الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بارجيل الهوى.. والهواء

بارجيل الهوى.. والهواء
17 مايو 2012
كنت تتكئ على خاصرة عريش، تستدعي الهواء هوى، كنت واقفاً وارفاً بالظل، والضم وفتح الظنون حتى آخر المعرفة بقيمة الأشواق، عندما يحترق القيظ بأنفاس الذين تصهدوا والذين يعبدوا في محاريب الأسئلة واحتمالات الأجوبة المدهشة. كنت الساقي المتلاقي عند نحر وجيد، تهفهف، ترفرف، وتغرف من سماوات الله، عذوبة الندى، وخصوبة الوقت المتأخر، في العتمة المباركة.. كنت تجلب الأحلام، وتجلب الأيام، وتحيي بالسلام على النيام، في الهدأة، وسكون النفس بعد شؤون وشجون، تمارس وعيك الأزلي، لأبد مستبد متبدد، متعدد، متجدد، متوعد، بمراحل ما بعد الفراغ وأزمنة تقطب وتغضب، وتكذب في كثير من الأحيان على إنسان فنان تفنن في تصديق الفقاعات المرتعشة على سطح ماء القشة “والغشة”.. سيّد الوقت كنت سيداً، متوجاً بالحبل والعصا، وما جاد به النخل من خلود “الليف” العظيم، “والكرب” المزاحم للآلئ الأرض والسماء.. كنت واقفاً مرافقاً للخفقات والنبضات، والرعشات والرفرفات، وكنت عن كثب ترقب وتحدب وتشطب من التاريخ أيامه العصبية، وتكتب الكلمات على سطور ملونة بالعرق، والألق وبعض نزق يلذ لك أن يعايشه بفضيلة الوفاء للألف واللام والحاء والباء، ولأجل أن تختبئ العرشان، في مواقد الثلج والنار، والجمرة والبَرَد.. بارجيل للمكان، تراتيل للزمان، وتعويذة تقرب الأنس وتطرد الجان، في هواك، شاعت حكايات وغايات واستبدل القيظ لباسه، بقنديل وثوب فضفاض، شف وما سف، متحشياً بخيوطه الدقيقة على ملمس، وقبس كأنه القديس ساعة التجلي، كأنه الناسك في حضرة اللاوعي، يخصب العقل بالتلاوات، والنجوى، ويغيب في الهوى غضونا، ليعود مشبعاً، متسعاً، مترعاً بنخب وخصب، يعود وعيناه تحصدان مناحي، جسد تمدد وتجرد من نمش الرذيلة، يعود منعماً بهمسات ولمسات وخضَّات ورضَّات، يعود ليجلي عند الكاهل نقمة اللزوجة، إذ يجلد البحر ساحلاً، فيقتصر بالسائل اللئيم.. يعود، والذاكرة تهرول على شطآن وتمضي قدماً مستعيدة إرادة القوة ليعرف الفيلسوف نيتشة أنه لم يخترع في الفلسفة قبل غيره، لأن عند أرض الساحل بمحاذاة السطوة والحاجة القاهرة، صعد البارجيل، بإرادة القوة ليضع زمناً ويخضب المكان بأنفاس، وحراس، ما توانوا عن بسط نفوذ المعرفة لتبقى الحياة نابضة والوجود يسطع ببريق يليق مانعاً ما يحيق. بارجيل الوقت الجميل، ويحني اليوم ظهراً ويقتفي أثر الذين ذهبوا ويسجل ملاحظات عن الذين مروا من هنا، وعن الذين توقفوا للحظة ثم أشاحوا بوجوم، تاركين العريش متهالك الضلوع، والمفاصل تعاني من روماتيزم مزمنة، ولم تزل رابعة العدوية تقول “حبي لله لم يترك مجالاً لي لكره الشيطان”، بل هذا شيء من خذلان، ونهايات تصحر البدايات، وبدايات تسأل الصدمة، كيف لها أن تملي شروطاً في الاختزال ورفض السؤال والوقوف عند حافة المحال، بألف ألف سؤال، والإجابة صفحة بيضاء بألف سوء، ورقعة متوارية في أقصى الذهن، أهيل عليها تراب النسيان، واكتفت العين، بصورة باهتة أشبه بأحفورة عن أسطورة بانت معالمها تحكي مدى قوة الفقدان، وفظاعة الوقوف عند حافة جرف. بارجيل، يتساقط بوابل من تفاصيل منثنياً على سفر طويل، في محيطات ماؤها من ملح ذاكرة، وزبدها جفاء واختفاء واكتواء وانتهاء إلى لا شيء بقدر ما هي الأشياء لا تبدو شيئاً إذا لم يرافقها وعي بقيمتها وأحقيتها بالوجود. بارجيل في زاوية من بيت طيني قديم، محاصر بالوحدة الموحشة، مصفد بنسيان مريع يغني دائماً “يا ليل يا عيني يا ليل”، ولكن ليس العين عيناً، ولا الليل ليلاً، لأن ليل تناءت تنشد الهوى من فاتن باسل، متواصل بعد فاصل في تجاويف الأمكنة المبهرة، الناصعة، ببياض ورياض، وحياض بانت كبارق يماني تلمع بالمتعة الممزوجة، تسطع بالنعمة اللجوجة، تكرع بشغف ولهف، من فناجين السرعة المتناهية. بارجيل.. لك أن تخطو وتخطئ وتخط حروفك على الرمل، ولك أن تكتب وتكسب وتسكب، وتحسب عدد الأيام التي فرت من قفص الاتهام وعدد الأيام التي ما تجاوزت حد النعومة، وعدد الأيام التي فرشت فيها شرشف النعيم على قدٍ ونهد وأبديت الانتعاش بلا امتعاض، وقلت للصغار الذين خربشوا بالمزاج والمذاق، ناموا يا أحباب الله، فناموا فربتَّ على هذا وهدهدت ذاك، ثم أغمضت عينيك على نعيم الله في خلقه، منتشياً ما بين الضلوع بالهوى والهواء. بارجيل ومواويل، وناعسات وناهدات كعب وخصر نحيل وقد جميل وجبين كاللجين، وحومة قيظ تفشي أسراراً وأخباراً، لا بد أن تشظّت لظى وعرقاً وما انسحق من هامات الهوى ساعة التساقي بأحلام بأحلام الخلود والأبد.. بارجيل تداعى شوقاً وتوقاً وأباح عن وجد وكد وسد، ولا بد من أن يكون العارف النازف الغارف في راهن الأشياء والسالف، المتحالف والمتآلف، الكلف التلف، المتلهف الشغوف بعين امرأة حملقت في السقف تحتسي من رضاب الأمل بعوده ميمونة لبعل أو كل، وفيَّ شفى عض يخصب المعنى، ويرطب المفتى. ويحطب في غابة الوعود، ويرعى في العشب والزغب، ويملأ وعاء الحياة بفضيلة الزحام والالتحام والالتئام، والوئام والانسجام، وفي الختام يُقَبِلْ ويسدل ويهطل، وينزل نزول الغيث على أديم متوهج، أفلج أدمج يضج بعجين النشوة المباركة، ورعشة النجوم ساعة تحديق الليل في اللألئة، وساعة تكوين القمر وتكويره في صدر السماء.. بارجيل، وأساطير، ومشاوير، وقوارير يتهشم زجاجها حين يدق الهوى نواقيس النوى، وتحين الرمضاء معشوشبة، بالصهيل، والعويل، كدليل على سقوط التفاحة من علٍ إلى سحيق ويسفر الحريق عن كون يستولد كوناً، وامرأة هيفاء بخلاء تتلو المعوذتين ببلاغة ونبوغ ثم تتكئ على خاصرة التأمل وتستدعي الذاكرة وتستعيد صوراً ومشاهد، والمشهد الأخير أنها أنثى بقيد صياغة العالم، في لحظة الولوج في الكون لحظة اعتلاء قمة الهرم والوقوف على البديع من التصوير وهواء البارجيل يدغدغ ويبلغ مبلغَ الدم من الوريد.. بارجيل، يصمت اليوم يقتفي أثر الغائبين ويطلق السؤال العظيم لك يا إبن الأرض، وسليل التربة والترائب، كيف يسطو الحاضر في غمضة عين على وعد وعهد، ويخطف المهد والسعد، ويغيب يغيب في معمعة مدعمة بالفضول اللامتناهي ليبقى البارجيل سليل المكان والزمان خليل الأرض والإنسان وحيداً في النواحي في المنفى القسري يكتب عن قصته المأساوية ويشجب خطباً أحل فزلزل وخلخل، وجلجل وعلل وملل وأصاب بالكلل، والعلل.. يكتب عن امتحان وامتهان وباستهجان يبوح عن منكرات الهجر والعصيان. نخوة الأفذاذ بارجيل، يخاصره شك في هذا الصك العدواني يساوره فكر وقهر كيف يمكن للعريش، أن يتخلى عن نخوة الأفذاذ الذين شيدوا ونسجوا خيوط الحرير بين عود وعود، وبين جريد وجريد، وكيف يمكنهم أن يناموا بلا هواء طلق ولا حدق يطل على النجمة، فيغزل الفكرة نجمة، والنجمة بعبرة، والعبرة تضحى خيمة والخيمة تكون قيمة والقيمة شيمة الذين عرفوا الحياة بشيمها وقيمها، ونعمة القيم أنها السياج والرتاج، والتاج وهي الحاجز الحائز الناجز، المظفر بالعذوبة. بارجيل، يتساءل بوجد طفولي، أين الذين كانوا هنا؟ أين، الفروض والنوافل، أين القوافل؟ فيا ترى هل احترقت المراحل، وشاب ما شاب وجه الأصايل وحمق الوقت، واستبد وأرعد، وزبد ليبقى الأزل والأبد، حبلاً من مسد، ويبقى الراحلون شيئاً من كمد يشق قميص الود من دبر ولا خبر، والأمر أمر الشاردات في صحر وقت السحر.. بارجيل، وحصا تحصى عدو الذين فروا بعد كر، ونفروا بعد سهر، وتقول للذاهبين، هل تذكر زمن الحرب العالمية الثانية، يوم شحت السماء ويبست الأرض، وما كان سواي حصاة للصير، أكون طعماً في الضرور لتمكين الحياة بأن تملأ صدور الصغار، فينامون ولعلّ غداً يكون الأفضل والأجمل، والأكثر نبلاً. بارجيل.. قصته مع الصبر، حكاية أيوب في اغترابه واستلابه، بارجيل يروي ملحمة أسطورية لمعت على هذه الأرض، وسطع نجمها والإنسان البطل المجلل، بعنفوان الأمل المزنجل بقوة الإرادة المنحاز دوماً لإنسانيته، ولا حياد لديه، في الأخلاق. بارجيل، القدرة المتناهية، الواعية بالغة التماهي ووجود اتسعت آفاقه، وغارت أعماقه صار المتناهي، المتباهي بقديمه وأديمه وسديمه، ومكانه الأبدي التي حاكت ثوب البارجيل، من حبل ونُبلٍ، وبخير السبل أنها كانت تؤدلج الحياة بقوانين الفطرة، المؤطرة، بالموت مقابل موضوعي للحياة.. بارجيل، يقرأ التفاصيل، في قصة الرحيل، ويوم تهرأ الحبل، وانثى الوتد، مودعاً مرحلة لتدخل مرحلة، وفي المتن نقرأ أن الأشياء تبدأ وتذهب، ولكن ما يبقى إلى الأبد ذاكرة غير مثقوبة ولا منهوبة، ولا منكوبة، ولا مقلوبة، ذاكرة تعيد الحياة لعملة صدئة بعد سحتها بأنمل الأمل، وذاكرة لا تأفل ولا تكل ولا تمل، بل ترفل بحرير الانسياب، بلا ريبة أو اقتضاب.. بارجيل من ألف عام، فأنت الألف واللام والحاء والباء، أنت خضرة القلب أنت الوفاء، أنت الجذلان ساعة الهفهفة..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©