الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

6 آلاف سنة من الحضارة تتراقص بين أصابعه

6 آلاف سنة من الحضارة تتراقص بين أصابعه
20 نوفمبر 2008 01:31
مخفوراً بولع العابد ورقة العاشق، يذهب في/ إلى عوده، كأنه مولود بين جملتين لحنيتين··· أو كأنما خرج إلى الدنيا يتهادى على مقام شرقي عتيق· ففي كل مرة احتضن فيها العود، ووقَّع عليه بأصابعه، سحَرَ الموسيقار والفنان نصير شمة سامعيه· وفي كل مرة لمست فيها أصابعه الأوتار، بدا كما لو أنه لا يعزف على أوتار العود بل على أوتار القلوب· تلك حالة من الاندغام الروحي أو (الوَجْد) بلغة المتصوفة، إذ منح نصير العود نفسه بالكامل، فلم يعد (العود) آلة بل صار (مريداً) يستجيب له في كل ما يشتهي· الموسيقى روحه وريحانته· بها تتجدد دورته الدموية، وعلى ضفافها ''تكرج'' الحيوات مثل بجع البحيرات··· يعزف نصير فتتسع الأرواح وتكبر··· ثم يعزف فتشفُّ وتحلِّق في أمداء لانهائية··· ثم يعزف فتصفو النفوس وتطرد أحقادها وأمراضها بعيداً··· ثم يعزف فيحضر النخيل، وتعبق الأجواء بأنفاس القِدّاح والوجوه والأفراح والعذابات و··· ''تتسع الرؤية فتضيق العبارة'' على حد تعبير شيخ المتصوفة النفَّري· بين نصير والعود مسافة من الجرح والبوح يصعب ترجمتها، حتى كلمات نصير نفسه عن العود لا تقول، رغم غِنى ما تشي به، سوى النزر اليسير منها: ''حينما التقيت بآلة العود للمرة الأولى، أحسست بأنه الشيء الذي طالما كنت أبحث عنه، وبمجرد أن رأيته عرفت قدَري''· هذه العبارة/ المفتَتَح الذي يراه كل من يدخل إلى موقع نصير شمة على الإنترنت، والتي طالما كررها في حواراته وأحاديثه، ليست كلاماً مجانياً بل حقيقة يمكنك أن تلمسها بمجرد أن تنظر إليه وهو يحكي عن العود، لترى تلك الالتماعة أو البريق الذي يشع من عينيه· لكن قبل أن يتحقق هذا ''اليقين''، جرب أشياء كثيرة في رحلة البحث عن الذات، في ''الكوت'' مسقط رأسه، المدينة التي قدمت للثقافة العربية نخبة من أجمل مبدعيها، ونجح فيها: (التنس، الكاراتية، الجودو، الكونغ فو، جمع الطوابع وغيرها)، لكنه لم يشعر بأن ذاتيته تحققت عبر أيٍّ منها، ''ولما رأيت العود في يد مدرس الموسيقى، عرفت طريقي· ولولا ذلك المدرس لربما لم أتعلم الموسيقى، وربما كنت سياسياً أو شاعراً''· علاقة صوفية كانت لحظة استثنائية، عرف فيها نصير شمة طريقه إلى الحلم، لهذا حرص على تأسيس بيوت العود، هذا ''الحلم التربوي والتنموي'' المنطلق من أهمية التربية في تحقق الفرد، ونبل الاستثمار في الإنسان· وهو يحلم بأن ينشئ في كل مدينة وقرية عراقية وعربية بيتاً للعود، لكن بعض المشروعات يصعب أن تتحقق في ''العمر الشخصي'' نظراً لمحدوديته، من هنا آثر أن يحقق هذا الحلم ويستنسخه في ''تلامذته'' الذين يعكف على تعليمهم الموسيقى، وتربطهم به علاقة خاصة يصعب الانفكاك منها· قلت: علاقة الشيخ والمريد؟ قال: بلى، هكذا ينبغي أن تكون، مقدسة، لا ماديات فيها· أنا لا اتقاضى أي مقابل على تعليمي لهم، وأهديهم كل شيء· أهديهم حياة كاملة، أوجد لهم حلماً وأحققه لهم· وهم يتحولون إلى بشر آخرين، جميلين، مسالمين، خلوقين، يحبون الناس، الموسيقى تجعلهم يولدون مرة أخرى، تبني لهم شخصية جديدة بعد أن يتخلصوا من أي سلوك سلبي· هذا هو جوهر الموسيقى الحقيقية، الموسيقى البعيدة عن الملاهي هي طريق إلى الله، وهي نوع من الخلاص يصفّي الروح من الشوائب، وحين تصفو الروح تجد نفسها أمام رب العالمين''· ''قصة حب'' بيد واحدة هذه العلاقة الصوفية لا تقتصر على علاقته المفاهيمية بالموسيقى، بل تنسحب على علاقته ''بمعشوقه'': العود، الذي أتاح له ذات مرة أن يعانق ''بيد واحدة فقط'' الآلاف من أصدقائه ''مبتوري الأيدي'' بسبب الحروب والكوارث التي مرّت على رأس العراق، في ''قصة حب شرقية'' ما تزال إلى الآن أعجوبة فنية في نسجها وإيقاعاتها· وهو نفسه، العود أعني، الذي سمح له أن يسافر على ريشة من الإبداع من ''آشور إلى إشبيلية''، تلك المقطوعة التي عزفها بيده اليسرى ومن دون استخدام الريشة، وفكرة العزف بالأصابع الخمس من دون استعمال الريشة التقطها نصير، كما يقول، من المنحوتات الآشورية التي تصور أحد عازفي العود الآشوريين وهو يضرب على العود بأصابعه· وبالحسِّ الصوفي نفسه عكف على تتبَّع هذا الأمر أشهراً طويلة· وعبر بحث طويل قام بإعادة ربط الخيوط حتى توصل إلى طريقة عزف، عَرَفَها قبلنا الآشوريون بعدة آلاف من السنين، وأخرجها هو من تراب النسيان· الأمر، إذن، ليس مجرد تقنية رائعة تكشف عن قدراته الفنية العالية في التعامل مع العود، بل مؤشر على تلك العلاقة الحميمة والعضوية التي باتت بينهما، بحيث لم يعد العازف عازفاً فقط ولم يعد العود آلة للعزف، صارت بينهما ''وحدة حال'' وصارت الآلة إنساناً من لحم ودم· حياة كاملة يوقظها نصير وهو يتوغل فيها إلى آخر ما يمكن أن تتيحه له الموسيقى· تلك عادته في كل شيء، يذهب فيه إلى آخره لأنه، حسب قوله، لا يحب أن يكون ثانوياً في كل ما يفعل بل يفضل ويجتهد ليصل إلى أعماق الشيء· يظهر هذا في بحثه الفني، ودراساته، وانشغالاته التجديدية أو أحلامه الإنسانية ذات العلاقة بالبشر والكون والحياة· بين جناحَيْ ثور عظيم جلس نصير شمة ذات مساء قديم (1991)، بين جناحَيْ ثور عظيم داخل الصالة الآشورية في المتحف العراقي، ليقدم أول حفلاته الموسيقية· كانت الدماء لا تزال ساخنة تنزف من عروق وشرايين الشعب العراقي· اختار نصير مكانه ذاك ليقول للعراقيين: ''نحن سلالة هؤلاء الذين يستضيفوننا اليوم، والذين أبدعوا هذه الفنون التي سبقت ميكل انجلو في استخدام الحركة في النحت وفي التفاصيل شديدة الدقة''· وقتَها، يعلق نصير، ''كنت كمن يريد أن يُطَمْئِن نفسه على إرثه الذي يعشقه، وعلى مستقبله الذي يريد أن يسهم فيه بقوة· وفي الوقت نفسه كنت أريد أن أشير إلى عراقة شعبنا العراقي، بعد أن طوَّقتْه كل دول العالم في حرب لم يشهد التاريخ مثيلاً لها من قبل''· هذه العراقة، كانت سبباً من أسباب مهاراته النادرة على مستوى التقنية، وألحانه الثرية بالمشاعر والأحاسيس وبإيحاءات التراث تارة أو برغبة الكشف والتجديد تارة أخرى، ولم تكشف عن جدَّتِهِ وجديته الفنية فقط، بل كشفت عن حداثة مدروسة ولغة موسيقية تعرف متى وأين وكيف تصنع حداثتها· ذلك أن نصير يستفيد في ما ينجزه موسيقياً من موروث موسيقي غني وهائل في غزارته، وهو ينظر إلى نفسه بوصفه ''وريثاً لستة آلاف عام من الثقافة والحضارة والموسيقى، يستعيدها وتتقافز بين ناظريه وبين زند العود''· معتبراً أنه ''لولا جيناتي العراقية لما كنت عازف عود· أنا استكمال لمشروع سومري وآشوري وأكدي وبابلي وإسلامي، ولو لم أكن ابناً لزرياب والمتنبي وغيرهم من العظماء، فمن أين سآتي بمثل هذه الأفكار والإبداعات والتصورات، وكيف يمكن أن تتشكل المخيلة المجنحة إلا باستلهام كل ذلك الموروث العظيم''· لهذا الموروث كرس نصير شمة غير قليل من وقته، للبحث فيه واستكناه مخبوءاته، فمنحه الكثير منها: ''لقد فتحت لي دراستي للبحوث الموسيقية كنوزاً لا تنضب، وهي لا تحتاج إلا للجرأة والوقت والاجتهاد لتعطي ثمارها· اشتغلت على مخطوطة الفارابي لمدة سنة فقط فوصلت إلى نتائج مذهلة، ليس العود ذي الاوتار الثمانية سوى واحدة منها، وقريباً سأعلن عن ابتكار آلة موسيقية جديدة في شكلها وتكنيكها، نصنعها في بيت العود في أبوظبي، وهي لا تشبه أي آلة على وجه الكرة الأرضية· على صعيد المقامات أثمر بحثي عن ابتكار مقاميْ ''الكوت'' و ''الحكمة''· ومن الكندي تعلمتُ أول نظام للهارموني، الكندي الذي احترقتْ مخطوطاتُه اليوم في مكتبة دار المخطوطات· بيد ان الثمرة الأجمل هي أن البحث أصبح بالنسبة لي منهاج حياة، وانسحب على اهتماماتي كلها''· الجماهيري والنوعي بالنسبة إلى نصير شمة، ليس هناك مشكلة في الجمهور، وقد راهن في عمله على الوصول إلى القاعدة العريضة من الناس وعلى المثقفين والنخبة وطلبة الجامعات في الوقت نفسه، ونجح في مسعاه محققاً تلك المعادلة الصعبة بين العمل الجماهيري والنوعي في الوقت نفسه· من هنا اتسعت أعماله للتقسيم، والهارموني، والتآلف النغمي، والتنويع على القوالب الشرقية المعروفة، و استخدام التراث، لكن هذا ليس هو أهم ما في عمله، بل تلك القدرة على تقويل الجملة اللحنية أكثر مما تقول، وفتحها على آفاق ودلالات موسيقية لها علاقة مباشرة بموسيقة الروح وعوالمها التجريدية من دون أن تترفع على الحس الشعبي المستمع إليها والمنخرط فيها حدَّ الذوبان، هذا الحس الذي ما زال نصير يراهن عليه إلى الآن: ''منذ 1977 وإلى اليوم أسير على حدس الناس الجمعي في آرائهم بالفنان، وقد أثبتت لي التجارب أن عدم حب الناس لفنان ما دليل على وجود مشكلة داخلية ما في قلبه وإن امتلك صوتاً جميلاً، وموهوباً، ومثقفاً· هناك طاقة سلبية يبثها الإنسان وتصل إلى الآخرين· اللؤم يصل، والخبث يصل، كما ان الصدق يصل والناس يميزون الفنان الصادق ويحبونه ويحترمونه حتى لو لم يفهموه· هنا يصح مثال محمود درويش الذي غمر الحزن على رحيله جنبات الدنيا· كل الناس حزنوا لموته، أولاً لأنه شاعر حقيقي واستثنائي، وثانياً لأنه ارتبط بقضية شعبه النبيلة، حتى كان الحزن على الشعب الفلسطيني نفسه الذي بدا وكأنه فقد صوته، رغم أن درويش في قصائده الأخيرة ربما لم يكن مفهوماً من الجميع، لكنهم ظلوا يحبونه ويصدقونه وهذه أول خطوة على طريق الفهم''· يرحل نصير بين أطراف الأرض الأربعة ليقدم خلاصة عشقه الموسيقي لعشاقه، تاركاً في كل مدينة يحل بها معزوفة ما تتردد في أطراف الجبال أو شواطئ البحيرات، خالقاً مناخاته الخاصة، معبراً عن مشاعره ومذكراً بوطن يتعرض لسلب ذاكرته علاوة على ثرواته المادية، وهي واحدة من غايات نصير في موسيقاه؛ أن يعيد للعراق جماله الحضاري وفتنته التاريخية، وأن يعيد للعراقيين أيضاً ''صوابهم التاريخي'' ويذكرهم بوحدتهم وعيشهم آلاف السنوات في ''أرض السواد'' - عنوان شريطه الجديد- الذي يجمع فيه ميلودات عراقية يُجْمِع العراقيون من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب مروراً بالوسط وبكل أطيافهم وطوائفهم وأعراقهم على حبها· أرض السواد ليست سوى أرض الخير الوافر، أرض النخيل الذي رأته عشتار حين هبطت إلى الأرض والذي أبادوا أكثره اليوم، أرض أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام والكرخ والرصافة وشارع الرشيد وسليمة مراد وكل ما لا يختلف عليه العراقيون، كل هذا وغيره، يأتي في لغة موسيقية تحتاج منك إلى استخدام كل إمكانيات التذوق والحس في عقلك وروحك وقلبك وثقافتك لتدخل فيها· هناك، وفي أفيائها الرحبة، تغسل أذنك من رداءات كثيرة شاعت في زمن ''السقوط الموسيقي والغنائي''، تسند روحك على إيقاع نظيف، وتتفتح على مباهج لا تنتهي، تأخذك إلى تخوم سماوية تزقزق فيها عصافير الأعالي، وتتماوج صبابات زرقاء مجنحة، وفيوضات أرجوانية لا يدركها إلا العارفون·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©