الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نحن والإغريق..

نحن والإغريق..
17 مايو 2012
هل يوجد اهتمام فعلي وحقيقي في العالم العربي بالعلم؟ وكيف نرى مسيرة الحركة العلمية وتطورها؟ وهل بناء المزيد من الصروح العلمية من مدارس التعليم الابتدائي وصولا إلى التعليم الجامعي يعتبر مثالا على التطور العلمي؟ أم أن الاهتمام بجوهر العلوم نفسها وما تحتويه من معلومات عظيمة تفيد الحضارات والأمم هو القياس؟ ما هي المعضلة التي تعوقنا في العالم العربي بصفة عامة، والخليج بصفة خاصة، لنكون منتجين للابتكار والاختراع والتميز على مستوى العالم بنوعية من الأفكار والمخترعات التي تثري العالم؟ ببساطة لكي تكون لنا بصمتنا في هذا الكوكب. هذه جملة من التساؤلات قد يظن البعض أنها وليدة اللحظة، بينما هي تساؤلات تعاد بين وقت وآخر وفق صيغ مختلفة لكنها تتحد في هدف واحد وهو البحث عن سبب التراجع الفكري العربي حتى مع الثورة المعلوماتية الحديثة، بل أسباب الأمية التي تسود بعض الأوساط في الأمة العربية، وإن كانت باتت مفردة أمية لها وصف أبعد من عدم معرفة القراءة والكتابة إلى ما هو أكبر وهو الجهل باستخدامات التقنية من الحواسيب والأجهزة الذكية وغيرها. معوقات إغريقية بالنظر إلى الماضي نجد أن المؤرخين يسألون نفس هذه الأسئلة عن الحضارة الإغريقية.. تلك الحضارة التي برز منها كثير من الحكماء والفلاسفة كأرسطو وأفلاطون وأقليدس وارشميدس، بل إن الإغريق يُعدون أول من فكر تفكيراً علمياً منطقياً، فقد تحدثوا وكتبوا عن الرياضيات والهندسة والعلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء وتطرقوا للطب والجوانب العقلية والنفسية.. لكنهم جمعوا كل هذه العلوم تحت مظلة واحدة وهي الفلسفة. بعد ذلك أتى العلماء العرب وقسموا العلوم فجعلوا للرياضيات علمها الخاص، وكذلك الفيزياء، والطب، وعلوم النفس، والكيمياء، كلها علوم منفصلة ومستقلة عن الأخرى.. ما يثير تساؤلات المؤرخين حول الحضارة الإغريقية هو أنه رغم تاريخهم الحافل بالعلوم وإنجازاتهم في حقول المنطق والفلسفة نجد أن لديهم سجلا ضعيفا في الاختراعات.. فالابتكارات المسجلة باسم الإغريق قليلة جداً، وهذا الفقر الإنتاجي ينافي ويناقض الحصيلة العلمية لديهم.. يرجع علماء الاجتماع السبب وراء ذلك إلى البيئة الاجتماعية التي كانت تسيطر على الفكر في ذلك الوقت، حيث إن نظام العبودية كان سائداً لدى الإغريق.. وبالتالي كانت كل الأعمال اليدوية والإنتاجية من زراعة وحرث وتنظيف وطبخ وغيرها أعمال لا يقوم بها سوى العبيد.. وكان هذا النظام طبيعياً وسائداً، حتى أن الفلاسفة والحكماء لم ينقدوه أو يعتبروه إجراماً بحق الإنسانية.. لذلك لم يكن هناك داعٍ لابتكار آلات توفر الجهد والعمل طالما أن الخدم من العبيد يقومون بكل شيء!!. إذا صحت مقارنة حالنا اليوم مع الحضارة الإغريقية سنجد بعض التشابه، فنحن لا نعتمد على أنفسنا في الصناعة والزراعة والتجارة وغيرها من القطاعات، بل نستقدم كثيرا من الأيدي العاملة، ونستورد كل ما يتعلق بحياتنا اليومية كالأجهزة والأدوات المنزلية والأثاث وحتى الأطعمة.. أبناؤنا يكبرون وينشأون جيلاً بعد جيل ويتأقلمون مع هذا الوضع الذي يظهر فيه مدى عجزنا واتكاليتنا وبالتالي نجد أننا عقولٌ تعايشت على أن يقدم لها كل ما تحتاجه دون أن تكلف نفسها العناء والتعب، عقولٌ معتمدةٌ كلياً على ما يتم ابتكاره.. فلا تنتج بل تستهلك أكثر فأكثر.. لذلك ثقافة الإبداع والاختراع إن لم تكن معدومة لدينا فهي ضعيفة. وللأسف الشديد فإن قصة الإغريق ومدى اتكاليتهم بطريقة أو أخرى، تتكرر لدينا بشكل قد يكون أسوأ. ..ومعوقات عربية عموماً أعتقد أن هناك عوامل أخرى تتسبب بتأخرنا في مجال العلوم والاختراعات. البعض عند محاولة قراءة تفسير هذه الحالة يطيب له أن يتبنى الرأي الذي يتحدث عن أن سيطرة الماضي على العقلية العربية هي المسؤولة عن هذا التراجع الخطير. وهو يقصد أن العقلية العربية تنظر للماضي أكثر من المستقبل، وهي تشتغل على تراثها الفكري وتعيد إنتاجه أكثر من علوم العصر الحديث، وأنها تخصص جامعات برمتها لهذه الغاية. لكن هل فعلا العقلية التي تفكر وتشتغل بالماضي مسؤولة عن التراجع العربي؟ يقول الدكتور محمد عبدالله الترهوني، في كتابه “العقلية العربية بين ماضوية التأسيس وحداثة البناء”: “إن علاقتنا بالماضي إذا لم تكن إعادة تحليل وتركيب فإنها تكون علاقة توجيه وتصويب، هي إعادة تحليل وتركيب للمستقبل على أساس الماضي. هذا هو التاريخ تسجيل للواقع الذي يصبح ماضيا وتسجيل لهذا الماضي، كي يكون مرجعية عملية للحضارات والشعوب في طريق سيرها نحو المستقبل ولكي يتم هذا التفاعل بين الماضي والحاضر والمستقبل لابد من خطوط اتصال واستمرارية في خط سير ذلك الماضي حتى يرتبط بالواقع ومن هذا الارتباط يستطيع التأثير في الحاضر وتوجيهه”. ويظل السؤال الذي لا مجال للإجابة عليه في هذه المساحة: هل هذا الارتباط تم وفق الذهنية المتطلعة للمستقبل حتى يكون لها التأثير في الحاضر إيجابيا؟ لأنه قد يقال إن المشكلة الحقيقية أن لدينا من ينظر للتاريخ بتقديس، وتجريم حتى لمحاولة التحليل أو تفسير بعض المواقف والأحداث. عموما هناك فئة أخرى تختلف وترجع التعثر العربي في مضمار العلوم والتطور الحضاري من الاختراع والابتكار، إلى الأنظمة العربية نفسها التي تحرم المواطن من حقوقه الإنسانية وتعيق تطلعاته وحريته، كما أنها تضع قيودا على المشاريع العلمية الخاصة، بل أنها ترفض التفكير والإبداع وتحاربه. يظهر من خلال هذه الرؤية عموميتها التي لا تسمح لها بالنظر لكل بلد عربي على حدة، حيث تتميز بعض البلدان باستقرار سياسي وتطور معرفي وترابط اجتماعي وحركة ثقافية وعلمية ملحوظة، ففي بعض البلاد العربية إنجازات في مجالات العلوم الطبية على وجه الخصوص، وفي وطن آخر إنجازات عملاقة في مجال السياحة وصناعة السفر والترفيه، وفي وطن آخر إنجازات رياضية على مستوى العالم خاصة في استضافتها لأحداث رياضية عالمية قادمة، وبطبيعة الحال هناك أوطان يسود فيها الفقر والجريمة والتدهور الاقتصادي وغيرها من سلبيات السياسات الخاطئة في مجال التنمية. وهناك فئة ـ ثالثة ـ تفسر هذا الوضع وترجعه إلى حداثة تأسيس الأوطان العربية وحداثة تجربتها، وأن عمرها الحالي يعد قصيرا إذا قيس بأعمار الدول الاوروبية نفسها التي كانت قبل مائة عام فقط تدور في أرجائها معارك ضارية وخصومات واختلافات بين الشعوب، ومع ثورتها الصناعية وانتشار الديمقراطية هبت رياح التغيير على القارة العجوز، فباتت اكثر تسامحا لكنها أكثر حركة وتطورا ومنها انطلقت عجلة الحضارة الحديثة الحالية. الفيلسوف باتريك راسل، في كتابه “أثر العلم في المجتمع”، قال: “يعود وجود البشر إلى نحو مليون سنة، وتعود معرفتهم بالكتابة إلى نحو ستة الآف سنة، بينما تعود معرفتهم بالزراعة لحقبة أقدم قليلا، أما العلم فقد تواجد كعامل مهيمن في تقرير معتقدات المثقفين من البشر منذ نحو 300 سنة في حين أنه أصبح مصدرا للتقنية الاقتصادية من 150 عاما فقط”. إذن الحركة العلمية في العالم برمتها حديثة إذا قيست بعمر الأمم والشعوب والحضارات، ومن هذه الجزئية تكتسب الرؤية الثالثة بعض الوجاهة والتفهم، وإن كانت تظل معضلة عدم فهم أسباب عدم الانطلاق من النقطة التي وصل إليها الآخرون، بمعنى ما العائق أن نستمد ممن سبقنا في مجال العلوم والمخترعات خبراتهم وعلومهم والبناء عليها والانطلاق منها لرحاب العلم والمعرفة. أيضا يجب ألا نحاول أن نتجاهل أن العقلية الماضوية، في الذهنية العربية حاضرة وبقوة، وأن لها أثرا سلبيا حقيقيا في تطور الأنظمة السياسية والثقافية والاجتماعية، وبالتالي في تعثر كثير من مشاريع الإصلاح في مجالات حيوية كالقضاء والمجتمع والتعليم. almazrui1@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©