الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الـريشـــة

3 فبراير 2006

ليست ريشة من الطيور المعروفة، ولا حتى من ريش أجمل الطيور المشهورة بألوانها الزاهية والتي استخدمها السلاطين والأمراء قديماً لتزيين عمائم كريشة الطاووس، وليست ريشة آلة العود التي جعلها المغني زرياب من قوادم ريش النسر، أو ريشة الرسام، فهي تختلف عن كل ذلك الريش، ترى أي نوع من الريش هذا؟ وأي ريشة هذه التي سنتحدث عنها؟
إنها ريشة لا يحملها إلا أهل الريبة والشك، يشعرون بها كالحمل الثقيل مع أنها ريشة! يخافون عليها أن يفضح أمرها، ومع أنها مخفية لا ترى بالعين المجردة، إلا أن أهل الريبة يعملون جاهدين على إخفائها عن الآخرين، لأن الريشة إذا ما ظهرت للملأ ظهرت معها الحقيقة، وفضح أمرهم·
الطريف أيها السادة الكرام أننا ننبهر من تصرفات وأفعال أصحاب الريشة، وتأسرنا كلماتهم وأقوالهم، وتحدثنا قلوبنا - أحياناً - أن الأمر خلاف ما نرى وما نسمع، هم من بين من يبتسمون لنا، ويحدثوننا فيما نحب، ويضحكون معنا، ويقفون إلى جانبنا، يشاركوننا الأفراح والأتراح، يهتمون بهمومنا ويحزنون لأحزاننا، رائعون في منتهى الروعة؛ إذاً أين المشكلة إن كانوا كذلك؟
المشكلة أنهم من بين أولئك! يختلطون معهم، ويلتبس علينا أمرهم، وتغيب عنا ريشتهم، إذا فما هي الطريقة لرؤية هذه الريشة على رأس أهل الريبة، من دون تعميم واتهام واصدار حكم عام على الجميع دون استثناء بأنهم من أهل الريبة؟ هل يحتاج الأمر إلى خاتم سليمان الذي يضرب به المثل في الشرف والعلو ونفاذ الهمة، أم الاستعانة بجن سليمان الذين كانوا يعملون له الدور والقصور والحمامات والقوارير والقدور والسيوف وغير ذلك من الأمور العجيبة؛ ويغوصون له في أعماق البحار فيستخرجون كنوزها، إن استخراج الريشة أمر سهل ولا يتطلب لا خاتماً ولا جناً ولا عصا عجيبة أو غليظة، وإن وهبنا كل ما وهب لنبي الله سليمان من الملك فإننا نستطيع أن نخرج الريشة من دون ذلك الملك!
لقد وهب الله تبارك وتعالى لنبيه سليمان من النعم الكثيرة والعظيمة ما لا ينبغي لأحد من بعده، فقد علمه الله عز وجل فهم لغة الحيوانات كالطيور والحشرات وكان والده نبي الله داوود كذلك (وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين (16) سورة النمل، وكانت الريح تجري بأمره (وسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين (81) سورة الأنبياء، وكانت الشياطين مسخرة بين يديه تعمل له وتخدمه (ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك وكنا لهم حافظين (82) سورة الأنبياء، وقد كان من بين حاشيته فضلاً عن الإنس؛ الجن والحيوانات (وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون) (17) سورة النمل، ومع كل ذلك لنستمع إلى هذه القصة العجيبة والتي لربما سمع عنها البعض دون أن يتدبر ما فيها من المعاني العميقة·
نقل أبوالفرج بن الجوزي (597هـ) في كتابه (الاذكياء) باب اخبار الأنبياء وفطنتهم أن رجلاً جاء إلى نبي الله سليمان وقال: 'يا نبي الله، إن لي جيرانا يسرقون إوزي فماذا كان من نبي الله سليمان، هل أخذ بقول الرجل باتهامه لجاره فأمر به أن يحمل اليه الساعة؟ أو عمم في التهمة فدار في ذهنه أن كل جار للرجل هو سارق للإوز! أو أنه غضب على قومه فأرسل عليهم عاصفة تأخذهم عقاباً لهم، إن أسهل طريقة لنبي الله سليمان كي يعرف السارق هي أن يسأل الطير فترشده إلى مكان الإوز؛ أو يأمر الجن فتبحث له عن السارق فتخرجه وإن كان في باطن الأرض أو حتى قاع البحر! ترى ماذا صنع نبي الله سليمان ليكشف هوية سارق الإوز؟
لم يستعمل أي شيء من تلك النعم، بل علمنا درساً عظيماً، وهو أنه وبالرغم من تلك المواهب الإلهية إلا أن البشر مخلوق كريم ومن أعظم نعم الله عليه هي نعمة العقل والحكمة والبلاغة والبيان، وهذا ما استعمله سليمان، فهداء عقله إلى فكرة الريشة! الريشة مرة أخرى·
نادى سليمان الناس إلى الصلاة، فاجتمعوا وصلوا، ثم خطبهم نبي الله خطبة قال فيها: '··· وأحدكم يسرق إوز جاره ثم يدخل المسجد والريش على رأسه···' ونبي الله لا يعلم عن حقيقة السارق شيئاً، ولكن الذي حدث أن مسح السارق على رأسه يتأكد إن كانت هناك ريشة! فلما رآه نبي الله سليمان قال: 'خذوه فإنه صاحبكم'·
وهكذا استطاع سليمان أن يصل إلى الحق، دون أن يأخذ البريء بالمذنب، فيعمم في التهمة ويتسرع في اصدار الاحكام، فقد علمه الله تبارك وتعالى الحكمة وفصل الخطاب، ولقد كان من جميل دعائه (··· رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين )(19) سورة النمل، هذه هي قصة الريشة التي لاشك وإن طال اختفاؤها فستظهر ولو بعد حين، فلننظر الحقائق ولنستعن في إظهارها بالعقل والحكمة والبلاغة والبيان كما أظهرها نبي الله سليمان·
منصور محمد المهيري
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©