الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«نهار الظباء».. تشظيات الروح والأسئلة المعلقة

«نهار الظباء».. تشظيات الروح والأسئلة المعلقة
4 أغسطس 2010 20:35
ترصد القاصة الدكتورة فاطمة حمد المزروعي في مجموعتها القصصية الجديدة: “نهار الظباء” الصادرة عن مشروع “قلم” في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث بعض التمظهرات الاجتماعية في معالجة أدبية سوسيولوجية يكاد يكون الهم الاجتماعي او الحراك الاجتماعي بلغة علم الاجتماع هو الناظم الرئيس بين قصصها، والقاسم المشترك الأعظم في نصوصها وسردياتها التي تتوخى عبر فنيات مختلفة تبيان آثار التغير الاجتماعي وانعكاساته على الناس ومسلكياتهم، كما تجسد موقف الكاتبة من الموضوعات والقضايا التي دارت حولها النصوص القصصية. وفي جميع النصوص بلا استثناء يمكن للقارئ ان يقع على رؤية اجتماعية وخطاب نظري يعكسا قدراً غير قليل من الوعي الفكري فيما يتعلق بالمسألة الاجتماعية. والقاصة وهي تغوص في عوالم الناس الواقعية تشكل عوالمها الإبداعية بواسطة أنواع مختلفة من أساليب السرد، مستخدمة في ذلك أضمومة من التقنيات الكتابية الثاوية في المتن القصصي والتي تراوح بين السرد والحوار والاسترجاع والتضمين وغيرها.. في سعي منها لإنجاز قصة تتصل بالحداثة فنياً وتحمل رؤى حداثية سوسيولوجياً تحاول هذه القراءة التقاط بعض ملامحها وتمظهراتها. قصة على قصة في قصصها تكشف القاصة عن البنى الفكرية العميقة الراسخة وذات الامتداد الواسع في وعي المجتمع من دون أن تقع في فخ الواقعية المباشرة؛ بل تختار شخصيات ذات بعد درامي أو إشكالي، وتجتهد في اجتراح تقنيات فنية، وتبذل عناية واضحة بفنيات القص، ففي قصتها الأولى “وجه الشبه”، وهي الأكثر نضجاً وإدهاشاً في تقديري، تبني قصة داخل قصة: قصة حالية ترويها بضمير الأنا، وقصة سابقة كتبتها في الماضي ونشرتها وتعتقد أن لعنتها تطاردها. والقصة في بنيتها التركيبية والدلالية تطرح الكثير من الأسئلة عن التشظي الذي يعيشه المرء في مجتمع بات مغرباً، ممتلئاً بسحنات غريبة وبشر من كل لون جعلت ملامح البطلة مستلبة وسط طغيان ملامحهم. تبدأ قصتها بسرد تلك العلاقة الغريبة والمشاعر المتضاربة والاختلاطات غير المفهومة التي وجدتها تجري في أعماقها حين عرفت أن في الحي امرأة تشبهها الى الحد الذي جعل صديقتها تظنها هي، وبينما نحن في أجواء هذا المتن السردي وفي محاولة لفهم ما يحدث، تنقلنا القاصة/ الساردة الى قصة كتبتها ونشرتها مطلقة بطلة القصة في واقع الحياة وما يجري لها مع الشبيهة التي ظهرت في حياتها فجأة، ثم لتقول لنا إن ما يحدث حقيقي وليس من متعلقات القصة المنشورة. هذا التداخل بين شخصية البطلة/ القاصة التي تؤدي دوراً واحداً سواء في القصة التي كتبتها في الزمن الماضي او القصة التي تسردها حالياً يحمل الكثير من التلاعب الإبداعي الذي يعطي القارئ فسحة لتأويل العمل واكتشاف مضمراته النفسية بالغة الخطورة. فالقصة تغوص في مجريات التبدل المجتمعي ومخاطره الكارثية عبر قصة غرائبية تتكئ على عتمات الذات الداخلية وتصور حالة من الشيزوفرينيا الاجتماعية التي يتداخل فيها الخيالي بالواقعي، ويتغرب المرء فيها عن نفسه بحيث لا يعود يفرق بين الواقع والخيال، بين حقيقته وحقيقة الآخرين التي تتبدى في خاتمة القصة المفاجئة المبنية على اختلاف واحد بين الشخصيتين: شخصية الساردة وشخصية شبيهتها وهو اختلاف يتمثل فقط في لون العينين: “في اليوم التالي، حين سألت الأطفال عن تلك المرأة، لم تكن إجاباتهم واضحة. وبقيت بعدها في حيرة مربكة لتتوالد الأسئلة بلا إجابة، لكني أشعر بوجود تلك الفتاة، غير أن الاسئلة بقيت معلقة من موقف ومن بقية قصة. بعد أيام قال الأطفال لأمهاتهم إن جارتهم تلك لم يعد لون عينيها اسود، وأن حديثها صار بعربية مكسرة”. هذه الخاتمة المفاجئة تنقل النص القصصي الى مستوى دلالي جديد يتعدى الشخصي الى المجتمعي، فليس هناك ما يمنع افتراض ان المقصودة بالسرد او البطلة التي لم يعد لون عينيها اسود هي البلاد التي باتت تستقبل آلاف البشر وتتغير يوماً بعد يوم لغتها وتقاليدها وعاداتها، وكأن الغرباء تمكنوا من إحداث تغيير جوهري تعبر عنه بوضوح “العربية المكسرة” التي كانت أكثر إفرازات العمالة الأجنبية ظهوراً وما تزال. إذن نحن أمام معالجة واعية تمكنت من صوغ هذه المسألة المجتمعية المهمة في شكل فني لافت واستفادت من معطيات علم النفس وحمولاته التي تظلل الشخصية وتعمق حضورها الإبداعي داخل النص بحيث يشعر القارئ في النهاية أنه أمام شخصية متشظية، مستلبة، تائهة، تأكلها الحيرة مما يجري حولها فيما هي تحاول تصوير الذات المهددة من خطر مفاجئ، خطر يعيش الى جانبها وفي حيها منذ سنوات من دون أن تنتبه له، وهذا بالضبط أحد أهم المآخذ التي يأخذها المشتغلون في علم الاجتماع على ظاهرة العمالة الآسيوية في الدولة. سخرية مبطنة وكما تعلق السؤال حول ظاهرة العمالة الأجنبية تفعل فيما يخص ظواهر أخرى: إهمال المبدعين والنظرة الاجتماعية الدونية الى الفنانين لا سيما الغناء كما في قصة “جمعة المغني” الذي لم يجد امرأة تقبل به زوجاً فتزوج ابنة الخادمة الهندية التي باعت بيته وأخذت المال وعادت الى بلادها، فيما ابن عمه الذي ظهر فجأة لم يهتم سوى بالسؤال عن ثمن البيت مهملاً أبناء المغني الذين أخذتهم الأم معها. والحق أن فاطمة حمد المزروعي نجحت في اختيار شخصية درامية من الدرجة الأولى لإعلان إدانتها المبطنة وهجائها المقذع لما يجري من إهمال للموهوبين، فبطلها جمعة أسود، أعمى، منبوذ اجتماعياً، كان مشهوراً ثم بات مهملاً وحيداً لا أنيس له سوى عوده وبعض الأصدقاء، وكلها حيثيات تجعل القارئ يتعاطف مع البطل، ويصل التعاطف أو التلقي الإيجابي ذروته عندما يموت الفنان فتنشر الصحف خبر وفاته في ذيل صفحاتها الفنية. بالطبع، ثمة سؤال إشكالي وكبير عن الطريقة التي تتعامل بها الشرائح المجتمعية مع بعضها البعض، وعن الفوارق الطبقية التي تسود في المجتمع، وبعض القيم السلبية التي ينبغي التحذير منها وإدانتها وكشف هشاشتها وعريها عن المنطق، كذلك ثمة إدانة مبطنة لموقف الإعلام من الفنان المحلي والطريقة التي يجري بها التعاطي من المبدعين، ولسيطرة المادة على النفوس وتراجع الحس الإنساني في العلاقات المجتمعية والمتمثلان في موقف الزوجة وموقف ابن العم الذي كان هامشياً في المتن الإبداعي لم يستحق سوى ثلاثة اسطر لخصت ظهوره المفاجئ وكأن الكاتبة أرادت أن تجعله هامشياً في النص الإبداعي لأنه وأمثاله من الماديين والانتهازيين لا يستحقون حضوراً في النص تماماً كما هو حضورهم في الحياة: هامشي وطفيلي. ثم تأتي الخاتمة المأساوية غير المتوقعة حين تختم القاصة قصتها بسخرية مريرة: “وأما أم جاسم فباعت كل الأبواب والشبابيك والمكيفات وكل شيء يستحق البيع من بيت جمعة، وأما عوده وأشياؤه فباعتها لرجل مهتم بالتراث، لا تتذكر منه إلا اسمه ابو سلمان، وقد كان كريماً معها فاشترى الأغراض بألفي درهم!”. زار وجن وتفرقة وعلى المنوال نفسه تشير القاصة في باقي القصص، ففي الشرخ تصور التناقض بين الأجيال وما يحمله الجيل الحالي من تشظيات نفسية وقلق داخلي، وفي “الصوت الخشن” وقصة “أم صنقور” تصوير محكم في مشهدية سينمائية لافتة لموضوع تلبس الجني بالإنسي وطقوس إخراج الجني من الجسد البشري وإدانة للخرافة والسحر، وفي “ضحكة الديك” إدانة معلنة لاعتماد معايير جنسوية (تحتكم الى الذكورة والأنوثة في الترقية الوظيفية) لا الكفاءة او المؤهلات، وفي “القمر المخطوف” إعلاء لشأن العلم ونقد لاذع لسيطرة نوع من الفهم الغيبي الخاص بظواهر طبيعية عادية لا تحتاج الى طقوس سحرية لفهمها، بل يجيب عنها العلم بكل بساطة، حيث الطفلة تشاهد طقوسا خرافية تتعالى عبرها إيقاعات دق الهون من النساء المحكومات بخوفن ورعبهن اللواتي يحاولن توسل الشمس لتعيد القمر، فتخاف وتعتقد أن القيامة ستقوم غداً، وفي محاولة منها لتسكين خوفها تسأل الطفلة ميرة/ بطلة القصة التي تستظهر عبرها الكاتبة ملمحاً او ذكرى من طفولتها الغاربة عن سر اختفاء القمر فلا تجد من يجيبها، لا الخادمة ولا أمها التي تنهرها بعنف وتقدم لها إجابة غير منطقية: اسكتي يا ميرة، هذا القمر خطفته الغيمة، لأنه مديون. ولأن الإجابة غير مقنعة تطرح الطفلة سؤالها التالي: لماذا لم يدفع القمر ديونه قبل حبسه؟ ويظل السؤال معلقاً الى أن تذهب الى المدرسة فتشرح المعلمة أسباب خسوف القمر. وفي قصة “ميم.. مريم” إعلاء من شأن المرأة القادرة على الكفاح والعمل في كل الظروف لكي تربي أبناءها وتحلم وهي تتعلم القراءة وتتهجى حرف الميم بمحلها المنتظر. ويمكن تتبع تمظهرات الوعي الاجتماعي في القصص كلها لكن المجال لا يتسع لسردها جميعها، بيد أنه من الضروري الإشارة إلى مسألة فنية تتميز بها القصص وهي أنسنة الجمادات وإسباغ السمات الإنسانية والشعورية والفكرية وحتى القدرات الكلامية عليها كما في قصص “الأريكة” و”المشهد” الذي قام فيها السرير بدور السارد وكان بطل القصة التي عرفنا من خلاله تناقضات وتشعبات علاقة رجل وامرأة، علاوة على أن القاصة تعنى عناية خاصة بالمكان، وتسلط عليه عدسة السرد بحيث تحيط بالمشهد العام ثم تدخلنا في الحدث، ما يجعل القارئ يدخل في الخيال ويعيش أحداث القصة كأنها مقاطع من فيلم يجري أمام عينيه. وهكذا تحقق غايتها الأساسية من القصة التي تقوم على تبئير لحظة بعينها أو حدث بعينه ليصبح مدار العمل الإبداعي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©