخفيض حصة الأسر من الناتج المحلي الإجمالي. وعندما انتقلت ألمانيا من العجز إلى الادخار انتقلت أيضاً من عدم وجود ما يكفي من المال للاستثمار الداخلي إلى وجود فائض مالي تسعى لتصديره إلى الخارج وضمان شراء الآخرين لفائض الإنتاج من السلع. وفيما كانت تقوم بذلك ارتفع فائض الحساب الجاري الألماني ليصل إلى 7.5 في المئة بحلول 2007. لكن هذه السياسية الألمانية تسببت في اختلالات أوروبية، حيث أدى تدفق رؤوس الأموال الألمانية على البلدان الأوروبية إلى ارتفاع البطالة في تلك البلدان. فمع تصاعد المدخرات الألمانية، متجاوزة الاستثمارات، كان على ألمانيا تصدير الفارق إلى الخارج، وهو ما قامت به بنوكها من خلال تقديم قروض لإسبانيا، فكان على العالم أن يوازن الفائض الألماني بعجز محلي. وهكذا تحولت إسبانيا التي انضمت إلى منطقة اليورو إلى بلد لتصريف المنتجات الألمانية وفوائضها المالية وغرقت في عجز الميزان التجاري، كما أن الطريقة التي تعاملت بها إسبانيا مع الفوائض الألمانية تقف في قلب الأزمة المالية التي تعيشها أوروبا حالياً. فإسبانيا بسبب قواعد الانضمام إلى اليورو لم تكن قادرة على رفع معدل الفائدة لوقف تدفق الرأسمال الألماني، ولا كانت قادرة على فرض الحواجز التجارية، أو التحكم في سعر الصرف، ولم يكن أمامها من خيار سوى الاستمرار في استيراد الفائض الألماني، وهو ما يعني تنامي الاستثمار الذي وُجه إلى مشروعات غير مجدية، أو أفرط في التركيز على العقار. والخلاصة أن الأزمة الأوروبية لا علاقة لها بالألمان الحريصين، ولا بالإسبان المبذرين، بل بالسياسات الاقتصادية التي تبنتها ألمانيا في وقت سابق لكبح جماح البطالة والتي بدورها رفعت قدرة الألمان على الادخار المفرط واندفاع أوروبا لاستيعابه من خلال الزيادة في الاستثمار والاستهلاك. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©