الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غسان كنفاني واختلاط البدايات والنهايات

غسان كنفاني واختلاط البدايات والنهايات
4 أغسطس 2010 20:33
صنف نقاد الأدب الكاتب والروائي الفلسطيني الراحل غسان كنفاني ضمن دائرة المجددين وعلى أنه ذاكرة إبداعية فلسطينية وعربية ومدرسة أرست حجر الأساس لميلاد النضال الوطني الرافض للاستسلام من خلال الكلمة الرفيعة والمشهدية أو الصورة الفنية العالية. وإذا عدنا إلى إبداعات كنفاني الأدبية وتجاوزناها إلى الفن المسرحي حيث لم تقل موهبته في هذا المجال عن موهبته الأدبية حينما كتب مجموعة من المسرحيات أهمها: “القبعة”، “النبي”، نجد انه بالفعل ذاكرة إبداعية واضحة المعالم ومحددة الأهداف ومستوفية لكل شروطها الأدبية والفكرية والتاريخية، لأنه كان يكتب من جذوره ومن تحت عباءة أهم وأعقد قضية عرفها التاريخ الحديث ألا وهي قضية فلسطين وقضية شعب سرقت أرضه في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع من العالم كله، لكنه تميز في معالجة هذه الصورة من خلال رؤيا متجددة ومتطورة ومفتوحة على زمانها ومكانها الخاصين والمطلقين في آن معا، ولأنها بالفعل اقتحام لذاكرة النسيان العربية وفعل مجابهة وتجاوز ونفي تجابه الذات والواقع الموضوعي والإنساني وتجاوز سلطتها الكتابية إلى سلطة المتلقي لإعادة إنتاج ذاكرتها المبدعة بفعل السلطتين معا. ذاكرة كنفاني واقعية، جذورها ممتدة في الأرض وفضاؤها في الشمس الساكنة في قلوب الناس. فالفن الواقعي فن نضالي يحارب الآراء الخاطئة عن الواقع ويحارب الدوافع التي تتعارض مع المصالح الحقيقية للبشر، من جهة.. ويعزز الآراء الصحيحة ويقوي الدوافع المنتجة من جهة أخرى كما يقول المسرحي الألماني بر تولد بريخت. فحينما كتب كنفاني قصته “الخراف المصلوبة” مثلا، جاء ببطل (بدوي) يقف في شمس الربع الخالي اللاهبة، منتظرا من يعطيه بعض الماء ليروي عطش خرافه.. وتمر قافلة حجيج من أمامه ولكنها ترفض أن تعطيه الماء الذي ينشده، بسبب حاجة السيارات التي تقل الحجيج إلى الماء، وهنا يدهش البدوي ويستعصي عليه الحل ويتساءل: كيف تكون السيارة الجامدة أثمن من حياة الخراف؟ ولقد عاد كنفاني إلى البدوي ذاته في قصته “المجنون” حيث المجنون هو بطل القصة مواجها اعترافه مباشرة بالسبب الذي دفعه إلى الجنون، وهو حين يقترب في ذاكرته من حادثة يكرهها يحاول إن يتصور أنها حدثت مع آخرين وربما مع حيوانات ولكنها لم تحدث معه، ويعلل كنفاني ذلك في أوراقه الخاصة “يوميات 1959 ـ 1962” بأن القلب الإنساني يحمل صفات الإنسان.. مطلق الإنسان في الجنون والضعة والنبل معا، وأن الفرق بين إنسان وآخر هو الفرق بين الكمية التي يحملها من تلك الصفات. نعم لقد استطاع بمهارة عالية من اختراق الواقع من اجل محاورة قضايا محددة في قصصه ليظل إبداعه على خريطة المشروع الحضاري العربي في انكساره الراهن وحلمه المستقبلي في التحرير والحرية والبحث عن العدل الاجتماعي. بين ذاكرة وأخرى ولدت أغنيات كثيرة وتلاشت أخرى وبين الولادة والموت كان صوت غسان.. وما زال له رجع الصدى، من خلال سلسلة رسائله الشهيرة إلى غادة السمان، وهي نمط أدبي معروف وفي إحداها قال: “إن الدنيا عجيبة وكذلك الأقدار، إن يدا وحشية قد خلطت الأشياء والأوراق خلطا رهيبا فجعلت نهايات الأمور بداياتها والبدايات نهايات”. وقد أوضح من خلال تلك الرسائل بأسلوبها المرهف، بأن مسلسل العذاب الفلسطيني لم ينته بعد ورحلة الضياع العربي لم تتوقف عن التيه في الرمال وكأنها صرخة (أبي الخيزران) في روايته “رجال في الشمس”: “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟” ما زالت حبيسة داخل جدران خزان الفراغ العربي القاتل والموحش” إنها روح متوثبة، ونظرة ثاقبة للمستقبل انه نوع خاص من الاستشراف.. وكأن لسان حاله يقول: ما الذي يحل الآن بالوطن العربي؟ فما زال الفلسطيني يعاني داخل وخارج أرضه.. إنه بلا وطن، بل ويتعرض كل يوم إلى سياسة الاغتيالات والقمع والطرد والإذلال على المعابر.. كما اغتيل هو بالأمس القريب.. فسياسة الاغتيالات التي استهدفت قادة فلسطين في مطلع السبعينات من القرن الماضي ما زالت متواصلة مع فاتحة قرن جديد ولكن اشد ضراوة وأكثر عنفا وتطرفا. بعد 38 عاما من تفجير سيارته الصغيرة (في 8 يوليو 1972) ما زلنا نشعر إن دماء غسان كنفاني ما زالت ساخنة دافئة، وان إبداعه ما زال حيا وسيظل مشعا ليس فقط لان هذا الإبداع يحمل قضية إنسانية كبيرة، وجرحا فلسطينيا ملحميا، بل لأن الكاتب هو أحد المجددين الكبار، فلا تقترن القصة القصيرة والرواية في فلسطين فحسب باسمه، بل إنه يصعب علينا رصد تطور (النثر السردي) بمعزل عن قراءة آثار كنفاني التي أبدعها خلال خمسة عشر عاما من حياته القصيرة العريضة الحافلة حيث امتدت إليه يد الجريمة وهو في السادسة والثلاثين من عمره. كتب القاص والناقد الأردني محمود الريماوي حول إبداعات غسان: “إن غسان أبدع آثاره الهامة في عقد الستينات ولم يكن من رافعي لواء الطليعة والتجديد والحداثة كشأن مبدعين آخرين، ولكنه مارس حداثته الخاصة به دون ضجيج أو شعارات نقدية فضفاضة.. وفي وسع قارئه إن يلحظ ذلك التزاوج بين عناصر تبدو تقليدية في فن القص والرواية وبين مرونة هائلة في الأشكال الفنية تجعلها تتفلت من تأطير مسبق أو امتثال لمواصفات تقليدية أو محدثة”.. لقد شكل إبداع غسان قنطرة هامة نحو (تجديد الأشكال) والمقاربات الفنية ولكن دون قطع مفتعل أو مبالغ فيه مع عناصر القص والرواية، ربما للقناعة إن السرد النثري الإبداعي لا ينوء بأشكال قديمة وراسخة أو بموروث (ثقيل) كما هو حال الشعر العربي وعموده. لقد نجح كنفاني في أن يجتذب إلى قراءته طيفا واسعا عريضا من القراء من شتى الميول والاتجاهات دون إن يتوقف أحد من هؤلاء عند تصنيفه في ما إذا كان من طائفة المجددين أو التقليديين، علما بأنه يحتسب في النهاية من كوكبة المجددين من أمثال: يوسف إدريس، زكريا تامر، سميرة عزام، والأخيرة كما نعلم أستاذته في فن القص وهي المجددة الأولى التي هجرت القص التقليدي وانشغلت بموضوعات ذات بعد إنساني، دون أن تغيب القضية الفلسطينية بالكامل عن تراثها الإبداعي. أما إبداع كنفاني في هذا الجانب فنكتشفه في رواية “ما تبقى لكم” والتي قيل يومها انه أفاد فيها من أجواء رواية “الصخب والعنف” لوليم فوكنر (1879 ـ 1962) والحائز على جائزة نوبل العام 1949. لقد كان الراحل صوتا مسموعا وعاليا للشعب الفلسطيني الرافض للاستسلام والباحث عن الحرية والعدالة والخلاص بالكلمة والموروث والحجر والبندقية وبالسلام أيضا وبكل أشكال النضال التي عرفها الإنسان عبر الخليقة، ومن خلال قراءة عاجلة في رواياته يتكشف لنا عبر تلك الروايات الصراع الحاد الذي عاشه شعب فلسطين ضد الاحتلال، وكذلك عمق المأساة وحرارة التشتت، وكان ذلك دافعا له لكي يحدد أهدافه وتغيير مساره وقد تم بفعل الوعي السياسي والاجتماعي لواقع تراكمت تجاربه، الأمر الذي أدى إلى تغيير القيم والى التحول من الوعي الفردي إلى الوعي الجماعي ليتحول نتيجة لذلك (المخيم) إلى حالة نضالية مليئة بالحركة والأحداث، كما تتحول الشخصيات فيه من العجز إلى التفاعل والفعل البناء. وكانت الكلمة عند غسان حرية طارئة في مواجهة الأسر المقيم، ولهذا عمل على أن يتفاعل الشكل الروائي مع كل التحولات التي ذكرناها، فتم رسم ملامح الهوية الفلسطينية وتحديدها من خلال شكل النص الروائي ومضمونه وذلك للتأكيد على وجود الإنسان الذي يحمل تلك الهوية على الرغم من احتلال أرضه واقتلاعه منها بالقوة.. لكن إنسان هذه الأرض عنده باق وثابت ومتمرس بين رائحة البيارات وكروم الزيتون.. انه هنا في خط الواجهة وعلى حد السيف، نبت يتجدد وجرح متأجج، وهو بذلك يشكل صدمة للوعي وحافزا للتغيير الذي لا بد إن يحدث مهما طال الزمن.. وهي كانت الارتكازة التاريخية له لتصوير الصراع العربي الإسرائيلي، فكل شخصيات رواياته تقريبا تسعى وتدور حول فلك هذه المشكلة.. فهو يصور الاعتداءات التي تطال الشعب الفلسطيني، وسبل مواجهتها فأمام شخصياته الروائية خيار واحد هو (خيار الصمود والمواجهة) للوصول إلى الخلاص والتحرير والمعادل الموضوعي للهروب من الذات أي الاستكانة والخضوع لمنطق العدوان. في روايته “رجال في الشمس” تشي مدلولات المعنى العام للنص بإدانة الخيار السلبي، فنرى إن الشخصيات الأساسية وهي (أبو قيس واسعد وحروان) تلقى حتفها في مسارها الهروبي عبر الصحراء إلى الكويت داخل خزان مقفل، وهكذا تنتهي الرواية بهذا الشعور المأزوم، وكان الموت هنا يدل على مسار الهروب وهو مسار يحتمل الموت وتنامي المأزق كما انه يدل على خطأ مواصلة الأحلام في المكان الوهم وليس للحرية من طريق إلا النضال.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©