الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نية الإنسان أساس عمله وسلوكه

نية الإنسان أساس عمله وسلوكه
19 مايو 2011 20:09
تباينت المذاهب الأخلاقية في حكمها على الأعمال الخلقية. فمنها من يعول على الفعل من خلال نتائجه، ومنها يعول على النية والمقصد في حكمه على الأفعال. غير أن قانون الأخلاق الإسلامي مع اعتباره لنتائج الأفعال، والظروف المحيطة بها، فإنه يعول في المقام الأول على المقصد والنية، ليكون الفعل في ميزانه خلقياً من عدمه .ولعل مرد ذلك إلى أن من سلطات الحساب والمؤاخذة فيه «العليم ،الخبير»من يعلم السر وأخفى الله رب العالمين . وذلك لأن البواعث التي تسوق المرء إلى العمل، وتدفعه إلى إتقانه وإجادته، وتغريه بتحمل التعب فيه، أو بذل الكثير من أجله، كثيرة و متباينة، فمنها القريب الذي يكاد يرى مع العمل، ومنها الغامض الذي يختفي في أعماق النفس .وربما لايدركه العامل المتأثر به، مع أنه سر اندفاعه في الحقيقة إلى فعل ما فعل ،أو ترك ما ترك. وقانون الأخلاق الإسلامي في مجال المهنة وغيرها يرقب بعناية فائقة، ما يقارن أعمال الناس من نيات، وما يلابسها من عواطف وانفعالات. وقيمة العمل عنده ترجع - قبل كل شيء- إلى طبيعة البواعث الذي تمخض عنها. ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الإمام البخارى»إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى». وفي غزوة العسرة، حدث أن تقدم لرسول الله-صلى الله عليه وسلم- فتية آمنوا بربهم، وأرادوا أن يجودوا بأنفسهم في سبيله .بيد أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يجد ما يعينهم به على أمر الجهاد. فعادوا وقد أذاب الحزن أكبادهم لتخلفهم- رغما عنهم- عن ميدان الجهاد فنزل قول الله تعالى « وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ» التوبة (92). فهل يا ترى يهدر هذا اليقين الراسخ في الأفئدة، وهذه الرغبة العميقة في التضحية ؟ كلا! ولذلك نوه النبي صلى الله عليه وسلم بإيمان أولئك القوم وإخلاصهم، فقال للجيش السائر كما روى الإمام البخاري:» إن أقواماً خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعباً ولاوادياً إلا وهم معنا، حسبهم العذر» . فالنية الصادقة هنا سجلت لهم في صحائف أعمالهم ثواب المجاهدين، حيث قعدوا راغمين لا راغبين» في الوقت ذاته، أعلن الإسلام كراهيته العنيفة للرياء في الأعمال الصالحة والنافعة أيا كانت صغرت أم عظمت.وما ذلك إلا لأن الرياء من أفتك العلل بالأعمال، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيمارواه الحاكم « اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة». وإنما كانت حملات الإسلام على الرياء وغيره من العلل الناشئة عن فقد الإخلاص. على ما هي عليه من الشدة. لأنها فساد معقد وطريقة ملتوية في التنفيس عن الشهوات المكبوتة. فالرذيلة السافرة تولد جريمة، وتسير في المجتمع جريمة. فهي محل بغض واحتقار من الأفراد، ولعل صاحبها لشعوره بسوئها يثوب منها على عجل أو على مهل. أما الرذيلة التى تظهر في لباس من الطاعة المطلوبة، فهي رذيلة يعم شرها صاحبها، والمجتمع بأسره. إذ إن صاحبها يقترفها وهو يشبع نهم نفسه، في الوقت الذي يتوهم فيه أنه يرضى الله تعالى .. فكيف يستشعر أنه اقترف إثماً أو أتى ذنباً ؟! وكيف يتوب مما يفترض أنه خير ؟ أما المجتمع العام فمصائبه من الفضلاء المنافقين، أشد وأنكى من مصائبه التى ينزلها به معتادو الإجرام من المجرمين والمهملين. فضعف الإخلاص عند كثير من ذوي المواهب في المهن المختلفة جعل البلاد تشقى بمواهبهم، فباتت لاتبارح الحفر. لهذا اهتم قانون الأخلاق في الإسلام بالنية في العمل، ولم يقف عند ظواهره .فعلى الموظف وهو في ديوان عمله ومهنته أن يحتسب ما يسطره بمداده، وما يحسبه بقلمه، وما يكد فيه عقله، ويتعب فيه يده، عملاً يرجو من ورائه رضا ربه ومصلحة وطنه. فالدابة قد تكدح سحابة النهار نظير طعامها، والإنسان قد يهبط بقيمة جهده إلى مستوى الحيوان، فيكون عمله لقاء راتبه فحسب. بيد أن الرجل العاقل يغالى بتفكيره ونشاطه، فيجعلها لشيء أجل وأسمى. ولكن مما يؤسف له أن ثمة جمهوراً من أصحاب المهن والحرف لايفقهون إلا منطق المال والدرجة والترقية، ويحبسون دنياهم داخل هذا الاطار، يربطون رضاهم وسخطهم، وفتورهم ونشاطهم بميزانه، فإن أعطوا رضوا، وإن منعوا سخطوا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني « وإذا كان آخر الزمان صارت أمتي ثلاث فرق : فرقة يعبدون الله خالصاً، وفرقة يعبدون الله رياءً، وفرقة يعبدون الله ليستأكلوا به الناس، فإذا جمعهم الله يوم القيامة قال للذي يستأكل الناس: بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي ؟فيقول: وعزتك وجلالك أستأكل بها الناس،قال: لم ينفعك ما جمعت، انطلقوا به إلى النار، ثم يقول للذي يعبد رياء:بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي؟ قال:بعزتك وجلالك رياء الناس! قال: لم يصعد إلىَ منه شيء ،انطلقوا به إلى النار .ثم يقول للذي كان يعبده خالصاً :بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي؟ قال:بعزتك وجلالك أنت أعلم بذلك ما أردت به ذكرك ووجهك- قال صدق عبدي ،انطلقوا به إلى الجنة». ومما ينبغى أن نعيه أن الإخلاص العميق ألزم ما يكون لميادين العلم والثقافة، فالعلم أشرف ما ميز الله تعالى به الأكرمين من خلقه، فمما لايليق به أن يُسخَر لعوامل الشر، وأن تختلط به الأهواء والفتن. والعالم لم تحدق به النكبات والجراحات القاتلة إلا على أيدي علماء فقدوا الخلق الفاضل، ولم يلتزموا بأخلاق مهنتهم ،وفقدوا النزاهة المحمودة.لذا أوجب الإسلام من خلال رؤيته للأخلاق المهنية على الأستاذ والطالب جميعاً أن يتجردوا للعلم، وأن ينظرا قبل كل شيء إلى المثل العالية والمصلحة العامة.ووضح قانون الأخلاق الإسلامي أن التعليم والتعلم ابتغاء المال وحده تلهفاً على المنفعة الشخصية المحضة هو في الحقيقة استهانة بقيمته، وإضاعة لرسالته الجليلة. يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود» من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله تعالى، لايتعلمه إلا ليصيب عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة «.وقد كره الإسلام كذلك أن يطلب المرء العلم، حتى إذا نبغ استكبر به على الناس ،واتخذه وسيلة للشغب والمراء. وفي الحديث الذى رواه ابن ماجه» لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولاتماروا به السفهاء، ولا تحبروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار» . إن العلم على اتساع صنوفه الدنيوية والأخروية .لن يزدهر ويصل إلى المرحلة التى بلغها أسلفنا إلا بالتجرد للحق، والتعالى عن الأغراض الصغيرة التي تنحرف به عن أخلاقياته. ولا يعني هذا أن يكلف العلماء والمتعلمون بتحمل مشاق العيش، والتعرض للأزمات المحرجة التى تحول بينهم وبين أداء رسالتهم. فإن إخلاص النية لايستلزم إعنات المخلص وتكبده الأذى والمشاق، وإنما يهدف الإسلام من نظرته إلى باطن العمل والعامل وعدم الوقوف عند الظواهر فيه إلى الوصول به، إلى أعلى درجات الإحسان والجودة والإتقان سواء أعطى العامل أم منع، فإذا أعطى العامل فقد حاز ثواب الدنيا والآخرة، وإن منع فما عند الله خير وأبقى، ولن يكون حينئذ التقصير في أداء المهنة الذي ينعكس سلباً على المجتمع وأفراده. د. محمد عبد الرحيم البيومي كلية الشريعة والقانون - جامعة الإمارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©