الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قلب دافئ مثل قلبي

قلب دافئ مثل قلبي
4 أغسطس 2010 20:44
20 يونيو حل فصل الصيف، الجو لا يطاق، كم أكره حرارة الصيف، وشمسه الحارقة، وهي تحرق بشرتي المسكينة، وجسدي المسكين، آه، إنه دوما يزأر كلما حل هذا الصيف الملعون، شعرت ببعض الراحة النفسية التي بدت تتسرب عبر ثقوب قلبي، لن أقضي إجازتي الصيفية في المزرعة، المدينة جميلة، والبيوت متقاربة، وألوانها المختلفة تعجبني، بل تثيرني، وأنا جالسة هنا في بيتي الصيفي وأمام حديقتي المفضلة، أنظر إلى السماء والأشجار، ولكن ليس بنفس النظرة المتفائلة والمحبة للحياة، إنها نظرة امرأة شارفت على الموت والرحيل من هذا العالم.. 21 يونيو الخادمة تنظف غرفتي، أسمع صوت أقدامها وهي تفتح أدراج خزانتي، وربما تعبث بمجوهراتي وترتدي ملابسي لتنظر إلى نفسها في المرآة، إنها فتاة آسيوية ذات ملامح صغيرة، وجسد ضئيل وعينان فيهما الكثير من الغباء، ولابد أنها في مرحلتها هذه، تمارس طقوس المراهقة في غرفتي وبأدوات زينتي، إنني لا أحتاج هذه الأدوات الآن، ولا غدا ولا حتى في المستقبل القريب أو البعيد، أعلم أن الموت سوف يأتي قريبا، وانه أقرب إلى روحي من أي شيء.. أنهض من مكاني، أنظر بإمعان وافتخار إلى منزلي، لقد أعددته مع زوجي بكل عناية، وقمت بترتيب الحديقة، وزرع الورد الحمراء في أماكن مختلفة، والكراسي الخشبية المصنوعة من الخيزران، إنها مكانها رغم مضي وقت طويل عليها، سوف يزحف الموت إليها، سوف يهدد كل البشر على سطح هذه الأرض، تعود إليَ ذكرى الموت، باردة، تصب في أذني، فلا أحتمل وقعها. إنها تنغص عليّ منذ علمتُ بهذا المرض اللعين، بعض الأعشاب في زاوية المنزل تبدو ذابلة، وقد دب الوهن في عروقها، بالفعل لقد أهملت هذه الحديقة في الآونة الأخيرة ولم أعد أهتم بها كعهدي في السابق.. 22 يونيو بعد أيام قليلة سوف أدخل عامي الأربعين، أعرف عوارض هذه السن، لقد انقطعت عني الدورة الشهرية، وبدأت أدخل عالم اليأس، حيث لا أبناء ولا زوج، ولا حبيب يقنعني بأنني امرأة صالحة، وأم مثالية، أن عائلات هذا الحي الراقي كلهم يعرفوني، أتذكر تلك المأدبات الضخمة التي كنتُ أقيمها في منزلي وكانوا يحضرون إليها باستمرار، كنتُ أرى السعادة في عيونهم، إنهم يأتون حتى يتسلون في منزل أرملة سوف تدخل عالمها الأربعيني عما قريب، ولكنهم في الآونة الأخيرة بدأوا يبتعدون عني، هل حقا وصلت إلى مسامعهم أخبار مرضي؟ ربما، لكن من أخبرهم، ربما جاري اللعين الثرثار، ذلك العجوز ذو الرائحة المتعفنة، إنه لم يغسل أسنانه من فترة طويلة، منذ بدأ داء الروماتيزم يهجم بقوة غير طبيعية على جسده، أكاد أجزم أن زوجته البدينة لها دخل كبير بالموضوع، لا أريد الاهتمام بهذه المواضيع التافهة، أو أجعلها تؤثر على أيامي الأخيرة، لابد لي من أقيم لنفسي حفلة كبيرة حتى لا أشعر بألم الموت، وأكون مستعدة له.. لم يتبق الكثير، الأيام تقترب، بقيت أياما معدودات، في السابع والعشرين من يونيو، وفي منتصف الليل، سوف تغادر روحي إلى السماء.. هذا ما قاله الطبيب لي، وهو يفحصني، ويضع السماعة على قلبي الضعيف.. 23 يونيو الأيام تمر بسرعة، عندما كنت لا أزال صغيرة، كنتُ أعد الأيام على أصابع يدي وأتمنى أن تمر بسرعة حتى أكبر، ويكون لي جسد متناسق كالبنات الكبيرات في حارتنا، ونهدين جميلين وصديق أكتب له رسائل الغرام وأبادله النظرات وأنا في الحافلة.. وكانت أمنيتي الوحيدة أن أموت وأنا في سن الأربعين، وكنت كثيرا ما أحدث نفسي بأن الأيام طويلة وأن سن الأربعين لن يأتي بهذه السرعة وأن أمامي وقتا طويلا حتى يأتي هذا اليوم... كيف سوف أستقبل هذا اليوم المرعب؟ إنني أكاد أموت من فرط الخوف، لا ريب أن إحساسي سوف يكون كبيرا ومملوءا بالحزن والألوان القاتمة التي سوف تحيط بي، حينما تدق ساعة الحائط العملاقة معلنة بداية يوم السابع والعشرين من يونيو.. 24 يونيو إنني أتمشى أمام البحر، وأزاول هوايتي التي أحبها، هواية المشي، لا ريب أن العالم كبير، وأكبر من هذا الشاطئ الذي اعتدت على زيارته منذ طفولتي، لقد مضت حياتي الأربعين بسرعة، فلم أحس بطعم الحياة، تذكرت الزهور الذابلة في حديقة منزلي، لابد أن أعتني بها حتى لا أفقدها، بصدق أنا لا أريد أن أفقدها الآن، أعلم أنه لن يعتني بها أحد بعد مماتي، حتى خادمتي المراهقة، لأنها سوف تنشغل بحبيبها الآسيوي ذو العيون المرقطة، ولن تبال بحشائشي الخضراء العزيزة إلى نفسي.. لوهلة أشعر بذاكرتي تقتحمني بغتة، وتداهمني دون أن تترك لي مجالا للتفكير، أتذكر يده الحانية وهي تحيط كتفي بحنان مبهم.. كان يهمس في أذني بأنه يحبني، ويعشق جنوني، ولا تزال عيناه السوداوان، والحب الغامض بينهما يثيراني ويجعلني لا أستطيع نسيانهما بمنتهى البساطة.. 24 يونيو (الساعة السابعة مساء) لم أعد أستطيع الاحتمال، هذا المرض يقتلني، أعلم أن الأعمار بيدي الله، وكثيرون نصحوني بالتقرب إلى الله، وسوف أفعل ذلك بالتأكيد، هاهو الطبيب قادم، لابد وأن الخادمة الملعونة ظنت بأنني قد مت، لابد وأنها تتأمل المجوهرات يوميا، وتمني نفسها بالحصول عليها، نظرت للطبيب بعينين فاغرتين، وهو يملي علي نصائحه، لابد وأن تهتمين بصحتك يا مدام، فأنت لست في عمر الشباب حتى تتناولين الأطعمة المملوئة بالسكر، وأنصحك بالمشي والترفيه عن نفسك، لم أعد أهتم بكلام الأطباء، إنني كثيرا ما أسمعه من أذن، وأخرجه من الأذن الأخرى.. 25 يونيو الوقت يقترب بسرعة، والساعات الأخيرة تعلن عن بداية ظهورها تدريجيا، كم تبقى لي، ثمانية وأربعون دقيقة، 120 ثانية، يومان فقط، وحياتي تنتهي، هل سوف تنتهي بهذه البساطة؟ إنني لم أعد كفني بعد، هل أجعلها جنازة يتحدث عنها الجميع وتكتب عنها الصحافة ويسجلها التلفاز وتتحدث عنها جميع المحطات في العالم، وربما حضرها الوزراء والسفراء والقناصل من العالم. لم أهتم بهذه التفاصيل الدقيقة، سوف يهتم بها محامي، سوف أذهب حالا لأغير هذه الأعشاب الذابلة حتى لا يتحدث أحد من الجيران ويتهمني بأنني عجوز مهملة، لا أراعي الأشجار، رغم إنني اقترحت كثيرا على البلدية أن تسعى بتأسيس جمعية الرفق بالنبات، ولم يهتم أحد بطلبي، لقد طردوني من المكتب واتهموني بالجنون.. يخرج رأسه، إنه يخرج ويناضل حتى يضل حيا، سوف يعيش، أنا متأكدة، صحيح أن الأطباء أكدوا بأنه ضعيف البنية، وهناك الكثير من العيوب الخلقية في جسده، ولكنه سوف يعيش، ووالده هناك خلف الزجاج، يرمقه بنظرة حنان مبهمة، ويداه تحيطان كتفي كالمعتاد، لم يحتمل جسده المسكين، يومان ثم لفظ أنفاسه على صدري، ولم نحتمل العيش معا، ولم أحتمل مجرد فقدانه، لقد كنت أحمله على صدري، وألقمه ثدي، وأشعر بلذة غريبة، في لحظة شعرت بالحياة تدب في عروقه، ورأيت في عينيه نظرة والده المبهمة، وظننت بأن قوة والده قد حلت في جسده، وتمنيت معجزة أن تحدث وألا أفقده.. ولكنني فقدتهما معا، لقد خرج مسرعا وغاضبا ولم ينتبه للسيارة التي اعترضت طريقه بغتة، خسرتهما مرة واحدة، يعود ذهني للأعشاب، لقد بدأت أنظف من تحتهما، وهذه الخادمة المتلصصة لا أتوقع أنها تهتم لصحتي، أنها تحاول اقتناص الفرصة حتى أموت وتأخذ ممتلكاتي لها، وتفر هي وحبيبها وتسافر وتتزوج، أعرف هؤلاء الآسيويات الخبيثات، رغم رائحتهن المعفنة، وذلك الزيت البغيض الذي يضعنه على شعورهن إلا أنهن لهن أساليبهن في اقتناص الرجال... أشعر برأسي مزدحم بالكثير من الأفكار الغريبة اليوم، أتوقع أن هذه هلوسة الموت التي تأتي قبل استسلام الروح ورحيلها إلى بارئها.. ليلة البارحة رأيت ذلك الشاب الوسيم الذي دخل إلى منزل الجيران خلسة من البيت الخلفي، وقد اقتادته الخادمة في سرعة وأدخلته غرفة البنت الكبيرة، دون أن يشعر أحد بذلك، آه هذا المنزل الذي يقولون أن أفراده أتقياء وينصحون الناس بالتقوى والخير، لابد أنني في حياتي رأيت الكثير وسمعت أمورا كثيرة ومحزنة، ولكن لم أهتم بالتفاصيل الدقيقة، إنهم لن يهتمون بي، ولا أتوقع منهم أحدا يحضر جنازتي، وإذا حضروا سوف يتظاهرون بالبكاء علي، والحزن لفقدي لأنني كنت معهم جارة محترمة وطيبة، تتعامل بأسلوب راق.. الساعات الأخيرة تقترب، لقد بقي يوم ونصف، ست وثلاثون ساعة، تسعون دقيقة، والموت يقترب ويدنو مني، أتذكر نبوءة الطبيب، لقد أخبرني بأنني سأموت في هذه الساعة، وفي هذا المكان، ماذا إذا غيرت مكاني، وسافرت إلى مدينة أخرى، هل سوف يتركني الموت أرحل دون أن يؤذيني؟ لا لا أتوقع، إذا أتى الموت إلي لا أتوقع أن يستطيع مخلوق ما مساعدتي، نباتاتي المسكينة بدت تستعيد قواها، لقد رأيتها في هذا الصباح، بدأت في النمو من جديد، وهناك عود أخضر صغير، بدأ يزهر ويكبر وعما قريب، سوف تتغير الحديقة بأكملها وتكبر، بعد أن أغادر هذه الدنيا، لن يحزن أحد على موتي سواها، لأنها لن تجد قلبا دافئا في هذه الحياة مثل قلبي. 26 يونيو أشعر ببصري بدأ يضعف، والوهن يدب تدريجيا في عظامي، أشعر بها هشة، سوف تتحطم تلقائيا دون أن أحمل شيئا، حتى مجرد النهوض من السرير، أصبح شيئا كبيرا، ويتعبني، لا أتذكر أنني فكرت يوما في الانتحار، لست من الذين يفكرون بإنهاء حياتهم بسرعة، صحيح أنني مررت بظروف قاسية جدا، ولكنني لم أفكر يوما أن أنهي حياتي بهذه البساطة، لأنني أعلم بأن لكل أجل كتاب، وأن الإنسان لا ينهي روحه بيده، والروح بيد خالقها، ما أجمل هذه الفلسفة التي على لساني لابد أن سقراط سوف يغار مني، حينما يسمع كلامي، ولغوي وهذياني المستمر قبل ساعات من رحلة الموت البطيئة هذه.. أغمض عيناي، أغمضهما جيدا، لا أريد أن أرى هذه البقع الفضية المعلقة بالسواد، حتى لا يظل عقلي مشغولا بها، لا أريد أن أحلم، أو أرى كوابيس ليلية، أريد لذهني أن يكون صافيا، حتى يكون استقبالي للموت سهلا وبسيطا، لا أريد أن أعقد نفسي كثيرا بهذه التفاتات التي لا تنتهي، ولن تنتهي أبدا.. تنساب الألوان بنعومة، كقوس قزح، ألمسها بأناملي، فأشعر بلزوجة الألوان على أصابعي، فأطلق ضحكة طفولية مثيرة، تذكرني بأيام الصبا، وعشقي للألوان، وقوس قزح أن يحملني بعيدا إلى السماء، وليس إلى الموت.. اليوم يسود تفكير كبير في مخيلتي حتى يكاد أن يستولي عليه، ما هو شعوري لحظة الموت؟ هل سأشعر بتلك البرودة الغريبة التي شعرت بها أثناء موت أمي؟ لقد كانت باردة كالثلج وهي تسقط على صدري، لم تتحدث ولم تنطق ببنت شفة، لقد فتحت عينيها ورفعت أصابعها ونطقت الشهادتين، كنت وقتها معها ولكن أنا من سيكون معي؟ لا أريد أن أشعر بالوحدة، أريد أن يكون أحد معي، أي أحد، لا أريد الموت وحيدة، وفي القبر وحيدة، أريدهم كلهم بجواري أبي وأمي وإخوتي وزوجي وحتى ابنتي الميتة، أخرجوهم جميعا، ولنحتفل بعيد ميلادي الأربعيني والأخير، وسوف نكون معا، سوف نتشارك رحلة الموت معا.. لا أحد، صوت الخادمة يأتي إلي، ويقلقني، يجعلني أفتح عيناي، إنها تتعمد أن تفعل هذا، تريد أن تقضي علي، حتى أموت قبل ميعادي، وتأخذ كل ممتلكاتي، الحقيرة، لابد أن أسجنها، وأكتب عنها في الجرائد، وأمنع هؤلاء الخدم أن يحضروا إلى بلادنا.. 26 يونيو (الساعة الحادية عشرة وخمسة وخمسين دقيقة) َدقائق قليلة وسوف تدق الساعة الكبيرة التي في الصالة معلنة يوم جديد، سوف تنتهي حياتي عند هذه اللحظة، كيف سيأتي الموت إلي؟ هل سوف تتوقف نبضات قلبي؟ أم سوف يمسك بدماغي ويخرج أحشائه في منظر مقزز؟ فليأتي هيا، لقد تعبتُ، منذ شهر وأنا انتظره بفارغ الصبر، فليأتي حتى ينهي حياتي، السأم قد بدأ يدب في أعماقي، جهزت سريري، رتبتُ فراشي، ارتديتُ أجمل ملابسي، مشطت شعري، سكبتُ بعض العطر على صدري، تلك الرائحة التي أعشقها، وضعتُ الشموع بجواري وأشعلتها، حتى أرى توهج النار وانبعاث دخانها أمامي، أعجبني هذا الطقس الذي أقوم به، لقد خفف إحساس الخوف الذي كان قد وصل إلى الذروة في أعماقي.. 27 يونيو (الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل) الساعة اللعينة تدق وبقوة غريبة، أشعر بدقاتها في رأسي، لقد بدأ الثقل في لساني، وبرودة غريبة في أطرافي، ودوار لعين يلفني في قوة، الأرض تميد بي، لابد أنه الموت، لقد بدأ بالفعل ينزع روحي، فتغادر هذه الروح في سلام.. ظللتُ فترة وأنا على هذه الحالة، ثم فجأة فتحت عيناي على جلبة وصرخة قوية، ثم ما لبثت أن خفتت، ماذا حدث؟ هل انتقلت إلى عالم آخر، وهذا عالم الموتى، وهم يصرخون من الألم، السواد يلف عالمي، لا لا إنها الغرفة، تعود معالمها إلي تدريجيا، فأنظر إلى جسدي، وأعود فأنظر إلى الساعة، إنني لا أزال حية، الحمد لله، يبدو أن حياتي لم تنتهي.. 27 يونيو (الساعة الواحدة فجرا) سيارات الشرطة والإسعاف تحوط منزلي، وتحمل جثة الخادمة، أتذكر كيف دخلت إلى غرفتها بعد أن استيقظت من هلوستي لأجدها ميتة وغارقة في الدماء، كانت ممدة في سريرها، وشعرها الأسود يلتف حول عنقها، وجهها شاحب، بارد، ويبدو متألما، لقد نزفت كثيرا، بركة الدماء القانية بجوارها تؤكد هذا الشيء، قمت بالاتصال بالشرطة وأبلغتهم بالأمر، إنهم يحملونها ويتأكدون من البصمات، المجرم لقد سرق نقودها، ولم ينتبه إليّ، وإلا لكنت في عداد الموتى، من الغريب أنني كنت أنتظر الموت في غرفتي، بينما كان يزحف إليها ويستولي على جسدها المراهق، هزتني رعشة باردة ووقفت أتأمل المنظر، ثم انصرفت إلى الخارج، حتى انتهى رجال الشرطة من عملهم وعدت إلى حديقتي أتأمل النباتات الصغيرة التي بدت في النمو.. * قاصة إماراتية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©