الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هكذا نتملّك النص..

هكذا نتملّك النص..
14 يناير 2015 21:35
ما هي المحاور الرّئيسيّة التي تقوم عليها تأويلية «شلايرماخر»؟ لا نريد الإجابة عن هذا السّؤال من خلال متابعة تطوّر الفكرة التأويلية لديه، وإنما نريد أن نبرز لوازمها المتواترة في عين التّطور الذي شهدته النّظرية، ونقدّر أنّ هذه اللّوازم هي المكتسبات الحقيقية التي يمكن أن ندين بها لشلايرماخر: لازمةُ الغربة الأصلية لخطاب الآخر، لازمة الفهم والدّور التّأويلي. لا شكّ أنّ صياغات هاتين اللاّزمتين عديدةٌ ومختلفة. ولكنها تتّحد جميعا في الإقرار ببرّانية النصّ المقروء الذي تتعين استعادة تملكه تأويليا : فغربة النص الأصليةُ، وبرانيته، إنما تمتدان إلى كلّ نصّ آخر. وقصورُ الفهم عن استيفاء مكنون النصّ، بل مراوحتُه – الدّائرية – بين التفصيل والكلّ، دون استيفاءٍ ممكن، إنما تقتضي التّسليم بأنّه لا يكون ثمة فهمٌ إلا متى صار تملكا للنصّ يَخبر ضرورته أعني يَخبر بنيته التي تعطي معناه، وتعطيه - تحديدا - على النّحو الذي تعطيه لا على نحو آخر. إن هذه الغربة التي تتقوم بها علاقتنا بكل خطاب، والتي تجعلنا مؤولين على الدوام، لأننا فاهمون على الدوام، هي التي تتجلي في كوننا من البداية مترجمين لكل ما يفد علينا. لذلك فأننا مؤولون على الدوام يعني أننا مترجمون على الدوام : ذلك ما يعبر عنه فريدريش شلايرماخر رائد التأويلية الحديثة في هذا المقتطف من محاضرة يونيو 1813. وقد نقلناه عن الأصل الألماني: Ueber die verschiedenen Methoden des Uebersetzensالصادر ضمن القسم الثالث، المجلد الثاني من الأعمال الكاملة، برلين، 1838. أن يُنقل خطاب ما من لغة إلى أخرى، فذلك ما يعترضنا ضمن الصيغ الأكثر تعدّدا حيثما كنّا:«يعترضنا» من جهةٍ كلّما أمكن أن يتواصل النّاسُ ممن ربّما باعدت بينهم أقطار الأرض مباعدةً جغرافية، وكلّما أمكن أن تُستوعب في لغةٍ ما منتجاتُ لغة أخرى بادت منذ قرون عدّة، بل قد لا يلزمنا، من جهة أخرى ، أن نتخطّى مجال لغة واحدة حتى نجد نفس الظّاهرة. ذلك أنّه ليس فقط أنّ لهجاتِ الشرائح المختلفة ضمن أمّة واحدة والتطوّرات المختلفةَ للّغة الواحدة أو للّهجة الواحدة على مدى قرون مختلفة هي في المعنى الدّقيق للعبارة لغاتٌ مختلفة، وأنّه لا يندر أن تتطلّب ترجمةً كاملةً، بل إنّ أبناء الزمن الواحد الذين لا تفرّق بينهم اللّهجة، وإنما هم فقط ينتمون إلى طبقات شعبية مختلفة قلّ أن تتعامل في ما بينها، يظلّون متباعدي التكوين، «إنّ أبناء الزمن الواحد هؤلاء» كثيرا ما يتعذّر عليهم أن يفهم بعضهم بعضا إلاّ عبر مثل تلك الوساطة. ألست ترانا في غالب الأحيان مضطرّين إلى أن نترجم لأنفسنا خطاب شخص آخر، هو يشبهنا تماماً، إلا أنّه مختلف عنّا في روحه ومزاجه؟ ذلك أننا متى أحسسنا أنّ نفس الألفاظ قد يكون لها على لساننا معنى آخر، أو على الأقل، مضمون أكثر متانة هنا، وأشدّ ضعفا هناك، منه على لسانه، وأنّنا إذا ما رمنا العبارة عن عين ما قصده هو، استخدمنا، على طريقتنا، ألفاظا وتعابير أخرى تماما: هكذا يبدو أننا فيما نكون نبتغي أن ندقّق لأنفسنا هذا الإحساس مزيدا، وأن نتفكّر فيه، إنما نحن نترجم. بل قد يكون علينا أحيانا، وبعد انقضاء ردح من الزّمن، أن نترجم عين أقوالنا نحن، إذا ما رمنا استعادتها استعادة مؤاتية. ولكنّ هذه الملكة لا تستعمل فقط لغرض أن يستنبت بها على صعيد أجنبي ما أنتجه لسان ما في حقل العلوم وفنون الخطاب، بما يوسّع من دائرة تأثير قُنيات الفكر تلك. وإنما تستعمل أيضا في العلاقات المهنية بين مختلف الشعوب، كما تستعمل في العلاقات الدبلوماسية بين الحكومات المستقلّة، حيث اعتاد كلّ طرف أن لا يخاطب، في غير لغته التي له، الطرف الآخر، إذا ما هو رام التمسك تمسّكا صارما بالمساواة، دونما استخدام لغة ميتة. ولكنّنا، طبعا، لا نريد أن نقحم في اعتباراتنا الرّاهنة كلّ ما يوجد ضمن هذه الدّائرة الواسعة. ذلك أنّ هذه الضّرورة في أن نترجم داخل مخصوص لغتنا ولهجتنا، وهي الضّرورة التي تظلُّ، إن قليلا أو كثيرا، خاطر حاجةٍ حينيةٍ من حاجات النفس، إنما تظلّ في تأثيرها محدودة كالخاطر «العابر» لا يحتاج إلى غير جهة الشّعور. فإذا لم يكن بدّ من أن تعطى في ذلك قواعد، لن تكون غير تلك التي يحفظ الإنسان لنفسه من خلال التزامها استعداداً أخلاقياً خالصاً، يظلّ به ذهنه منفتحاً على الإحساس بأقلّ الأشياء قرابة منّا. فلندعْ ذلك جانباً إذاً، لنبقى في التّرجمات التي من لغة أجنبية إلى لغتنا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©