الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

روساليا دي كاسترو... أم اللغة الجيليقية

روساليا دي كاسترو... أم اللغة الجيليقية
17 مايو 2012
تولد اللغات تعبيرا عن عادات شعب وممارسته لحياته اليومية، ولتكون علامات تساعد على خلق التفاهم ما بين أفراد وطن ما، أو لتكون أداة من أدوات التفاهم بين أفراد مجتمع واحد أو أفراد ينتمون إلى مجتمعين مختلفين أو مجتمعات متعددة ترتبط فيما بينها بمصالح مشتركة تتطلب الوصول إلى درجة من الوعي والتفاهم، إلا أن هذه اللغات لا يمكن لها الانتشار ما لم يقرر الشعب صاحب اللغة استخدامها والإعلان عنها، واللغة الجيليقية التي تتحدث بها منطقة واسعة من المدن والقرى التي تقع شمال غرب أسبانيا، التي كانت في المخطوطات العربية الخاصة بالحقبة الأندلسية يطلق عليها اسم "جيليقيا"، وبعد سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس وقيام الدولة المسيحية الموحدة تحت قيادة قشتالة، التي ضمت ممالك أراجون وقشتالة وكتالونيا والباسك وجيليقيا واستورياس لتكون الدولة الإسبانية المعاصرة.. في ظل هذه التغيرات السياسية تحولت اللغة الجيليقية لزمن طويل إلى لغة محلية تتداول فقط بين أبناء تلك المنطقة باعتبار أن اللغة القشتالية (الإسبانية الرسمية) التي فرضها ملوك أسبانيا منذ بدء حرب التوحيد التي خاضها الملوك الكاثوليك وانتهت بسقوط غرناطة آخر المعاقل الإسلامية في الأندلس. وبما أن سيادة أي لغة تنبع إما من سيطرة سلطة سياسية أو ثقافية ما فقد ظل أهل جيليقيا يمارسون لغتهم فيما بينهم كوسيلة للتخاطب والتعامل اليومي ويتعاملون مع الإدارة الرسمية بالقشتالية، ومن هنا كان الازدواج اللغوي: لغة التخاطب المحلي والأغاني والممارسات الطقسية في الحياة اليومية، ولغة أخرى للتخاطب مع الإدارة الرسمية وأيضا لغة التخاطب مع باقي أقاليم أسبانيا الأخرى. وفي ظل سيطرة اللغة القشتالية كان الإبداع يخضع لهذه السيطرة نظرا لمحدودية عدد الناطقين باللغة الجيليقية المحلية، وتجاهلها في التعليم والدراسة، فكانت القشتالية لغة الشعر والرواية باعتبارها من الإبداع السامي، فيما ظل الإبداع الشعبي يتعامل مع اللغة الجيليقية المحلية، إلى أن قررت الكاتبة والشاعرة الجيليقة “Rosalia de Castro روساليا دي كاسترو (1837 ـ 1885) أن تكتب إبداعها الشعري والروائي بلغة مسقط رأسها المحلية، متحدية سلطتين قويتين في آن واحد: سلطة اللغة القشتالية لغة الإدارة والإبداع بكل ما تعنيه من انتشار وذيوع يضمن للكاتب شهرة تتخطى حدود منطقتها المحدودة التي يزيد من وقع محدوديتها الأمية التي كانت منتشرة في إقليم جيليقيا، ومتحدية كذلك سلطة الإدارة نفسها التي كانت تعتبر من يكتب باللغة المحلية انفصاليا ومتحديا لوجودها. وإن لم يكن التحدي السياسي هو السبب الرئيسي في أن تكتب روساليا دي كاسترو أعمالها، بل جاء إبداعها باللغة الجيليقية المحلية في إطار بحثها عن شخصيتها المتفردة، أو كما يرى النقاد ان هذا التحدي جاء في إطار تسمية الأسماء بأسمائها والإشارة إليها إبداعا دون خوف، فأصدرت كتابها الأول باللغة الجيليقة عام 1863، “أغاني جيليقية” ومنذ تلك اللحظة حدث التحول الذي كانت تنشده الشاعرة وهو إلقاء حجر في بركة لغتها المحلية الراكدة للتشجيع على ممارسة الإبداع بتلك اللغة بدلا من الكتابة باللغة القشتالية الرسمية. إلا أنه رغم ما اشرنا إليه من انتشار الأمية بتلك اللغة على المستوى المحلي فإن أشعار روساليا دي كاسترو سرعان ما تناقلتها الألسنة، حتى بين أفراد منطقة جيليقيا العاديين الذين شعروا بأن وراء تلك الأبيات الشعرية عظمة خاصة وجمالا لم يعهدوه حتى في أغانيهم الشعبية التي يتغنون بها في احتفالاتهم الطقسية، أو أنهم وجدوا شخصيتهم الثقافية تتمثل في تلك الأشعار، وانتبهوا إلى هذه الكتابات تبرز جماليات لغتهم المحلية التي كانت غائبة عنهم نظرا لتعاملهم مع إبداعهم الشعبي بآلية دون التمعن في معانيها، من خلال أشعار روساليا دي كاسترو انتبهوا إلى أن أغانيهم ليست فقط الإيقاعات التي يمارسون على وقعها رقصاتهم وتدق بها أيديهم تصفيقا لإضفاء مناخ من الاحتفالية على حياتهم. على وقع إشعار روساليا دي كاسترو ولدت اللغة الجيليقية وبدأ أفراد شعب تلك المنطقة في الارتفاع بها إلى مرحلة المطالبة بان تكون لغة الإدارة، إدارتهم المحلية على الأقل، وانشغل المختصون باللغة في البحث عن القواعد التي تحكم كتابتها ووضع قاموسها الخاص، والكلمات المقابلة لهذا القاموس في اللغة القشتالية (الإسبانية الرسمية). بعد كتابها الأول “أغاني جيليقية” الذي كان بحثا عن تفرد الشخصية الخاصة بالمؤلفة وأيضا شخصية الأرض التي تنتمي إليها، جاء كتابها “Follas novas” عام 1880 ليتعمق أكثر في تفكيرها وإطلاق المواجهة مع اللغة القشتالية الرسمية، فقد عبرت فيه عن رفضها للاضطهاد الذي يتعرض له أبناء الأرض التي ولدت عليها من خلال اضطهاد لغتهم وإجبارهم على التعامل بلغة غير لغتهم الأم التي ولدوا بها ونشأوا على التغني بها، فهي لم تتغنى بالحمام والزهور كما تغنى بها شعراء زمانها كما عبرت هي عن نفسها، بل إنها كانت واعية بأن أغانيها مختلفة وأنها تحمل راية نضال شعب اضطهد في لغته. فقد كانت تلك الأشعار نوعا من تقديس اللغة المكتوبة بها، والتي رفعتها من مرحلة “التهميش” إلى مرحلة “السحرية-التراجيدية” كما قال احد النقاد، خاصة في قصيدتها التي تبدأها: “أخشى من شيء واحد أن أعيش دون أن يراني أحد” ثم جاء كتابها “شواطئ الجنوب” عام 1884، ليؤكد على أصالة اللغة الجيليقية من خلال التأكيد على تراجيدية هذه اللغة وحكايات شعبها، فقد كان هذا الكتاب الجامع للروح المعذبة للمؤلفة وشعبها معا، فقد كانت لسان حال شعبها في هذا الكتاب، في اعتقاده ووجوديته المأساوية: “رغم وجود الله لماذا ينتصر الجحيم؟”، وأيضا ليضع الإطار الثقافي المعادل لتقعيد هذه اللغة لتكون لغة الكتابة في الإدارة وليست فقط لغة الحديث العادي بين أفراد الشعب في جيليقيا، ولتنطلق بعدها لتصبح لغة رسمية معترف بها في أسبانيا وتكون واحدة من اللغات الأربع المعترف بها رسميا في الدولة الإسبانية، إلى جوار: الكتالونية والباسكية والقشتالية اللغة الرسمية للدولة، وليتحول بيت “روساليا دي كاسترو” في قريتها الجيليقية “بادرون Padron” إلى متحف ليس لشخصيتها ومتعلقاتها فقط، بل متحفا للغة الجيليقية ومزارا لمن يريد أن يتعرف على تاريخ هذه اللغة المعاصر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©