الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أدغال أفريقيا وصحراء الشرق.. ترتعش بين يدي ريناتو كازارو

أدغال أفريقيا وصحراء الشرق.. ترتعش بين يدي ريناتو كازارو
20 نوفمبر 2008 01:29
تغيرت العوالم القديمة، تبدلت وجوه الطبيعة، مدن شيدت وأخرى قديمة اندثرت، حضارات سادت ثم بادت، فلم نعد نرى الوحوش والغابات إلا في الكتب، صورة تطبع من صورة لا صورة تطبع من واقع، ذلك ما نألفه اليوم، حتى السينما لم تعد فيها عين الكاميرا مفتوحة على عالم معاش، بل صارت اللقطة تركب وتدمج وتحاكي عالماً اندثر إلا في المخيلة· القارة السمراء، الباقية منذ آلاف السنين، القاسية، الشاعرية الصارمة، التي لا ترحم، الرقيقة الى حد الجرح، عالمها متشابك، وأشجارها لا تضارعها أشجار مثيلة، موطن للحكايات والإثارة، كيف يمكن أن تروي قصصها؟ وهل يمكن التقاط تلك القصص في عالم مليء بالوحشة والخوف؟ ''ريناتو كازارو'' الرسام الإيطالي الأصل، الأميركي النشأة، حلّ قبل أسبوعين ضيفاً بمعرضه على هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، فأرانا عالماً لم نره علي حقيقته من قبل، عالماً صادقا، لا يزال يعيش عذريته· عاش كازارو في الأدغال الأفريقية، حيث يؤمن بأن ''الفكر حر'' فبدت لوحاته الـ 53 في القاعة الكبيرة في المجمع الثقافي بأبوظبي كأن الأدغال قد حضرت بأسودها، وبأشجارها الهرمة، وبأنهارها الرقراقة، وبأغصانها المخضرة· كل ذلك يبدو طبيعياً إلا أن ما ليس بهذا هو تلك الحركة، الرعشة، الصدق في أن ترى ما لا يمكن أن تراه في أي لوحة مشابهة· واقعية كازارو تختلط بالألوان الحية المستوحاة من المدرسة الأميركية التي عمل في مهدها لسنوات طويلة· يعمد للإثارة والحدة وكأنه جسر بين عالم المدنية وعالم الفطرة والعذرية التي لم تستبح لحد الآن، حيث تجاوز الواقع ليرسمه وكأنه خالق آخر، الهضاب الخضراء المترامية الأطراف لديه تضحك من خضرتها الهمجية، وضوء الشمس الأفريقية ساعة الشروق يبادلها الضحك والمسرة، والسافانا بحر ذهبي هائج، أما قطعان الفيلة الهادئة عند صمت الليل فتبدو قرمزية تحت ضوء الشمس، أجسامها رصاصية كالصدفات المتلألئة· وكبرياء الأسود وشموخ أنوفها وتيجانها الذهبية وعيونها المتحفزة لا تزال متربعة على عرش الملكية، في البعيد·· البعيد ترى قطعان الجواميس الهائلة هادئة، تتحرك ببط وكأنها تعلن السلام حيث الملك قد شبع ونام· ذلك ما أضاء روح ''كازارو'' حين اكتشف أرض السحر الخاصة بفنه فبدت رسوماته متعددة الاتجاهات·· إنه آخر الرسامين العباقرة، سليل المستشرقين الذين رافقوا الجيوش الأوروبية الغازية، الذين عملوا ببطء خارج الزمن فنقشوا حتى التفافة الثوب على بعضه وإثر سقوط حجارة من سقف والتماعة الظل عند الغسق· عرض كازارو ''لوحة النمور'' و''المواجهة المفاجئة'' و''العملاقان'' و''الأسود الشاربة'' و''الحياة العامة'' و''البرق'' و''في الظلام'' و''الخمسة الكبار'' و''عيون الصحراء''· عندما تدخل القاعة، وفي لحظة مشاهدتك الأولى، يتبين لك أن ما يعرض هي أعمال فوتوغرافية التقطها مصور فوتوغرافي حاول بكل جهده أن يختبئ وراء شجرة، ضاءل نفسه وحبس أنفاسه وحاول جاهداً أن يسيطر على ارتعاشة يديه، وبعد برهة وحين تحدق ملياً بالزيت اللامع فوق الجمفاص، يتبين لك أن ما تراه ما هو إلا رسومات لونتها كف كازارو· دقة في التقاط الجزئيات وتحريكها، حرفية ماهرة في تجسيم الثنيات والتواءاتها، لملمة الفضاءات وملئها، كل شيء لا يهرب الى اللاشيء· الأسود السبعة وهي تشرب الماء، وهي تمد ألسنتها الطويلة الحمراء وعيونها المفتوحة بازرقاق واضح وبتناسق واحد تثير المتلقي وكأن الأسود تناغم عينيه· من هذه اللوحة تبدأ رحلتنا مع أعمال ''كازارو'' وهي ذات اللوحة التي لابد أن يشاهدها المتلقي أولاً كونها وضعت في طرف القاعة القريب، حيث يبتدئ الزائر باستعراض عالم أدغال أفريقيا·· لماذا؟ الجواب جد بسيط· عيون الأسود تبحر في عيني المتلقي، والمتلقي لا يتمتع إلا بعينيه·· وكأنها تريد أن تقول له لا نريد منك إلا أن تنظر بتمعن لتستشف ما رواه عنا ''كازاروا''· من أسد البحر المتثائب والطيور المحلقة واللقالق البيضاء المتجمعة في وسط النهر تنتقل عيناك، حيث ترى أسدين صغيرين يداعبان سلحفاة والوعل الجبلي عند سفح جبلين، والأشجار المقطوعة الشائخة تبكي والكركدن الشائخ ينتحب عندها، والأسود الشبعانة تتمطى في عرينها، والفيل يلعن سمنته فيخبط في ماء النهر، وغابة من الفيلة تعبر السافانا والزرافات مشرئبة الأعناق تباهي بجمالها الطبيعة، والغزال المستوحد حائراً بين الأغصان الكثيفة والنمر المخادع يسترخي فوق جذع شجرة جرداء والذئاب تنتفض بحركتها المخيفة· ذلك هو عالم غابات أفريقيا الذي نقله ''كازارو'' في معرضه الذي أطلق علي المشاعر والحقيقة'' أو لنقل الخيال والواقع· لم يكتف ''كازارو'' بسحر أفريقيا، بل كان لسحر الشرق نبضه في ريشته، إذ رسم ''عيون الصحراء'' و''شاي في الصحراء'' و''الصقر الشرب'' و''الكبرياء العربي'' و''لا تزال الحياة مع الصقر'' و ''روح الفريق'' و''ثلاثة صقور في الجبال'' و ''الباب المغربي'' و ''ثلاثة رجال عند الباب''· ''كازارو'' يلتقط روح الشرق، يداعب ظلال الأشياء في لوحته ''السوق''، والتي تذكرنا بلوحات المستشرقين الذين رافقوا الجيوش الأوروبية حين أتت الى شرقنا العربي· المستشرقون رسامو الخرائط المبدعون الذي أهملوا الزمن وظلوا قابعين في إطار اللوحة لا يحيدون عنها، نتذكر لوحة ''زقاق في دمشق'' والتي لم ينس فيها الرسام أبسط جزء في الواقع، حتى الظل الميت عند منحنى الزقاق· وكأنه يريد أن يحدد لنا الوقت الذي اختاره من ساعات الشمس الساقطة على زقاق في دمشق· كذلك ''كازارو'' حين يقتنص الصقر الجالس في الشرقة والمرأة المغربية وهي تعبر الزقاق المغطى بالأعمدة الخشبية وظلالها على أرضية السوق، والطوارق الملثمون وكلاب السلوقي الجالسة عند الصقر في وكره، والغزلان المختفية خلف الأشجار والجمال الثلاثة المحملة بنساء البدو وهي تعبر مدينة ''كرفانا'' الصحراوية، ورجل الطوارق الذي يصب الشاي الأخضر· والرجال الثلاثة الجالسون عند باب مغربي· المدهش حقاً هي لوحته عن راعي الأبقار وابنه، في غطائه الأحمر وهو يلتفت الي الخلف كأنما يوحي بأنه تفاجأ بعدسة مصور فوتوغرافي ومضت من خلفه لحظة الالتفاتة· ''كازارو'' جاء بأعماله الى أبوظبي ليحاكي عالماً متمدناً بعالم أفريقيا والصحراء· جاء بلوحات غير جامدة، كان الزمن والمكان وروح الحياة تنبض فيها· هي عوالم أفريقيا والمشرق نقلها كازارو وكأنه يقدم ما شاهده عندما عاش هناك في الأدغال، عندما لفحته شمس الصحراء· الواقعية لديه تحمل قوانينها الصارمة وأبعادها الدقيقة، فليس ثمة شيء مهمل في العمق والأطراف، لا مجال مطلقاً لانفلات جزء صغير بل ضئيل في الواقع (اللوحة)· إنه مثل حقيقي لمفهوم الواقعية، حيث يرى ''كازارو'' أن أفريقيا هي الحقيقة والصحراء هي الروح الحية· اللون لون الحياة، والزيت عرق اللوحة، والجمناص شاشة الطبيعة، والروح قشعريرة الحلم الذي تلبس هذا الرسام المدهش الذي واظب منذ ثلاثة عقود على رسم هذا العالم والتي سلبت جدارياته السينمائية عقول رواد السينما في العالم حتى أصبح خامس خمسة كبار في صنع مانشيتات الأفلام الهوليودية الكبرى، مما أعطته مواقع متقدمة في هذا الحقل الإبداعي الآسر الذي يحقق لأفام هوليوود أعلى الأجور باجتذاب المارة في شارع عريض يحمل عند بوابة أي دار سينما في العالم صورة من أعمال كازارو· أفلام من مثل ''الكتاب المقدس'' و''الامبراطور الأخير'' و''الرقص مع الذئاب'' و''نيكيتا'' و''رامبو ،1 ''3 و''بوذا الصغير'' تمثل عالمها في مانشيتات لوحاتها· ذهب كازارو بعيداً عندما أخذه فيلم هوليوودي الى غابات أفريقيا هو ''ثلوج كليمنجارو'' للروائي آرنست همنجواي صاحب روايتي ''الشيخ والبحر'' و ''وداعاً للسلاح'' فاكتشف ما لم يحسب أن رآه في أفريقيا، السحر والحلم والأبدية· وظل هكذا، منذ سنوات كثيرة يمضي أوقات فراغه في الأدغال الأفريقية لبضعة أسابيع كل عام، حيث يستجم بمشاهدة الحياة البرية ليروي قصصاً مشوقة عن مواجهاته مع الجمال المتوحش للأدغال· ولأن كازارو متجرد فإن اكتشافه روح الشرق (الصحراء) كان قد حقق وميض حلمه بالإمساك بالسحر المختبئ خلف حبات الرمل، حيث السماء مذهبة بشمس ساطعة دوماً والإبل مشرئبة والصقور نابضة والخيل نافرة والكمال في الوجود قد تجلى·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©