الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نار زوجة الأب

نار زوجة الأب
19 مايو 2011 20:07
نورا محمد (القاهرة) - كان عمري ثلاث سنوات تقريباً عندما توفيت أمي، لا أكاد أتذكر ملامحها، بل فشلت ذاكرتي تماماً في ذلك، فأرسم لها صوراً عديدة من خيالي طبقاً لما أحاول أن استجمعه، حينها لم أكن أعرف ماذا يعني الموت ولم أدرك أنه حرمان ووداع نهائي بلا لقاء، كنت أعتقد أنها تذهب الى السوق وستعود أو تزور بعض أقاربنا ليوم، ولكن عندما طالت غيبتها وسألت عنها قالوا لي كما يقال لكل الأطفال في مثل هذه الظروف، إنها عند ربنا أو هي في السماء وحتى هذه الردود لم تجعلني أفهم أنها لن تعود أبدا وإنما تغير المفهوم عندي فقط من الغياب القصير الى الغياب مدة أطول لعدة أسابيع أو أشهر. كان أبي وجدتي وأقاربي في هذه الأيام يبكون كثيراً كلما نظروا اليًّ، وانا لا أدرك السبب، ولكن عندما كبرت ووعيت لما حولي استطعت أن أعي أن سبب بكائهم هو شفقتهم على ما أصابني من يتم، وانا في هذه السن الصغيرة وأخواتي الثلاث الأكبر مني لسن أحسن حالا فأكبرهن لم تتخط العاشرة وأصغرهن أكبر مني بعامين، كنت أسمع كلمات من حولي ولا أفهم فحواها ولا ما ترمي اليه فقد كانت مثل الألغاز ولا أتدخل فيها لأنها لا تخصني، بينما فيما بعد فهمت أيضا أنها تدور حول مأساة أبي وكيف سيتحمل تربية أربعة أطفال. أو من تلك المرأة المناسبة التي يمكن أن يتزوجها وتقبل به وهو في مثل هذه الظروف، وكيف ستتعامل مع الصغار وهل ستكون رحيمة بهم أم ستكون مثل كل زوجات الأب، المعروف عنهن القسوة وهكذا تساؤلات كثيرة كلها تدور في هذا المدار. بعد عام تقريباً من رحيل أمي، تزوج أبي من امرأة، لا أعرفها، فلم تكن من أقاربنا لكنها كانت معروفة لأسرتنا، وما إن جاءت الى بيتنا حتى تولت كل مهام البيت ومسؤولية الجميع، وتقوم بطهو الطعام وغسل ملابسنا وترتيب غرفنا وتنظيفها، كما كانت تفعل أمي وأكثر، غمرتنا هذه المرأة بحنان فياض واحتوتنا بأمومة غير مسبوقة، حتى شعر أخواتي كانت تمشطه لهن بنفسها، وتختار لهن اجمل الثياب في حدود امكانات أبي من دون أن تثقل عليه، وقد كانت تصرفاتها تلك سببا في تعلقنا جميعا بها، فلم تشك يوما ولم تئن، بل نحن الذين كانوا يشفقون عليها لكثرة ما تبذله من جهد، وهي كالنحلة طوال اليوم لا تكف عن العمل. لم نشعر بأن هناك فرقا بينها وبين أمنا، فقد كانت مثلها تماما، وحتى عندما كبرت والتحقت بالدراسة كانت زوجة أبي تساعدني في دروسي ومع مرور السنين تهيء لي كل الأجواء التي جعلتني أنجح وأتفوق، وخلال ذلك كانت تدخر بعض الأموال لتشتري حاجيات لأخواتي مما يلزم البنات عند الزواج، حتى عندما جاءهن العرسان واحدة تلو الأخرى كانت لدى كل واحدة منهن معظم ما تحتاج اليه من جهاز العروس إلا الأشياء الأخرى مثل الأثاث وبعض الأجهزة الكهربائية. وشاء الله سبحانه وتعالى ألا ترزق زوجة أبي بأطفال من أبي، فأخرجت كل مشاعر الأمومة فينا، بما أثار عجب كل المحيطين، وهم يرددون: لو كانت أمنا على قيد الحياة ما فعلت لنا مثل ذلك، ولم يكن حرمانها من الأبناء هو السبب في حنوها علينا، وإنما هي هكذا، صاحبة شخصية رقيقة، هادئة لا مطالب لها، وكانت راضية بحياتها تماما، شاكرة لما بين يديها، ولم نرها أبدا إلا مبتسمة. وتوفى أبي في الوقت الذي تخرجت فيه والتحقت بعملي، وحزنت ارملته عليه وقد كنت منذ سنوات قليلة أناديها بأمي، ردا لبعض جميلها وهكذا كانت أخواتي، كنا نجد عندها سعادة غامرة وهي تسمع منا هذه الكلمة، فكنا نبالغ فيها، وسعينا جميعا جاهدين لأن نرد لها ما كنا نشعر أنه دين في رقابنا وإن لم نستطع أن نوفيها حقها، فأخواتي يزرنها باستمرار ويساعدنها في أعمال البيت، خاصة بعد ما تقدم بها العمر وضعفت قواها، أما أنا فقد رفضت الزواج حتى لا أتركها وحيدة، وضحيت من أجلها، بل لم تكن تضحية وإنما واجب حتمي، وما كنت أبدا أقبل أن ابتعد عنها وهي في هذه السن التي تحتاج فيها الى رعاية، ومع ذلك كانت تلح عليّ بشده من أجل أن أتزوج، وتؤكد أنها تريد أن تراني مستقرة في بيتي مثل أخواتي، وترى ابنائي، وقد تبكي وهي تذكر ذلك، لكن هذا لن تكون له إلا نتيجة واحدة وهي أنني سأتخلى عنها. وعندما توفيت «أمي» هذه، شعرت باليتم الحقيقي رغم أنني تجاوزت الخامسة والعشرين، وللحقيقة لم اشعر بذلك عند وفاة أمي التي أنجبتني ولا عند رحيل أبي، حزنت عليها أنا وأخواتي حزنا شديدا لا أستطيع وصفه بالكلمات. تذكرت زوجة ابي الراحلة عندما تابعت ما كان يحدث عند تلك الفتاة اليتيمة التي ماتت أمها وجاءها أبوها بزوجة أب كانت جحيما وعذابا مستمرين لها، الصغيرة كانت في السابعة من عمرها عندما جاءتها هذه المرأة في بيت أبيها، فحولتها الى خادمة وهي في هذه السن، وتسببت عمدا في حرمانها تماما من التعليم، جعلتها تتحمل كل الأعمال الشاقة من شؤون المنزل، وفوق هذا وذاك تؤلب أباها ضدها وتنتظره كل مساء لتصب بين يديه الشكاوى من كل نوع ولون حتى صورتها كأنها شيطانة، ولا تسلم أحيانا من الضرب من أبيها بعد التوبيخ، وهو لا يعلم أين الحقيقة، والصغيرة عاجزة عن الدفاع عن نفسها خشية أن ينالها عقاب أقسى إن تفوهت بأي كلمة، فأصبحت مغلوبة على أمرها. وأنجبت زوجة الأب تلك ثلاثة أولاد كانت الفتاة تتحمل مسؤولياتهم وتحملهم على ظهرها كأنها دابة، وتلبي مطالبهم مهما كانت، وكانوا مثل أمهم لا يكفون عن الشكوى منها، ومثل أبيهم يوبخونها ويضربونها، وهي صابرة تتحمل كل هذا الأذى أملا في يوم تخرج فيه من هذا البيت. حتى عندما جاءها عريس خاطبا، رفضت زوجة الأب وما كان هدفها إلا أن تظل خادمة بالمجان لها ولاولادها، ولم تحزن الفتاة اكثر من ذلك اليوم، لأن تلك المرة قضت على كل أمنياتها التي لم تكن حبا في الزواج وانما كراهية لهذه الحياة القاسية وهربا منها، وتكرر الموقف نفسه عدة مرات وفي كل مرة تختلق أسباباً واهية وغير واقعية، كان تدعي أنها مازالت صغيرة، رغم أن قريناتها تزوجن منذ سنوات وانجبن الى أن جاء أحد ابناء عمومتها وطلب يدها، فكررت نفس اللعبة وهذه المرة كانت الضغوط عليها كثيرة، من كل حدب وصوب، فلم تجد مفرا من الموافقة على مضض وإن كانت في فترة الخطبة قد استجمعت كل قواها واستحضرت كل حيل الأنثى، وهي لا تذكر الفتاة بخير وتدعي عليها كل النقائص، وتصفها بالكسل والفشل في كل شيء وأنها لا تجيد الطهو ولا القيام بشؤون البيت، واستطاعت بذلك أن تلقي في نفس خطيبها الشكوك وجعلته يرتاب ويتردد في الاقدام على إتمام الزيجة، فراح يقدم رجلا ويؤخر أخرى خشية ما هو مقدم عليه وهو لا يكاد يصدق. وما كان تردد الشاب فقط لهذه الأسباب وإنما ايضا لأنه سبق له الزواج من قبل ولم يكتب له لنجاح وله ابنة عمرها خمس سنوات من زوجته الأولى التي طلقها لأنها كانت مهملة في بيتها ولم يكن يجد أي شيء في مكانه، علاوة على أنها كانت تتعثر في قطع الأثاث كلما مرت بينها كأنها عمياء، ولم تجد معها تحذيراته لذا لا يريد أن يكرر التجربة الفاشلة، فكان عنده كل الحق في تردده، وما أقدم على اختيار ابنة عمه هذه الا لأنها يتيمة مغلوبة على أمرها والجميع يرون أنها مناسبة له تماما وستكون أما لابنته خاصة وأنها ذاقت مرارة اليتم ومرارة زوجة الأب، ويشهد كل من يعرفها بأنها تتحمل كل اعباء هذه الأسرة كبيرها وصغيرها. تمت الزيجة، ولاحظت وأنا أراقب كل هذه الأحداث، أن زوجة الأب لم تشتر شيئا من احتياجات العروس ولم تعد لها أي أجهزة أو حتى ملابس، على عكس ما فعلت زوجة أبي، أقصد «أمي» مع أخواتي، وما تفعل كل الأمهات مع بناتهن، وما كانت الفتاة تريد من ذلك الا النجاة الى بيت تكون سيدته، بعيدا عن زوجة ابيها. وتمر الأيام والسنون، وتتلاحق الأحداث امام عيني، فكنت انتظر من الفتاة ان تعامل ابنة زوجها كما عاملتنا زوجة أبينا، لأنها ذاقت الأمرين وعانت أشد المعاناة، لكن للأسف كانت نسخة من زوجة ابيها، وعاملت ابنة زوجها على أنها خادمة لها ولاولادها فيما بعد، ولم تتعلم الدرس!! تعجبت وأنا أضرب كفا بكف، عندما شاهدت هذه المرأة وقد جعلت ابنة زوجها تحمل ابنها الصغير وحقيبة ثقيلة دون رحمة، فتذكرت كل هذه الاحداث، ودعوت لزوجة ابي بالرحمة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©