الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكفاف

الكفاف
20 نوفمبر 2008 01:41
نمضي مرة أخرى مع السريّ الرفّاء في ''كتاب المحب'' الذي يجمع فيه شذرات من شعر القرون الأولى تدور حول المحبين، وهي لا تكاد تختلف كثيرًا عن أحوالهم في عصورنا الحديثة، مما ينبئ بأن البشر ـ على تنوعها وثرائها المذهل ـ تنتظم في أنساق متقاربة أو متناسلة، مما يجعل للإنسانية معنى موصولاً وغاية منشودة، وإن ظل الحب هو محور الحياة فيها، مهما كان نصيب المحبين من الوصال· فهذا أبو زرعة الدمشقي يقول: إن حظي ممن أحب كفافٌ لا صدود مُقْصٍ ولا إسعافُ كلما قلت قد أنابت إلى الـوصل، ثناها عما أريد العفافُ فكأني بين الوصال وبين الهجر ممن مقامه الأعرافُ فى محل بين الجنان وبين النار، طورًا أرجو وطورًا أخافُ فهو يجسد بطريقة فائقة الظرف حالته مع محبوبه، حيث لا يصطدم بالصدود الذي يجعله يفقد الرجاء والأمل، ولا يحظى بالنوال الغامر الذي يسعف حاجته ويروي غلته· يظل متشوفُا لموقفها، متطلعًا لوصالها، فإن بدت له علامات المودة وبشائر الوصال رآها تحجم خوفًا من الوقوع فيما يسمى الشرف والعفاف، مما يجعله متأرجحًا بين الطمع واليأس، حتى يكون في منزلة كان يطلق عليها قديمُا أنها ''منزلة بين المنزلتين''، أو في تلك الأرابض المعشبة التي تقع ما بين الفردوس والجحيم وهي التي تسمى ''الأعراف'' حيث يقف من يضنيهم الشوق إلى الجنة ويقتلهم الفزع من النار دون أن تميل كفتهم إلى أحد الجانبين· ومع ما في هذه الصورة الفنية من بطانة دينية ترتبط بمشاهد الدار الآخرة فإنها تجسد هذه الحالة العاطفية المرهفة التي لا يجد فيها الشاعر مناصًا من أن يكتفي بالكفاف من الود وهو أشق من كفاف العيش· وقد كان كثيّر عزة بدور يكتفي أيضًا بهذا الكفاف وهو يقول: وإني لأرضى منك يا عزّ بالذي لو أدركه الواشي لقرّت بلابله بلا، وبأن لا أستطيع، وبالمنى، وبالوعد حتى لا يسأم الوعدَ آمله، وبالنظرة العجلى، وبالحول تنقضى أواخره لا نلتقى·· وأوائله فهذا أحد أعلام العشق والشعر في الثقافة العربية، ممن نُسبوا إلى محبوباتهم وأصبحوا رموزًا لهذا الحب العذري العنيف الذي صار مدرسة في الآداب العالمية في العصر الوسيط يعلن بوضوح عن رضاه بقليل جدًا من ود محبوبته، عبر مجموعة من الردود تتراوح بين الإنكار الصريح للوصال ''لا'' أو التعلل بعدم قدرة ''لا أستطيع'' أو بالأمنيات والوعود المؤجلة دائمُا، بل هو أقل من ذلك من ''نظرة عجلى'' أو هجران يستغرق العام كله· ولو عرف العذّال كل ذلك لما لاموه ولقرّت عيونهم فرحًا بحرمانه، هذا الحرمان الذي كان على وجه التحديد الوقود المخضّب للحب والطاقة المتجددة للعشق، غير أن ما يعنينا في الدرجة الأولى إنما هي هذه الصياغة البسيطة الآسرة لحقائق عاطفية يجعلنا الشعر نراها ونتربى وجدانيًّا في رحابها الوضيئة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©