الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تحرير عقل طال سكوته عن نفسه

تحرير عقل طال سكوته عن نفسه
17 مايو 2012
"الساحة الثقافية العربية التي يتكون فيها العقل العربي غريبة حقا، إن القضايا التي تُطرح فيها للاستهلاك و(النقاش) غير معاصرة لنا: إنها إما قضايا فكر الماضي تُجتر اجترارا من اولئك الذين يعيشون مغتربين بعقولهم في الماضي محكومين بكل سلطاته، وإما قضايا فكر الغرب تُجتر هي الأخرى اجترارا بعد أن قُطعت من جذورها وأُخرجت من ديارها وأصبحت مشردة..". محمد عابد الجابري ـ بنية العقل العربي المشروع التحليلي النقدي للعقل العربي بتكوينه وبنيته وتجلياته في الفكر السياسي الذي اشتغل عليه المفكر الراحل محمد عابد الجابري، مازال يحظى بالجدل والمساءلة حتى بعد زمن طويل من نشر مفرداته في مؤلفاته الغزيرة التي بدأت بسؤال: نحن والتراث، ولم تنته بتفكيك العقل العربي ونقده، وكشف البنى المهيمنة في عملية تشكله، والسلطات التي خضع لها أثناء تكوينه منذ عصر التدوين. وهذا المنهج التحليلي النقدي يعلن عنه في وصفه لعمله بأنه “دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية” وهو العنوان الجانبي لأهم كتاب في سلسلة نقد العقل العربي بأجزائها كلها أعني (بنية العقل العربي) حيث تلتم العناصر وتتبادل الادوار لتشغيل النظم المعرفية الفاعلة في تجليات العقل العربي ومحدداته أيضا. ويرى الجابري أن هذا المنهج يلائم المقاربة التي تخضع لطبيعة المادة التي تعامل معها كما يقول في توصيف لاحق للكتاب، ضمن مقالة عن نظام القيم في الثقافة العربية ـ مجلة “فكر ونقد” التي كان يرأس تحريرها ـ فهي “مادة منظمة مبنية تتعلق بقطاعات معرفية ألفت فيها كتب تتعامل مع مادتها بوصفها علما، أي جملة من المعارف تشكل معمارا مما يجعل عملية النقد والتفكيك ممكنة”. تفكيك العقل لكن النية الحقيقية لاستخدام المنهج التحليلي النقدي هي “استئناف النظر في تاريخ الثقافة العربية” كما يقول الجابري في موضع آخر، هو مدخل كتابه “بنية العقل العربي” وهو الجزء الثاني من السلسلة التي أتمها بمراجعة العقل الأخلاقي العربي بعد أن درس العقل السياسي، وتكوين العقل العربي، وبنيته. وأعتقد أن هذا الوصف الاخير حول استئناف النظر في (تاريخ) الثقافة العربية أكثر ملاءمة وانطباقا على فكر الجابري ومشروعه المجسد له عبر مؤلفاته، فالمعالجة التاريخية أشد حضورا من سواها من إجرءات الجابري وآلياته في تفكيك العقل العربي ونقده. ونلاحظ أولا استخدام العقل هنا بمعنى الفكر وليس للثقافة رغم حضورها في العناوين، وعند الإفصاح عن المشروع ووصفه. وذلك أدى إلى غياب الثقافة العربية بالمعنى الشامل لها، المحتوي للممارسة والتفكير الشعبيين من برنامج المشروع التحليلي النقدي، وكذلك تم إضمار أو تهميش (تاريخ) تلك الثقافة لانصراف الجابري إلى مراجعة وتصنيف الثقافة الرسمية التي تشمل ما جرى إقراره سواء أكان تقليديا يخضع للاجترار والمتابعة للسائد، أو الخارج على النسقية والمغير للمحصلة المستخلصة من السابق. وهذا اكثر الاعتراضات أهمية في نقد (نقد) الجابري للعقل العربي عبر مكونات تاريخية فاعلة في الثقافة، لكنها ليست الثقافة بتوسيع معناها كما هو متعارف عليه اليوم وإنما هي الجانب المكون لواحد من مظاهر الثقافة المهيمنة أو المعارضة لها، بهدف الاستبدال أو التعديل. وليس اقتراح النماذج بديلا للفكر الرسمي الا عملية انتقاء واجتزاء من التراث الفلسفي ـ والكلامي تحديدا ـ فيرد نموذج ابن رشد الذي يخرجه الجابري من النسقية التقليدية ويطيل في شرح أفكاره وتأويلها. والاعتراض الثاني هو افتقاد التعيين الواضح للمقصود بالعقل الذي يجري نقده. وهل هو حقا ـ كما جاء في خاتمة الكتاب لا في عتباته الأولية ـ “جملة المبادئ والقواعد التي تقدمها الثقافة العربية الإسلامية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة..”، وكذلك توضيح المقصود بثنائية الوصف (عربية/ إسلامية) ومدى الترابط بين العنصرين الذي ستكون له نتائج أخرى في التحليل، وإضافات أحيانا لمبررات الجانب النقدي في مشروع الجابري، وأعني تحديدا موضوع الهوية المناسبة لهذه الثقافة التي لا بد أن تتغير، لا بدءاً بعصر التدوين فحسب كما يفترض الجابري، بل بالممارسة الثقافية العربية السابقة والمتجلية في كمّ هائل من المرويات الشفاهية مثل الأشعار والأمثال والخطابة والحكم والأساطير، وكذلك في المعتقدات والطقوس بجانب التشكل الاجتماعي القبلي وتجسداته في الحياة وأثره في الثقافة التي ستحضر عند فحص تحول الثقافة المعدلة بوصفها (العربية الإسلامية)، وتحليل الثقافة بازدواجيتها هذه تعطي للمحلل فرصة الوقوف عند التبدلات الفاعلة في جوهر النظم المعرفية المكونة لبنيتها. ولكن حصر الثقافة بالعقل أدى إلى حذف تلك الحقبة المعرفية من الإجراءين النظري والتحليلي، وأهمل تاريخها الذي سنرى ظلاله في الثقافة لفترة طويلة، نمثل لها مثلا باستخدام الخطابة أداة للدولة، والإعلان عن خططها وتحذير أعدائها، كما كانت عند القبيلة وسيلة لتعيين هويتها وحوارها مع الآخر، وكذلك ستغيب عناصر مهمة من البرنامج المكون للثقافة العربية الإسلامية ومفردات كالمرأة والموقف من وجودها، والآخر وقبوله ورفضه، ما سيؤثر في بنية الثقافة حتى بعد قرون من التدوين الذي يؤرخ به الجابري، وهو ما سيرد في قضية الشعوبية في العصر العباسي، وانقسام المجتمع إلى عرب الإسلام وعرب الشعوب الأخرى. وهي مسألة ثقافية مهمة ستتبلور في رؤية الآخر المسلم غير العربي، تماما كما كانت القبيلة تنظر للأجنبي. الوسيلة والهدف ربما ستوصف قراءتنا بالأدبية عبر النقد لمشروع الجابري، باعتبار أن منهجه فكري، وهذا اختراق آخر وخذلان للتوسيع العملي المقترح في الدراسات الاجتماعية للثقافة ومفاهيمها التي لا تتجسد فقط في مدونات الفقه والفلسفة أو التاريخ، بل بالممارسة الحياتية المختلفة والتعبير عنها بالبيان، لكن ذلك سيجري إغفاله بسبب انهماك الجابري في استقصاء معرفي تاريخي، وانصرافه إلى مؤلفات فلسفية أو كلامية منقسمة ـ كما يبين الجابري نفسه ـ إلى فئة يتقدمها الغزالي وأخرى ابن رشد. وإذا كانت الغاية هي كشف النظم المعرفية للثقافة العربية، والهدف هو نقدها عبر تفكيكها فليس طريق العودة لجذورالثقافة هي الوسيلة أو الطريق الوحيد أو الأمثل للوصول إلى بنيتها وتكوينها، بل العكس تماما. فالتفكيك الآني أي في اللحظة الزمنية الحاضرة يعيننا على فهم الرس او الجذر المعرفي المتعاقب للثقافة، وليس استقدام المؤلفات القديمة لفحص بنية الثقافة العربية الراهنة. ولكن القراءة المتأملة لمشروع الجابري تقنعنا بأن ما قدمه من تاريخ للثقافة كان مناسبة لإعلان موقفه من قضية تحرير العقل العربي، رغم ما سيبهرنا من تضافر خيوط هذه الشبكة المعرفية للجابري التي تتسم بالعمق والدراية، وهو موقف سينحاز لواحد من طرفي المعادلة القائمة في الساحة الثقافية وهي: التراث أو الغرب، ما ادى إلى تفتت الذات بين غربة يسببها نداء العودة إلى التراث، واخرى يخلقها الاقتراض من الغرب، ولكل منهما عيوبه، فالتراثيون يحيون الماضي كتلة واحدة ويجترون قضاياه اجترارا وذلك لا يناسب تبدلات الحاضر، فهم مغتربون بعقولهم في الماضي كما يقول ـ ولنلاحظ هنا استخدام العقل بالمعنى العام لا المخصص في الخطاب الفلسفي أو المعرفي ـ وهؤلاء خاضعون لسلطات الماضي الخفية والظاهرة، أما الخاضعون لمرجعية الغرب فهم يقتلعون النظرية والافكار من منبتها ويشردونها، لتعيش (لقيطة) في واقعنا رغم أن بعضها ينتمي الى تراث الغرب وليس الى حاضره، بينما يرفض هؤلاء تراث ثقافتهم فيعيشون غربة لا تقل خطرا عن غربة الماضويين الخاضعين لسلطته. والمقترح الذي يعمل عليه الجابري ـ وتلك مفارقة يكتشفها التلقي ـ هو العودة المشروطة إلى التراث بعد أن تبين وجود تيارين متعارضين في تاريخه الثقافي، وهذه مصادرة واضحة لان الحل لا يكون باختيار هذا او ذاك: التراث او الغرب، بينما اعترض الجابري نفسه على عدم قيام الفلسفة العربية الإسلامية؛ بقراءة تاريخها الخاص، كما فعلت الفلسفة في الثقافة الغربية، وكانت تقدم قراءات للفلسفة اليونانية. فكيف سنجد في التراث مبتغانا وثقافته بهذا الوضع؟ ورؤية الجابري للحل يظهره قوله في بنية العقل العربي: “لا سبيل إلى التجديد والتحديث في العقل العربي إلا من داخل التراث نفسه”. ويبدو أن هذا هو حال أغلب الاجتهادات الفلسفية والثقافية العربية حتى في نظرية الأدب؛ فهي تبدأ حداثية تستعير من الغرب، لتنقلب تراثية تستنجد بالماضي وتحاول تكييفه ليلائم الحاضر. ولم يبق من معنى وفق خطاب الجابري لأي حل خارج التراث، أي تغليب مرجعيته لتهيمن رغم التركيز على النقاط المضيئة فيه كابن رشد وابن سينا واجتهادات أخرى فصّل فيها. والمفارقة الأهم في مشروع الجابري هو اعتبار ما قدمه مجرد “تمهيد للنظر في كيان العقل العربي وآليته” وهذا ما يجعل انصراف الدراسة للمدونات القديمة ـ رغم انها مجردة وتتناول الوجود وقضاياه ـ تصويتا للحل بالتراث فيتيح رؤية طرف واحد من المعادلة، ويغفل ما اكتسبته الثقافة من الغرب في النواحي المادية والروحية. لكن الجابري كما يرى تراثا آخر غير الذي أدان تقليديته، يرى أن الحداثيين على طريقة الغرب لم يروا حقيقته، وتعرفوا على ظاهره لا خفاياه. فالغرب يتناقض في حرية مواطنيه وعبودية الآخر، ولكننا نسأل لماذا كانت افكار الفلاسفة العرب والمسلمين مقبولة وهم يعيشون تدهورا سياسيا وعسفا وغيابا للعدل في كثير من دولهم مشرقا ومغربا، ولا تقبل اجتهادات مفكري الغرب الذين لا يطابقون رؤى دولهم كأنظمة ويفكرون بعيدا عن سياساتها وأفكارها؟ وإذا كان العقل العربي قد طال سكوته عن نفسه كما يقول الجابري، فهل يفلح التراث وحده في إنطاقه؟ ربما كان مناسبا جواب زميل مغربي سئل عن الجابري في مؤتمر علمي في الثمانينيات، بأنه مشغول باستخراج عظم يعترض جريان الدم للعقل العربي، ويبدو ان استخراجه شاق لا يتم باستعارة مشرط ابن سينا او قراءات ابن رشد كما توحي الدراسات العميقة والمميزة بتكاملها وموسوعيتها في فكر الجابري وأعماله على السواء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©