السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

توصيف سينمائي للجحيم !

توصيف سينمائي للجحيم !
15 أغسطس 2017 21:41
في سياق بصري لاهث ومشمول بالترقّب والفزع، تتداخل فيه الدقات المتواصلة للساعة، والشبيهة بنبضات متسارعة لقلب مرتعب، يتسلل المخرج كريستوفر نولان بكاميرته الملتحمة بالمكان، إلى بؤرة أحداث حربية شائكة، وإلى عين العاصفة، المتمثلة هنا في معركة «دنكيرك» المفصلية مع انطلاق شرارة الحرب العالمية الثانية عام 1940، وتحديداً بين قوات الحلفاء (بريطانيا وفرنسا) وبين قوات ألمانيا النازية. ومن دون التركيز على سمت وقوام ومجاميع العدو النازي، حيث إن الحبكة المكثفة هنا تنبني وتتصاعد وتتشكل على طول الشاطئ الفرنسي «بادو كاليه» المقابل للساحل البريطاني، بوجود 400 ألف جندي ينتظرون الجلاء والخروج من هذا المأزق الجحيمي، فالعدو مهيمن من الخلف في مدن شبحية مهدّمة، والبحر ملغمّ بالطوربيدات والغواصات الألمانية الشرسة، بينما تحتل الطائرات النازية السماء، وتنكّل بالجنود المحشورين في الميناء ومن دون قدرة على المجابهة المتكافئة والتصدّي لكل هذه المفاجآت القاتلة. «دنكيرك» هو الفيلم الأول الذي يعتمد فيه «نولان» ــ الإنجليزي المولد، الأميركي الجنسية ــ على وقائع حقيقية وتاريخية، بعد تقديمه لتسعة أعمال سينمائية لافتة اعتمد فيها على نصوصه وسيناريوهاته المستقلة بدءاً من فيلم «فولووينغ» ــ التالي ــ في العام 1998، ثم فيلم «مميمنتو» ــ تذكار ــ في العام 2000، وصولاً إلى فيلم «إنسومنيا» ــ أرق ــ في العام 2002 وفيلم «بريستيج» ــ حظوة ــ في العام 2006، ثم ثلاثية الفارس الأسود حول شخصية الكوميكس الشهيرة (الرجل الوطواط) والتي نفذها بين الأعوام 2005 و2012، وحتى آخر فيلمين له «إنسيبشن» ــ استهلال ــ في العام 2010 و «انترستيللر» ــ عالق بين النجوم ــ في العام 2014. الانتظار الأبدي كل هذه الأفلام وكل هذه المسيرة الفنية الحافلة استقت أجواءها من جذر فلسفي واجتماعي ونفسي متشعّب، في محاولة لاكتشاف مفاهيم أخلاقية حول الهوية الممزقة، وتأثير الظروف المعاكسة على القيم العليا، وتطور الرؤية البشرية تجاه الوجود والعالم، وهي مفاهيم صاغها نولان في هذه الأفلام بأسلوب إخراجي متفرّد يعمل في حقل تنبؤي وتحليلي أيضاً، ويقوم بشكل أساسي على خلخلة الزمن، واللعب على الخدع والإيهامات القابعة في الأحلام والذاكرة، وصولاً إلى إثراء العلاقة الغامضة والمشوقة بين اللغة البصرية والعناصر السردية. لا يغادر نولان في فيلم (دنكيرك) منطقته السينمائية الأثيرة، رغم الأحداث الحقيقية الموجعة التي لا يمكن القفز عليها، فالتعامل مع الأرشيف المعلوماتي والتوثيقي لتلك المعركة غير المتكافئة إطلاقاً، وضعت نولان أمام تحدٍ مختلف واستثنائي مقارنة بأفلامه السابقة، فلا مجال هنا لابتكار خيالات مفترضة، أو استشراف المستقبل وإقحام الشخصيات الرئيسية في عالم هلامي يترقّى نحو المتاهة والحيرة الوجودية، والتي رأينا بصماتها التعبيرية الغائرة في أفلامه التي حققها قبل (دنكيرك). يجمع الفيلم بين ثلاث وجهات نظر مختلفة في إطار زمني مشترك ومتداخل، وجهة النظر الأولى تعبر عن أحاسيس الجنود المشاة على الأرض، والذين يقفون في طوابير هائلة، انتظاراً لسفن النجاة، أما وجهة النظر الثانية فبدت مكثفة وخاطفة اعتماداً على مناورات الطائرات الحربية البريطانية القليلة في السماء، الساعية لمواجهة الطائرات الألمانية وهزيمتها في الجو قبل أن تقضي على الجنود في العراء الملعون، أما وجهة النظر الثالثة فتنطلق من الماء حيث القاذفات وسفن الإجلاء البريطانية الآيلة للغرق، وبجانبها قوارب الصيد والنزهة التي استقلها المواطنون الإنجليز لإنقاذ جنودهم العالقين على الشاطئ الفرنسي المقابل. يتتبع الفيلم في مشاهده الاستهلالية حركة جندي المشاة البريطاني ــ يقوم بدوره الممثل الشاب فيون وايتهيد ــ بعد أسبوع من الحصار، في محاولة منه للنجاة من معارك المدن للوصول إلى معبر الخلاص قرب البحر، وعلى عكس المتوقع يكتشف أنه معبر لا يفضي سوى للوهم والفوضى والانتظار الأبدي، نرى على الشاطئ جنوداً يائسين ومنهكين ومحطمّين نفسياً، جنود تسوّرهم عزلة جماعية، قسرية وخانقة، وفي إحدى اللقطات المؤثرة نرى جندياً بلغت به هستيريا الحرب إلى الانتحار غير الواعي، عندما يقتحم البحر وحيداً للوصول سباحة إلى الشاطئ البعيد، المرئي بصعوبة في غابة الضباب، ولكنه يختفي تدريجياً بين الزبد والأمواج ويبتلعه الماء خلال لحظات ثقيلة، ووسط مشهدية مؤلمة يعاينها رفقاؤه بعجز داخلي فادح. صراعات خفيّة يتتبع المسار الثاني في الفيلم خطة السيد داوسون ــ الممثل مارك ريلانس ــ لإنقاذ الجنود من خلال يخته الخشبي برفقة اثنين من المراهقين يقرران مغادرة الميناء البعيد عن أجواء الحرب، واقتحام مجهول «القنال الإنجليزي» في عمل تطوعي دونه مخاطر هائلة ومغامرات ضارية، أما بطل المسار الثالث فهو الممثل «توم هاردي» الذي يؤدي دور الطيّار «فارير» التابع للقوة الجويّة الملكية، والذي يصرّ حتى آخر رمق من الوقود المتبقي في طائراته على إنجاز مهمة بدت شبه مستحيلة لإيقاف تهديد الطائرات النازية لقوات الحلفاء بالقنابل الجوية والقاذفات الرشاشة، ورغم كل الظروف الشائكة ينجح «فارير» في إنقاذ آلاف الجنود في البحر وعلى الساحل، وعندما ينفد منه الوقود يقرر الهبوط على أرض العدو كنوع من التحدي والانتصار الداخلي الذي لا يمكن كسره، يأتي جنديان ألمانيان في مشهد شاحب ومن دون إظهار ملامحهما في الكادر، ليلقيا القبض على الطيار الجريء والمتماسك حدّ القفز فوق كل مخاوفه، وفوق كل أشكال التعذيب المنتظرة في دهاليز الأسر والاعتقال. يشرع المخرج كريستوفر نولان في ثنايا الفيلم إلى التوليف بين الأضداد، والجمع بين حالات الترقب والحذر التي يشعر بها الجيش الذي تقطعت به السبل وسط ثلاثية (الأرض والماء والهواء)، وبين الحيّز الزمني لكل حدث مستقل في هذه الثلاثية، ثم يقوم بإذابة هذا الزمن وتمييعه من خلال أسلوب مبتكر في المونتاج يجمع بين المتناقضات ويقحمها في سياق متتابع وسلس يجعل الإحساس الفردي موصولاً بقوة مع الإحساس الجمعي لكل هؤلاء الجنود الحالمين بالعودة إلى الوطن، ويستغل نولان اللقطات البانورامية الواسعة لإضفاء الطابع الملحمي على المعركة، رغم الغياب الكلي للعدو عن الصورة، وتعويض ذلك بالتأثير المباشر من خلال أزيز الرصاص والانفجارات المدوية على رمال الساحل وفي مياه البحر، ومن خلال التأثير غير المباشر أيضاً والذي يتجلّى هنا في الانهيار النفسي والعاطفي للجنود وظهور صراعات خفية بينهم من أجل البقاء على قيد الحياة، حيث إن الأقوى جسديا والأكثر دهاء ومكراً سيكون صاحب النصيب الأوفر للنجاة، وفي المقابل يروّج الفيلم للعقلية الإنجليزية خلال الحرب والقائمة على فكرة المقاومة الداخلية والإصرار على تخطّي الخسارات، فمجرّد بقاء الجندي حياً في تلك الظروف يعتبر انتصاراً، وعندما يعجز 400 ألف جندي عن العودة إلى وطنهم، فعلى الوطن أن يذهب إليهم من خلال تضحيات أصحاب سفن الصيد وقوارب النزهة للعمل على إنقاذهم من مصير كارثي، وهذا التشبث بالهوية القومية حوّل الشكل الظاهري للهزيمة إلى اعتزاز بالمقاومة الجماعية حتى من قبل المدنيين البعيدين عن أجواء المعركة. التابوت العائم يستغلّ نولان في «دنكيرك» بعض التكنيكات الأسلوبية التي اتبعها في فيلميه «تذكار» و«عالق بين النجوم» مثل تجميد الزمن، أو العودة به إلى الوراء، خصوصاً في فيلم «تذكار» الذي يحلل طريقة ارتكاب بطل الفيلم لجريمته وهو فاقد لذاكرته، اعتماداً على لقطة النهاية والعودة من خلالها إلى نقطة البداية في شريط سينمائي مدوّخ، يرمّم الفراغ المنهدم بأكمله داخل سيناريو جنوني ومبهم لأقصى درجة، يثبّت نولان الزمن في فيلم «دنكيرك»، ثم يمنحه دفقة من الحيوية والحميمية في آن واحد، تنبع الحيوية من المشاهد الخارجية العنيفة والمثيرة لمسار المعركة، بينما تنبع الحميمية من علاقة المجند الذي رأيناه في بداية الفيلم مع اثنين من زملائه، وهي علاقة تقوم على الانسجام اللحظي الذي يتحول تدريجياً ومع تصاعد الأحداث إلى رابط قوي يصل لحد التضحية بالنفس في واحدة من أصعب وأشرس لحظات المعركة، وبالتحديد عندما تنحشر مجموعة من الجنود في سفينة قديمة ومهجورة على رمال الشاطئ بانتظار أن يحملها المدّ البحري القادم، ولكن الطلقات النارية الموجهة من قبل العدو تحول هذه السفينة إلى ما يشبه التابوت العائم، فالكل معرض للموت وفي أية لحظة عمياء وعشوائية تمليها الصدفة، أو يحركها القدر، ففي سفينة الهلاك هذه تتجلّى قيمة التضحية في أبهى أشكالها، كما تنكشف صدمة الخيانة أيضاً في أقبح صورها. يخلو فيلم «دنكيرك» من الحوارات المطولة أو المونولوج الداخلي لعدم حاجاته إلى شروحات فائضة عن الإطار البصري الممتلئ أصلاً، ولم تكن هناك شخصية مركزية يمكن لها من خلال المونولوج أن تملأ الفراغات السردية لتوصيف تاريخ ومرجعية هذه الشخصية، أو الشخصيات الأخرى المؤثرة في سير الأحداث وتطورها، وبالتالي جاء اختيار نولان لكاميرات متطورة بقياس 65 ملم، وللمصور الهولندي المعروف «هويت فان هويتيما» موفقاً، من خلال خبرته في التعامل مع التفاصيل الصغيرة والهامشية ومع ردّات الفعل الطبيعية والعفوية للممثلين، وتحويلها إلى جزء أصيل في البنية المشهدية العامة للفيلم، وجاء عرض الفيلم في صالات «الآي ماكس» ليكون هو الخيار الأنسب لهكذا أفلام تعتمد على كادرات بصرية مترامية الأبعاد، وقادرة في ذات الوقت على احتواء المجال الحسي الطاغي للصوت والصورة معاً، وخلق مساحة كافية للاندماج العضوي الحقيقي والمباشر مع أحداث الفيلم. عموماً، فإن فيلم «دنكيرك» رغم استعانته بواقعة تاريخية محددة ومرتهنة لظروف خاصة، فإنه جاء في توقيت مناسب ليحذرنا من المصير الإنساني الأسود والعدمي، المتوقع من أية حرب كونية قادمة.   معركة دنكيرك معركة دنكيرك هي إحدى المعارك البارزة خلال الحرب العالمية الثانية التي نشبت بين قوات الحلفاء وألمانيا النازية، اندلعت على الجبهة الغربية في أثناء معركة فرنسا. حيث قامت "مجموعة الجيوش الألمانية ألف" بتطويق قوات الحلفاء بشكل كامل، فيما دعاه الجنرال الألماني إريش فون مانشتاين "ضربة المنجل" التي تركت الحلفاء تحت الحصار. وبعد قرار الألمان بتعليق الزَّحف باتّجاه دنكيرك، بنى الحلفاء خطاً دفاعياً وبدؤوا حملة عملاقة لإجلاء قواتهم عن مدينة دنكيرك، شاركت فيها القوات البحرية والسفن التجارية وحتى زوارق الصيد الصغيرة، لتصبح حملة شعبية لإنقاذ الجيش البريطاني. وفي النهاية نجح الحلفاء بإنقاذ 330,000 جندي، إلا أنهم خسروا 440,000 آخرين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©